النجاح الرديء

 

challenge

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هناك فكرة تدور حولها كثير من الأفلام السينمائية الأمريكية خاصة وهي فكرة (الإصرار) أو (التحدي لبلوغ هدفٍ ما)، ويبدأ الفيلم عادة بأن يكون البطل في وضع لايرغبه، ويأمل بمستقبل أفضل يحقق فيه ماتشتهيه نفسه، وتبدو جميع الظروف معاكسة له، وكل الأشخاص من حوله يقفون في وجهه، ثم يصل الفيلم لـ (العقدة) وهي الوضع الذي يُقارب فيه اليأس، وتستمر الأحداث لتنفرج العقدة عن نهاية سعيدة وهي أن يتحقق حلمه ويقتنع الجميع بمشروعية هدفه لأنه (أصرّ) على بلوغه و (تحدّى) الجميع وفارق القطيع، وآمن بـ (شَغَفه) وشق طريقا صعبا فيتوج في نهاية الفيلم بطلا جبارا.

يُعرَض الفيلم بإخراج احترافي يجعلك تؤمن بشغف هذا البطل من أول لحظة وتؤيده في السعي له: تتوتر عندما تصادفه الصعوبات، وتنفرج أساريرك عندما يُوفّق، ويبدو لك الأشخاص الذين يعارضونه وكأنهم مجموعة من الحمقى والبُلهاء.

ماهو الشيء الذي يسعى له هذا البطل؟ لايهم، يظل المشاهد متحمسا دون أن يسائل نفسه عن مشروعية هذا الحلم الذي يُناضل البطل لأجله، فقد يناضل البطل من أجل مكافحة الجهل مثلا، أو من أجل فتح متجر لتزيين القطط، أو من أجل الهروب مع حبيبته أو مناصرة حقوق الشواذّ أو أي أمر آخر، قد يكون هذا الهدف ساميا أو سخيفا أو ضارّا، الفكرة الأساسية هي الإيمان بشغف ما، وتحدي الجميع لأجله والانتصار في النهاية، ولايملك المشاهد إلا التعاطف مع هذا البطل، والإعجاب برحلة النجاح دون تمحيص الغاية منها بعرضها على قناعات المشاهد ومرجعيته الفكرية.

ليست لدي مشكلة مع فكرة الإصرار من أجل بلوغ هدف ما، بل يكاد يكون هذا الأمر أحد أهم أساسيات النجاح، وقراءة سِيَر العظماء وصبرهم من أشد مايحفّز الهمم، بل إن أحد أسباب إيراد قَصص الأنبياء وصبرهم وماواجهوه من مصاعب: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتصبيره على مايلاقيه في سبيل الدعوة، وتصبير أمّته كذلك، مشكلتي مع الفكرة المذكورة أعلاه هي أنه يتم تناولها على أنها قيمة بحد ذاتها، وإغفال أمرين هامين:

1- مدى مشروعية الهدف الذي تسعى من أجله

2- تأثير الإصرار على هذا الهدف على توازن حياتك

 لايمكنني التعاطف -بمرجعيتي الفكرية الإسلامية- مع شخص يفعل المستحيل من أجل مناصرة حقوق الشواذ، أو مع هاوية للرقص تحدّت أهلها ومجتمعها لتبلغ ذروة النجاح في الرقص الاستعراضي، أو مع بطل كمال أجسام يتناول المواد الضارّة لينفخ عضلاته ويستعرض جسده في مسرح أمام لجنة تحكيم.

ولن أُعجب أيضا برجل أو امرأة بلغ ذروة النجاح في ريادة الأعمال أو العلم، لكن ذلك على حساب أسرته أو مبادئه، فلابد من التركيز على غاية النجاح ومدى أهميته قبل الانبهار بمسألة التحدي والإصرار والشغف، لأن من السنن التي أودعها الله هذا الكون أن من سعى لأمر وبذل جميع أسبابه فإنه غالبا يوفق له في الدنيا ولكن الجزاء الحقيقي في الآخرة، فأعظم اللصوص في العالم وأكبر رجالات المافيا لم يصلوا لما وصلوا إليه إلا بالعزيمة والإصرار والبذل، لكن ماقيمة هذا في ظل خِسّة الغاية؟

الطرح الإعلامي المعاصر يريدك أن تُعجب بفكرة النجاح الشخصي فحسب، فنحن في عالم فرداني، يعيش الفرد فيه ليسعد نفسه ويثبت ذاته، ونحن في عالم التعددية الفكرية أيضا، فجميع الأفكار مقبولة وتستحق أن يُناضل المرء من أجلها مادام مقتنعا بها، ووجود هذه الفكرة في الإعلام الغربي أمر عادي لأن الإعلام ينتج من ثقافة المجتمع ويُروّج لقيَمه، لكن تسويقها لدينا أمر دخيل، لأننا مسلمون نؤمن بمرجعية الشرع أولا، نعرض أهدافنا على الشرع فلا نسعى لها لمجرد رغبة ذاتية، وندرك أن الفرد جزء من الأسرة والمجتمع فلا يمكن التنصّل من المسؤوليات الاجتماعية والأسرية لمجرد الشغف.

بدأت ألاحظ مؤخرا تزايدا مطّردا لهذه الفكرة في الإعلانات التي تظهر لي أثناء تشغيل مقاطع اليوتيوب، وفي الطرح الإعلامي بشكل عام، ويوجّه هذا الطرح للمرأة السعودية على وجه الخصوص باعتبارها كائنا مسجونا ينبغي تحريره من ربقة المجتمع الظالم، وينبغي تشجيع الرائدات المتحديات المصرّات الشغوفات الناجحات المكافحات…. وتقديمهن بصورة ( البطل الناجح ) و (القدوة المثلى) للنساء والبنات، في هذه الإعلانات تقدم (المرأة السعودية الناجحة) بصفات محددة منها:

1- تمتلك غاية تود بلوغها، وهذه الغاية تتصادم مع قيم المجتمع: الرغبة في التمثيل، دخول الأولمبياد، عرض الأزياء…الخ، وتشعر بالفخر لريادتها في هذا الأمر

2- تمتلك العزيمة والإصرار والتحدي وتعرف مسبقًا أن طريقها شاق ولكنها مستعدة لقبول المخاطرة.

3- يظهر في التصوير ثقتها العالية بنفسها، ونظرة التصميم في عينيها.

 الأم المربّية، والمعلمة الناجحة، والطبيبة المخلصة، وأستاذة الجامعة المثقفة، والكاتبة المبدعة، وسيدة الأعمال المحافِظة، كلها نماذج نجاح يتجاوزها هذا النوع من الطرح ولاتبدو مغرية له لأنها تقليدية، فهي لاتصادم قيم المجتمع ولا تملك الإثارة المطلوبة، إذ يبدو أمرًا مملا وباهتا أن تعرض قصة نجاح أستاذة جامعية يدعو لها والداها بالتوفيق ويشد مجتمعها من أزرها لتنفع هذا المجتمع وتسهم في بنائه، بعكس الممثلة وعارضة الأزياء، وما ستواجهه من تزمّت المجتمع (المنغلق!).

في هذا السياق، تخطط إحدى القنوات لعرض مسلسل يحكي قصة نجاح (ملاكِمة) سعودية، وتبدو قصة المسلسل كله مفضوحة من إعلان لم يتجاوز الدقيقتين: فتاة تجد شغفها في الملاكمة، تعارضها أسرتها والمجتمع، تصرّ على بلوغ الهدف وتؤمن بشغفها، تنجح في النهاية و … خلصت الحدوتة، ولا أعرف ماهو الحوار الذي سيدور خلال ثلاثين حلقة بين الممثلين ليكرر فكرة سينمائية مُستهلكة، وحبكة معروفة سلفا تبدو قصة ليلى والذئب أكثر تشويقا منها.

إحدى مشهورات (سنابشات) التي لايخرج محتوى ماتقدمه عن التفاهة المستفزة، حكت مرة لمتابعاتها قصة نجاحها وكفاحها من أجل الوصول لما وصلت إليه من شهرة، وتحديها لكل من يحبطها ويقف في طريقها، ثم طلبت في النهاية منهن أن يستفدن من تجربتها في الإصرار والصبر والكفاح لبلوغ أحلامهن، أنا لا أقول إن هذه المشهورة تخطط لإفساد المجتمع، فهي شخص أبسط من هذا، لكنها تشرّبت فكرة النجاح الرديء وأصبحت تُسوّق لها تلقائيا وبصدق وبلاهة.

هذه النوعية الرديئة والضارة من الأحلام والطموحات يتم عرضها على الناشئة اليوم بأساليب جذابة تسهم في تشكيل عقولهم بطريقة سيئة، عبّرت إحدى الصغيرات عنها عندما سُئلت: ما الذي تطمحين لتحقيقه عندما تكبرين؟ فأجابت بلاتردد: “أبي أصير مشهورة!” بأي أمر ستشتهرين ياصغيرتي؟ وما الذي ستدفعينه ثمنًا لشهرتك؟ لايهم، وليس ببعيد عن القاريء احتفاء وسائل الإعلام الغربية بالفتاة الهاربة التي أعلنت إلحادها بوصفها: تحدّت مجتمعها وأصرّت على عَيش الحياة التي تريدها!

النجاح فكرة مغرية، ورؤية نماذج حية للناجحين من أعظم مايؤجج الهمم ويذكي الطموحات، ولكن هذا الأمر ينبغي أن يوزن بميزانين هامّين أعيد ذكرهما للأهمية:

1- مشروعية الهدف وتوافقه مع الشرع

2- ألا تتم التضحية بأولويات أهم من هذا الهدف لأجل بلوغه

إن مناقشة هذا الأمر مع النشء وتطبيقاته في وسائل الإعلام واجب تربوي، ليكون لديهم تصوّر صحيح لمبدأ النجاح الدنيوي المرتبط بفلاح الآخرة، والذي يحقق فيه الفرد ذاته وينهض بمجتمعه في آنٍ معًا، النجاح الذي لايتطلب بالضرورة شهرة ولاتحديا بقدر مايتطلب تزكية مستمرة للنفس وأداء لاختبار الحياة كما ينبغي، إن إهمال تصحيح هذا التصور في ظل الزخم الإعلامي المروّج للنجاح الرديء، قد يُظهر من مجتمعنا وبناتنا راقصات يرددن أن (الفن رسالة) ويظهرن في وسائل الإعلام ليحكين قصص النجاح والكفاح الملهمة في هذا !!

 

نُشرت بواسطة

ليلى العصيلي

معلمة لغة انجليزية، طالبة دكتوراه في أصول التربية، قارئة وأهوى الكتابة، أقترف شيئا من الترجمة، أطمح أن أسهم في تغيير المشهد التربوي والتعليمي للأفضل

10 رأي حول “النجاح الرديء”

  1. جميل جدّا،
    أذكر أنّ هناك طالبة مثقفة ، تسعى أن تنمي نفسها في كل يوم، سُئلت في إحدى المرات عمّا ترمي له من خلال مثابرتها هاته في التعلم والركض المستمر وما تريد أن تكون به؟ قالت: مشهورة، وشهرتي عندي لا تزيد أن أكون ربّة بيت سعيدة مسعدة!
    ربما كانت اجابتها بسيطة للكثرين، ولا تستحق كل هذا البذل؛ ولكن لستُ أراه إلا أنّ نضجها قد بلغ ذروة هائلة حتى تجيب بمثل هذا الوعي وتفسّر معنى الشهرة الحقيقة.
    وصدق كرد علي -رحمه الله- إذ يقول: وللشهرة أسباب قد تخطئ أعظم مستحق لها.
    *سعيدة أني حظيت بقراءة هاته المقالة، دمت سالمة.

    إعجاب

      1. ربما، الشهرة لم تكن يوما غاية المسلم، بل ورد مدح المغمور المدفوع بالأبواب مادامت مكانته عند ربه عالية، ولكن تضخيم أمر الشهرة حاليا وربط النجاح بها جعلها تختار هذا اللفظ

        إعجاب

  2. ليتهم، وليتهن ينظرون إلى من هو مغمور في الأرض مشهور في السماء
    ” رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره”

    إعجاب

  3. المؤسف أن الشهرة ارتبطت في هذا العصر بجني الأموال الطائلة دون بذل جهد عن طريق ما تجنيه الشركات التجارية من دعاية هؤلاء المشهورين.. وهذا ما يجعل عملية فك الارتباط بين النجاح والشهرة في عقول النشء أمرا صعبا!
    الله المستعان

    إعجاب

  4. (النجاح الذي لايتطلب بالضرورة شهرة ولاتحديا بقدر مايتطلب تزكية مستمرة للنفس وأداء لاختبار الحياة كما ينبغي، إن إهمال تصحيح هذا التصور في ظل الزخم الإعلامي المروّج للنجاح الرديء، قد يُظهر من مجتمعنا وبناتنا راقصات يرددن أن (الفن رسالة) ويظهرن في وسائل الإعلام ليحكين قصص النجاح والكفاح الملهمة في هذا !!)

    رائعة أستاذة ليلى أعجبني المقال أوافقك في كل كلمة كتبتها

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s