على الرغم من كون المدوّنات أقدم وسائل التواصل الاجتماعي على الانترنت وأقلها شيوعا بين الناس، إلا أنها الأحبّ لقلبي، أشعر أن المدونة كالبيت تماما، أكتب فيها المقالات وأرتبها وأصنفها، أستقبل تعليقات الزوار، أجد لحروفي ملاذا آمنا ورحبًا بعيدا عن الزحام، جربت أكثر من منصة تدوين، وفي كل منها مميزات وعيوب، ولعل ووردبرس الآن تكون مقرًّا لي بعد أصبح استخدامها أسهل.
ألِفت الكتابة منذ عمر مبكر، وعلاقتي بها لاتشبه علاقتي بأي شيء آخر، لا أعلم كيف ستكون حياتي لو أزلت منها ( الكتابة )، لطالما كان قلمي صديقي الوفي، ولساني المعبّر، وأثَري الباقي، أنا لا أكتب ليفهم الناس ما أريد قوله فحسب، أنا أكتب لأفهم نفسي أولا، لأرتب أفكاري، وليخرج الضجيج داخل رأسي إلى العالم فأهدأ، ويتسع المكان لضجيج آخر ولأفكار أخرى، الكتابة سجل يوثق ماكنا نفكر فيه ونعتقده في يوم من الأيام، حين أعود لكتاباتي السابقة قبل عدة سنوات أفهم أفكاري حينها، يصبح مادوّنته بمثابة الصورة الفوتوغرافية التي يلتقطها أحدهم للذكرى، وتزداد قيمتها المعنوية في نفسه مع السنوات، إنه يرى فيها نفسه في الماضي بجلاء شديد غير متكيء على ذاكرة قد تخونه وتشوه الصورة الحقيقية، أنا حين أكتب أفهم نفسي الآن، وأجعل لأفكاري صدى عند الآخرين، وتكون كتابتي بمثابة صورة أضمها لألبوم حياتي، كيف سيحدث هذا كله لو لم أكتب وأدون؟
إن من الإحسان العظيم لأي إنسان أن تعلمه هاتين المهارتين: ( القراءة والكتابة) تعلّمه أن يقرأ ويفك شِفرات العالم من حوله، ثم يكتب ليُصدر شفرته الخاصة، أنت تُحسِن له لأنك تجعل له فكرًا يفهم به العالم من خلال القراءة، وتجعل له منبرا يساهم من خلاله في إعادة تشكيل الواقع عبر الكتابة، القراءة والكتابة أمران معنويان، إن من يكتب لايصنع سيارة ولايبني ناطحة سحاب، ولكنه يُشكّل العقول ويغيّر في الأنفس، وهذا الجانب الثقافي أشد أثرا في الأمم والحضارات من الجانب الحضاري المادي، تستطيع أي أمة العيش بصورة بدائية مادامت تملك فكرا وعقيدة، ولكنها تنهار من الداخل إن كانت متطورة في البنيان وضعيفة في الجانب المعنوي.
سأنقل لهذه المدونة مقالاتي القديمة، وسأشير لتاريخ نشرها الأصلي أسفل كل مقال، ثم سأشرع في إضافة المقالات الجديدة وتصنيفها لفئات: تربوي، فكري، تأملات منوعة، ترجمة، كتب، آمل حقا أن يجد القارئ في هذه المدوّنة ما ينفعه ويرتقي لذوقه، كما أرحّب أشد الترحيب بالتعليقات والملاحظات.
شاركت جهات اتصالي في حالة الواتس اليوم تغريدة لمغردة اسمها أمجاد نصها: ” قالت جدتي يوما مواسية ابنتها: خلي الوجع ياخذ مداه، أخذت الجملة مكانا بداخلي لأيام، واقتنعت أن كل ألم زائل إذا ما أخذ وقته، فلا تكتسحه بأسلحة المتفائلين وأهل الطاقة، سيأخذ مداه ويرحل تاركا خلفه مناعة أقوى كما في حالة خالتي “
فأعقب ذلك نقاش بيني وبين قريبة حبيبة إلى قلبي حول هذا المعنى، مما أجبرني على التأمل فيه أكثر، معنى أن نفسح المجال لأنفسنا ولمن حولنا بإطلاق مشاعر الحزن في المواقف المحزنة، وأن ذلك لا يتعارض مع الصبر والتجلد، حيث يسارع الكثيرون عند المصائب -صغيرها وكبيرها- للتذكير فورا بمعاني الصبر والتجلد وتهوين شأن المصيبة على صاحبها، مما يشكل ضغطا نفسيا يصادر رغبته الطبيعية في إظهار الحزن والرغبة في التعاطف.
نعم نحتاج معاني الصبر والتجلد والرضى واستحضار أن الخيرة فيما اختاره الله، لكن هذا لا يعني أن ننكر الفطرة البشرية في الشعور بالحزن، دعوا الحزن يأخذ مجراه في النفس، ويمر بدورته الطبيعية ليتعافى الإنسان، الحزن مثل الجرح الجسدي، لو لم نسمح له بفرصة التماثل للشفاء، فلن يندمل أبدا، إنكاره سيحوله لالتهاب مزمن لا يبرأ.
مهارة التعاطف مهارة نحتاج أن ننميها في أنفسنا، وهي مرتبطة بمهارة حسن الإنصات، حين ترى أخاك، قريبك، صديقك، ابنك حزينا، فأظهر تعاطفك أولا، وأجّل النصائح لوقت لاحق، حتى لو كنت ترى الأمر لا يستحق من وجهة نظرك، هو يستحق من ناحيته، وأنت تهتم لأمره، دع الحزن يأخذ مجراه، وهذا الإنصات والتفهم له أثر كبير في تعميق العلاقات.
في حادثة الإفك، دخلت امرأة من الأنصار على أمنا عائشة رضي الله عنها، فبكت معها دون أن تزيد على ذلك، لم تقل: تجلّدي، ما الذي يبكيك والأمر برمّته كذب، أنت بريئة، ولن يتركك الله، لا، بكت معها، فقالت عائشة رضي الله عنها: “لا أنساها لها”، لم تنسها لها لأنها شاركتها الحزن، وتعاطفت معها، ولم تنكر حقها في الشعور بالحزن والبكاء لهذه الحادثة.
لا تعارض مطلقا بين التعاطف، والنصح بالصبر، ولا تعارض بين الصبر والشعور بالحزن والتعبير عن ذلك، المنهي عنه هو التجزع أما الحزن فشعور طبيعي، دعوه يأخذ مجراه.
جربت وجرب غيري ممن يدرس أو يعمل ويُطلب منه تسليم بحث ما أو أداء اختبار، أن يتقاعس في بداية العمل ويتفنن في التفاصيل غير الهامة ويشعر أن معه الكثير من الوقت، وما إن يمضي الوقت وتأتي ساعة الصفر حتى يشعر بأهمية الساعة والدقيقة والثانية، ويغدو ذهنه حادّ التركيز، مرتبا للأولويات، سريع الفهم والحفظ، يترك كل المشتتات ويركز في المهمة المطلوبة فقط.
تمنيت دوما أن أمتلك حدة التركيز هذه منذ البداية، فقررت أن أخادع نفسي أحيانا، وأوهمها بأن الوقت أقصر مما هو عليه حقيقة، وأن أطلب من نفسي تسليم المهمة في وقت أحدده سلفا مهما كان الأمر، ونجحت هذه الخدعة كثيرا في حفظ الوقت (لكن ليس دائما).
هنا قاعدة سمعتها قديما هي أن “العمل يتمدد بحسب الوقت المخصص له” فإذا قلت: سأقرأ هذا الكتاب في شهر أنجزته في شهر أو أكثر، وإن قلت سأقرؤه في أسبوع فعلت ذلك أو تجاوزته بقليل، ولو واجهت اختبارا مصيريا يفرض عليك قراءته في يوم لأمكنك ذلك.
حقيقة نحن نهدر الكثير من الوقت، وأنا لا أطلب من نفسي ومنكم أن نتحول لآلات أو نرهق أنفسنا، لكن أن نحدد وقتا لإنجاز المهام، ونركز في هذا الوقت، التركيز مهارة عزيزة جدا في عالم الشتات الرقمي.
نعود لمبدأ الحديث وهو أن الإنسان يظن أن معه الكثير من الوقت، فيضيعه، فإذا اقترب موعد الإنجاز صار يجري كالأرنب مستثمرا كل دقيقة وثانية، متحسرا على ساعات أضاعها من قبل، هذه الفكرة حين أتأملها تخيفني حقيقة، لأنها تذكرني باختبار الحياة الذي سوّفنا فيه كثيرا، فإذا عاين أحدنا حقيقة الموت لاحت له ساعات عمره المهدرة وتمنى لو مدّ الله في عمره يوما واحدا يعمل فيه ما ينفعه، اللهم اجعل أوقاتنا في رضاك، وارزقنا حسن الختام.
مرت سنة وثمانية أشهر تقريبا منذ أن كتبت آخر تدوينة هنا، واليوم أعود مع تحدي التدوين العربي بكتابة عشر مقالات في عشرة أيام متتابعة عن فكرة تمر في يومك فتلتقطها لتتأملها، حسنا، الفكرة التي مرت بي اليوم هي فكرة العلاقة بين العطاء والاتكالية، بمعنى هل الشخص المعطاء ينمّي الاتكالية لدى الآخرين؟
مع قناعتي الشديدة بأهمية العطاء ونشر ثقافته في المجتمع، وحث الدين عليه، إلا أنني أحيانا أرى أنواعا من العطاء في غير محلها، أو لنقل ضررها على المعطي والآخذ أكبر من نفعها، وتظهر عند العطاء الذي يقوم به الإنسان بدور الشخص الآخر دون حاجة، ويستمر على ذلك حتى يعتاد الآخِذ الأمر ولا يفكر كيف يقوم بالأمر بنفسه، مما يعيق نموه ويربي فيه حس الاتكالية والاعتماد على المعطي.
لعل المثال يوضح المقال: الأم التي تعتاد الطبخ لأسرتها دوما والقيام بكل أعباء المنزل لوحدها قد تبدو معطاءة، لكن هذا النوع من العطاء يحرم بناتها من تعلم مهارات كثيرة في عمل المنزل، ومن فرص البر وتحمل المسؤولية، وكذلك الأب الذي يكبر أبناؤه وهو لم يفوّض بعض مهامه لهم، ثم يكبرون ولم يتحملوا مسؤوليات الرجال.
من أمثلة العطاء الذي يربي الشعور بالاتكالية أن يرسل لك شخص طالبا خدمة يستطيع القيام بها بنفسه بسهولة بالغة فتقوم بها بدلا عنه، من العطاء الجيد عندي أن أدل شخصا على محل، لكنني لن أبحث له عن موقع المحل وهو يستطيع الحصول عليه بمجرد كتابة اسمه في google.
الأمر نفسه يصدق على المعلم الذي يلخص لطلابه المقرر، فهو يذاكره نيابة عنهم، ويفهمه ويلخصه، مع أن هذه عمليات عقلية عظيمة تمثل لب دور الطالب، فالتلخيص أحد أهم طرق التعلم، والمطلوب منه هو مساعدتهم على التعلم، وليس التعلم نيابة عنهم، وقد يوصف هذا المعلم بالمعطاء لأنه يبذل جهدا ويريح طلابه، لكن أثر التعلم لن يبقى طويلا في أذهانهم.
المثل الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو “لا تعطني سمكة، علمني كيف أصطاد”، والذي أقترحه تزامنا مع العالم المعرفي اليوم هو: “دعني أتذوق السمكة وأحبها، وسأتعلم أنا كيف أصطاد”، قد يكون إيقاد الرغبة بتحمل المسؤولية نوعا من العطاء غفلنا عنه كثيرا.
حب الجمال والتجمل أمر فطري عند كل البشر، ويكتسب أهمية عند المرأة خاصة، كل أنثى تحب أن تكون في أبهى صورة، راقب بنتا صغيرة حين تتأمل جمالها الرباني، وتتثنّى بفستانها أمام المرآة جذلى، حين تعبث بأدوات زينة الكبيرات، حين تنتشي فرحا بأظافرها المطلية وتحاذر لمسها قبل أن تجف، حين تستجيب أمها لضغوطها المتكررة فتغمر شفاهها بلون ما، ثم تقتنص الصغيرة هذه الفرصة النادرة لتعيش كأميرة ولو لبضع لحظات!
الجمال أمر حيّر الفلاسفة في تعريفه ومحاولة إخضاعه للمنطق، وسلَب لُبَّ الشعراء حتى تفننوا في وصف محبوبة متخيّلة، أو حقيقية ألبسها الحب رداء جمال خلدته اللغة بعد فناء الجسد، فانبعث في صورة تتجدد مع خيال كل قارئ، هذا الجمال أسر الرسامين حتى حاولوا إبقاء شيء من أثره لمن بعدهم عبر لوحاتهم، فن البورتريه من عصر النهضة الأوروبية يحكي قصص الجميلات آنذاك.
هل يمكن تعريف الجمال؟ تميل نفسي إلى القول بأنه كل مايستحسنه الذوق، حسّا أو وجدانا، فقد يستحسن البصر وردة جميلة، ويستحسن الشم رائحة جميلة، وكذلك قد يستحسن الوجدان قصيدة جميلة أو معنى جميلا، والأذواق تتباين في اعتبار شيء ما جميلا أو سلب صفة الجمال منه، لكن الذوق يتأثر بالبيئة الخارجية وليس نابعا من داخل المرء فقط، فنحن اليوم نستقبح ما استحسناه بالأمس لاعتبارات قد تتعلق بتغير مانتلقاه من الخارج فيبدل أذواقنا.
أما العولمة، فهي جعل الشيء عالميا، ويورد قاموس المعاني (هنا) هذا التعريف لها:
“حرِّيَّة انتقال المعلومات وتدفُّق رءوس الأموال والسِّلع والتِّكنولوجيا والأفكار والمنتجات الإعلاميّة والثَّقافيّة والبشر أنفسهم بين جميع المجتمعات الإنسانيّة حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد أو قرية واحدة صغيرة ترفع الشركات العملاقة شعار العولمة لتستطيع التَّوغُّل داخل جميع الدُّول بلا قيد”
وهذه العولمة شيء نعيشه اليوم، فماكدونالدز مطعم عالمي، وستار بكس مقهى عالمي، وديور أو زارا ماركات عالمية، وتويتر تطبيق عالمي، وهكذا، يرتبط الإعلام والاقتصاد برباط وثيق بين جميع أنحاء العالم، وهذا بالضرورة ينقل معه الأفكار، فأفكار الناس في المجتمعات المختلفة تتجه للتشابه، فمن كان يصدق يوما أن تنتشر أفكار الإلحاد والشذوذ والنسوية بين عامة المسلمين؟ إن العولمة تخدم الثقافة الأقوى، وهي حاليا الثقافة الغربية وتحديدا الأمريكية.
تعني عولمة الجمال توحيد معنى الجمال ومعاييره لتتوافق مع الذوق الغربي المعاصر، فما استحسنه الغرب يستحسنه الجميع، وما استقبحه الغرب يستقبحه الجميع، وهذا أمر لايتم بالفرض والإكراه، بل بالإقناع عبر وسائل الإعلام والتسويق المختلفة، واستخدام أسلوب الصور والمؤثرات الحسية و التكرار حتى يقتنع المرء بفكرة ما، والأهم أنه يظن أنه اختارها بشكل عقلاني ونقدي، وأنها شيء يخصه ولم يُفرض عليه.
قبل زمن الانفتاح الإعلامي الذي سوَّد النموذج الغربي، كان لكل حضارة مقاييسها الخاصة بالجمال، فالعرب مثلا تغنّوا طويلا بالمرأة الممتلئة، ووصفوها بـ (خرساء الأساور) ! أي أن أساورها لاتصدر صوتا فهي لاتتحرك بسبب امتلاء الذراع 🙂 أما اليوم، فمع الانفتاح العولمي، أضحت معايير الجمال واحدة تقريبا، وسأستعرضها في السطور القادمة بحول الله، ولكن ينبغي استعراض تاريخ الجمال في الحضارة الغربية -ولو بصورة مختصرة- قبل مناقشة النموذج الغربي المعاصر للجمال، لأن فهم الماضي يعين على فهم الحاضر، ومن السذاجة النظر إلى اللحظة الحاضرة دون التمعّن في التحولات التي أوصلتها لما هي عليه.
تاريخ الجمال في الحضارة الغربية:
الحضارة الغربية قديمة، ويمكن البدء من تاريخ اليونان والرومان، حيث يذكر جيل ليبوفستكي أن هاتين الحضارتين احتفتا بالجمال الذكوري أكثر من الأنثوي، وأن الجسد الرجالي الجميل كان رشيقا بارز العضلات، ولم يغب الاحتفاء بالجمال الأنثوي الذي ركزت التماثيل فيه على الجسد المتوسط البنية وتسريحات الشعر الرومانية، أما في العصور الوسطى فقد أصبحت النظرة لجمال المرأة مرتبطة بمكانة المرأة نفسها، فالدين المسيحي آنذاك يجعل المرأة بشكل عام رمزا للخطيئة، أما المرأة الجميلة خاصة فهي فخ الشيطان، فلم يكن يُنظَر لجمالها إلا بارتباطه بالخطيئة، وتذكر خبيرة التجميل Lisa Eldridge في تأريخها لفن التزين والماكياج أن المرأة في العصور الوسطى كانت تجعل وجهها شاحبا دلالة على الطهر والتربية الفاضلة .
النقطة الفاصلة دوما في قراءة الفكر الغربي هي عصر النهضة، و هو الذي تلا سقوط الأندلس مباشرة، أي في القرن الرابع عشر الميلادي، وبدأ من عاصمة النهضة الأوروبية: إيطاليا، فقد حاولت أوروبا استلهام الحضارة الغربية القديمة، والاستفادة من الحضارة الإسلامية، وتخلصت من كثير من موروث القرون الوسطى، فأصبح ينظر لجمال المرأة نظرة مغايرة، فهذا الجمال نعمة ربانية تتجلى فيها قدرة الله، ولم يكن الدين قد ابتعد تماما عن الحياة في أوروبا آنذاك، بل تم تحييده بطريقة أقرب للصوفية بحسب مايذكر جيل ليبوفستكي، فأصبح تأمل جمال المرأة نوعا من التواصل الروحي مع المقدس، وبرز تقدير الجمال الأنثوي من خلال ازدهار فن البورتريه آنذاك، والذي خلّد وجوه جميلات الطبقة الأرستقراطية، ولعل لوحة الموناليزا أبرز مثال على ذلك.
الموناليزا، للإيطالي ليوناردو دافنتشي، 1503 م
كان الاحتفاء بالجمال، والتجمل، مقتصرا على الطبقة الأرستقراطية آنذاك، والمتمثلة بزوجات الملوك والنبلاء، كما حاولت نساء الطبقة الوسطى تقليد نساء الطبقة الراقية، وقد كان الاهتمام مقتصرا على الجزء الأعلى من الجسد، فجمال تقاسيم الوجه، وتورّد البشرة، ونظرة العينين، كان لها النصيب الأكبر من الاحتفاء، سواء من قبل الرسامين أو الأدباء أو المجتمع ككل، ويلحق بها جمال اليدين الناعمتين، أما الجزء السفلي من الجسد فلم يكن يُحتفى به؛ فهو مستتر تحت طيات الملابس المنتفخة، كما كان التجمل أيضا مقتصرا على الجزء الأعلى من الجسد، فقد ظهرت المساحيق البدائية لتبييض الوجه وتوريد الخدود، ولم تكن المساحيق تلقى قبولا اجتماعيا، باعتبارها نوعًا من الزيف والخداع، أما الملابس المنتفخة فقد كانت ضيقة جدا في منطقة الخصر، مما روّج تجارة المشدات التي تخفي الشحوم المترهلة وتظهر الخصر نحيلا، وظل هذا الحال مستقرا إلى نهايات القرن التاسع عشر، و قد توسع جورج فيغاريلو في سرد تاريخ الجمال منذ عصر النهضة إلى نهايات القرن العشرين في كتاب (تاريخ الجمال)، وتبين الصورتان التاليتان ملابس النساء في بدايات عصر النهضة (الرسم الملون)، ونهايات القرن التاسع عشر (الصورة بالأبيض والأسود)، حيث بقيت ملابس النساء دون تغييير جذري على مدى أربعة قرون، ويمكن للقارئ استنتاج الميل لتخفيف انتفاخ الفستان مع السنوات، وتقصير الأكمام.
بدايات عصر النهضة
نهايات القرن 19
القرن العشرون: ثقافة الصورة ومجتمع الاستهلاك:
تشير خبيرة التجميل Lisa Eldrige في كتابها الذي أرّخت فيه لفن التجميل (Face Paint: The Story of Makeup ) في فصل (وسائل الإعلام وإثارة الدوافع) إلى أمر مهم هو أن انتشار ثقافة الصورة أحدث ثورة في عالم التجميل، ففي الماضي، لم تكن النساء تتصور من الجمال إلا ما تعاينه وجها لوجه، أو ما تراه من أيقونات في دور العبادة لم تمثل صورا حقيقية، أما مع انتشار الصور المطبوعة والمرئية، فقد حدثت نقلة نوعية في إثارة دوافع أي امرأة عادية لتصبح مثل النساء الحقيقيات المبهرات اللواتي تراهن في السينما والتلفزيون والمجلات.
إن ليزا هنا، تشير لأهم تحول جلبه القرن العشرون في عالم الجمال والتجميل، وهو جعله أمرا ديمقراطيا، أي مَشَاعًا بين كافة النساء بعد أن كان مقتصرا على الطبقة الأرستقراطية، فقد كانت نساء الطبقة العليا يتباهين بجمالهن وملابسهن وزينتهن دون أن تعلم بقية النساء شيئا عن هذا العالم المخملي القابع وراء أسوار القصور الشاهقة، أما بعد انتشار وسائل الإعلام، فقد أصبحت جميع النساء تطمح لأن تكون مثل نجمات السينما أو جميلات أغلفة المجلات.
ولعلي أوجز التغييرات التي حدثت في القرن العشرين في النقاط التالية:
موضة الملابس وتأثيرها على الأجساد:
ظلت الملابس منذ عصر النهضة تدور في فلك الفستان المتكلف، الضيق من الأعلى، والمنفوخ من الأسفل، وبهذا بقيت المرأة الغربية لقرون لا تهتم بقضية السمنة والنحافة، فالجزء الأعلى من الجسد مرتب بالمشد الذي يعتصره ليظهر الخصر نحيلا، أما الجزء الأسفل فقد كان مخفيا تحت طيات أمتار القماش المنتفخة، فلا داعي للاهتمام به، إلا أن تصميم الملابس بدأ يتغير منذ أواخر القرن التاسع عشر، فقد قلّ انتفاخ الملابس، مما أبرز الجزء الأسفل من الجسد، و تبين التصاميم في الصورة القادمة ذلك.
واتجهت الملابس مع صعود سنوات القرن العشرين، لتصبح أكثر ضيقا وعريا، وكشفا لأجزاء الجسد، مما جعل الاحتماء بالمشدات وسيلة غير كافية للظهور بمظهر مثالي، فبرزت ثقافة الحمية الغذائية والرياضة كأحد أهم التغييرات في ثقافة الجمال في القرن العشرين، وبدأت مجلات الجمال تقترح على النساء حميات غذائية، وراجت أشرطة التمارين الرياضية، مثل أشرطة جين فوندا في الثمانينات، وهي ممثلة أمريكية اشتهرت بترويجها لثقافة التمارين المنزلية.
صناعة السينما والتلفزيون والمجلات وترويج الموضة:
ظهرت صناعة السينما والتلفزيون، وبرزت نجمات مثل: جريتا جاربو، أودري هيبورن، صوفيا لورين، مارلين مونرو، مادونا، وغيرهن، ممن تحولن لأيقونات جمالية مثالية تسعى النساء لاحتذاء حذوها، فما إن ترتدي النجمة زيا، أو تتخذ تسريحة لشعرها، أو تستخدم شيئا من مستحضرات التجميل حتى يغدو موضة تجتاح العالم، وهذه الموضة تتجدد باستمرار من أجل ضمان الاستهلاك الدائم، وبعد أن كانت الموضة تستقر لقرون، أصبحت تتغير كل عقد، ثم يتقارب تغيرها أكثر فأكثر، فغدا مطلوبا من المرأة العادية التي تعتني بمظهرها أن تتابع مظهر النجمات، ومجلات الأزياء، وإعلانات التلفزيون، وتحرص على تحديث خزانتها وطريقة تزينها باستمرار، والصورة التالية تبين محتويات تلك المجلات في بدايات القرن العشرين.
تطور صناعة التجميل وإمكانيات التجمل الهائلة:
تطورت صناعة مستحضرات التجميل في القرن العشرين نتيجة تطور المصانع وارتفاع الإنتاج، بين ماركات باهظة كديور وشانيل وأخرى متوسطة كماكس فاكتور وريميل، لإرضاء كافة الأذواق والمستويات المادية، وساهمت مجلات الموضة والجمال، وإعلانات التلفزيون في إشاعة ثقافة المكياج والتجمل عند السيدات حول العالم، ثم قفزت صناعة التجميل قفزة هائلة بتطور جراحات التجميل بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استخدمت في إصلاح التشوهات الشديدة التي تعرضت لها وجوه الجنود في الحرب، ثم استثمرت لاحقا في تجميل الوجوه السليمة وتغيير خِلقتها، فراجت جراحات شد الوجه، وتقويم الأنف وغيرها، وكان الأمر في البداية يتطلب الخضوع لعملية جراحية حقيقية، يتدخل فيها مبضع الجراح، وتستمر النقاهة بعدها فترة طويلة، وبمخاطر عالية، فلم يكن يقدم عليها إلا القلة، لكن الأمر أصبح أسهل مع نهايات القرن العشرين.
الحرب ضد السمنة والشيخوخة:
يذكر جورج فيغاريلو أن من أهم الأمور التي رسختها ثقافة التجميل في القرن العشرين وكرست جهودها لها: محاربة السمنة والشيخوخة، واعتبارهما العدوين اللدودين للإنسان، وأن المقاييس المثالية للوزن تتجه لتقديس النحافة أكثر فأكثر.
ولعل القارئ يلاحظ اليوم في مجتمعاتنا أيضا عدم التسامح مع الكيلوات الزائدة، واعتبارها عبئا يجب على المرأة التخلص منه فعليا، ولذلك حتى لو لم تتخلص المرأة من الوزن الزائد، فإن ضميرها يؤنبها، وتلجأ للاعتذار عن جسدها السمين بقول إنها تعتزم الدخول في حمية، أو أنها تعاني من مرض يصعب إنزال الوزن، وإن لم تعتبر هي الأمر مشكلة، فإن المجتمع يتبرع بتذكيرها تلميحا أو تصريحا بوجوب التخلص من سمنتها، وبتغذية هذا الخوف تروج سوق الحميات الغذائية ومنتجات التخسيس وغيرها، وكذلك الأمر بالنسبة لتجاعيد الوجه ومظاهر التقدم في السن، فإعلانات الكريمات المقاومة للتجاعيد تزرع عند المرأة هاجس الخوف من التقدم في السن وفقدان الجاذبية بسبب ذلك، فنجد التوصية باستخدام هذه الكريمات منذ سن 25 سنة، وقد تقدمت وسائل مكافحة السمنة والشيخوخة كثيرا بعد القرن العشرين.
الألفية: صناعة المحتوى وديمقراطية الإعلام:
إن كان القرن العشرون نشر ثقافة الصورة وأشاع الجمال الديمقراطي بين نساء العالم كافة، إلا أن التحكم بالإعلام الجمالي نفسه كان مقصورا على النخبة، لكن الألفية نشرت الانترنت، ثم مواقع التواصل الاجتماعي وأتاحت لكل امرأة فرصة استعراض جمالها، فظهرت في البداية المدونات الجمالية واشتهرت ظاهرة الـ Fashion Bloggers أو الفتيات المدونات المهتمات بالموضة والأناقة وهن من عامة الناس، لسن نجمات سينما ولا تلفزيون، كن يكتبن تدوينات جمالية أو يصورن Vlogs على اليوتيوب يستعرضن إطلالاتهن ومكياجهن واختياراتهن من المنتجات، ثم ظهرت مواقع مشهورة مثل Lookbook تستعرض فيها البنات المهتمات بالموضة إطلالاتهن اليومية، واعترفت مجلات الأزياء بسلطة الإعلام الجديد فأصبحت تخصص صفحات خاصة بإطلالات الـ Street Style أو إطلالات الشارع، ثم صعدت ظاهرة الفاشينيستا مع انستغرام وسناب شات، وهذا لايلغي تأثير نجمات الأفلام والمسلسلات بل يعززها، ومن الملاحظ مع تقدم السنوات دخول النجمات غير الغربيات كالتركيات والكوريات على خط التأثير، ولكنهن واقعات تحت تأثير الجمال المعولم ذاته.
إذا أردنا دمج تأثير القرن العشرين مع الألفية فسنرى تصاعد ظاهرة التجميل بالتغيير الحقيقي بدلا من التجمل المؤقت، فمن استخدام المشد الضاغط لساعات تتظاهر فيها المرأة بنحافة مزيفة، إلى الاتجاه للحمية والرياضة أو الجراحة من أجل رشاقة حقيقية، ومن تجميل الوجه بمكياج مؤقت يختفي أثره عند غسله، إلى الإبر التجميلية التي تغير الملامح بشكل دائم، ومن تبييض الأسنان المؤقت بمعجون أسنان أو جلسات في العيادة، إلى عدسات الأسنان الصناعية، ومن معاودة إزالة الشعر بالطرق التقليدية مرة بعد مرة، إلى التخلص منه بجلسات الليزر، ومن محاولة الظهور بمظهرٍ شابٍّ باستخدام حِيَل الماكياج إلى إبر البوتكس التي تعطل التجاعيد فعليا، وهكذا، وهذا الأمر أسهم في تغيير الثقافة الجمالية في العالم أجمع، وفي تأسيس صناعة جمال تجعل العيادة والناديمصنعالجمالبدلامناقتصارهاعلىصالونالتجميلومحلاتالملابسومستحضراتالتجميلكماكانالأمرسابقا،وهذايعنيأنتكلفةالجمالستقفزقفزاتهائلةماديا،وينبغيأنأنبههناإلىأنالممارساتالجماليةوتأثيرالصورةوالمظهربدأتتغزوعالمالرجالأكثرفأكثرمعتقدمالسنوات.
أبعاد الجمال المعولم:
حاولت في هذه الجزئية تحديد أبعاد الجمال المعولم، فوجدت أنه لا يقتصر على الأبعاد الجسدية، بل يمتد للمظهر وأسباب هذا المظهر، وقد حددتها في أربعة أبعاد، أما معايير الجمال المعولم فهي داخلة ضمن الأبعاد -خاصة الجسدية- وإليك تفصيلها:
1. الجسد المثالي:
فرض الجمال المعولم صورة محددة للجسد الجميل، فهو جسد فارع الطول، بارز الرشاقة، نسبة الدهون فيه محددة ولا يحبذ أن تزيد عن 23% من وزن الجسد، وهذا الجسد ينبغي ألا يكون نحيلا في جميع أجزائه، فالصدر والمؤخرة ينبغي أن يكونا بحجم أكبر، وإن لم يمكن الحصول على ذلك طبيعيا فيمكن تزييفه بالجراحة أو بنوعية الملابس الداخلية المحتوية على خاصية Push Up ، أما بالنسبة لبشرة هذا الجسد فينبغي أن تكون صافية كالمرمر: لاسيليولايت، ولاخطوط بيضاء أو حمراء، ولا دوالي، ولا تباين في اللون بين أعضاء الجسد المختلفة، ولا ترهل، ولا حتى نقط (جلد الإوزة) التي تظهر في منابت شعر الذراعين أحيانا، لون هذا الجسد غير مهم، فكل الألوان مقبولة ومعترف بها من باب التعددية شرط أن يبدو كل لون صافيا لامعا مثاليا.
2. الوجه المحدد الملامح:
الوجه في الجمال المعولم ذو بشرة صافية نضرة، لا أثر فيه للهالات السوداء، ولا الخطوط التعبيرية، ولا الترهل، الحواجب فيه مرتفعة، والأنف صغير ودقيق، والشفتان مكتنزتان، والوجنتان بارزتان، أما الفك والذقن فمحددين بوضوح بحيث يظهر الوجه مربعا، ويستحب أن يزين بغمازة، وكل هذه المواصفات يمكن الوصول إليها بإبر بسيطة عند طبيب التجميل لايستغرق الحصول عليها عدة دقائق، مما جعل ملامح النساء تتجه لأن تكون نسخا متطابقة من بعضها البعض، تماما كمنتجات تخرج من ذات المصنع، لافرق بينها إلا في الرقم التسلسلي، البوتكس جمّد ملامح الوجه وقيّد تعابيره، والفيلر نفخ الوجه، وضاعف حجم الملامح العادية، وكل هذه الإجراءات مؤقتة وباهظة الثمن، ناقشت مرة هذا الأمر مع مجموعة من البنات فقالت لي إحداهن: ” لم أعد أفرق بين فاشنيستا وأخرى إلا بالاسم، فملامحهن أصبحت واحدة”.
3. المظهر المترف:
لايمكن أن تكتمل إطلالة الجمال الأنثوي المعولم دون مظهر مُترَف يشي بثراء صاحبته، فالثراء في عالمنا المعاصر أصبح مرادفا للفضيلة والاستحقاق، والفقر غدا رمزا للعجز والكسل كما يقول آلان دوبوتان، والماركات العالمية هي رمز الثراء والقدرة، لذلك قد تتزين المرأة بقطعة عادية لكن ميزتها الجوهرية هي انتماؤها لدار أزياء عريقة، وتعبيرها عن الترف، والملاحظ في هذا البعد أن البحث عن الماركات لأجل اسمها لاجودتها فحسب، فلو خيرت فتاة بين حقيبتين من بيربري مثلا، إحداهما يتضح فيها شعار الدار، والأخرى لا يتبين لاختارت الأولى، ولو عرضت عليها حقيبة أخرى عالية الجودة والجمال لكن ماركتها غير معروفة في الوسط المحيط بها لرفضتها وقالت: لماذا أدفع مبلغا كبيرا مادام الناس لن يدركوا أنها “ماركة”؟! ولهذا السبب تروج صناعة تقليد الماركات، وتشبّع الإنسان بما لم يُعطَ، لأن قدرا كبيرا من القبول الاجتماعي مرتهن بشعار الماركة الذي ترفعه إعلانا عن قدرك وقيمتك!
4. الاستقلال الاقتصادي:
أثرت حركات استقلال المرأة والمطالبة بالمساواة، على النظر للدور الاقتصادي للمرأة، فهي كائن ينبغي أن يكون منتجا اقتصاديا، ومن غير المقبول أن تبقى في المنزل لتمارس أدوار الزوجية والأمومة المعتادة، بل لابد أن تكون قادرة على الكسب بنفسها، مهما كانت القدرة المادية لأسرتها، ومن الملاحظ أن عالم الجميلات نفسه تأثر بالأمر، فعلى حد وصف المفكر الفرنسي جيل ليبوفستكي في تحليله لتاريخ الترف، لم يعد التجمل بالماركات الثمينة رمزا للمرأة الأرستقراطية التي تنعم بثراء والدها وزوجها، بل أصبح رمزا للاعتماد على الذات في الكسب، حيث الجمال المعزز بالقوة.
و لا يمكن الحديث عن الجمال المعولم، بمعزل عن الرأسمالية والاقتصاد والإنتاج وسوق العرض والطلب، إن صناعة الجمال اليوم تديرها امبراطوريات اقتصادية تعمل في مجال الأزياء والعطور وأدوات التجميل وجراحات التجميل وشركات أغذية الحمية، وتتفرع فروعا لا يمكن إحصاؤها، ويهمها تغير الموضات وربط الجمال باليُسر المادي والقدرة على الشراء.
آثار الجمال المعولم:
الآثار النفسية والاجتماعية:
تدني صورة الذات:
حينما يُطرح النموذج المثالي على النساء وكأنه هو الوضع الطبيعي لأي امرأة، فإنها ترى نفسها في الواقع أقل منه، فجسمها ليس مثاليا، قد تشعرها بضع كيلوات زائدة بأنها تعاني سمنة مفرطة، وقد تحول نحافتها بينها وبين امتلاك التقاسيم الأنثوية التي تراها في الصور، وقد تشكل الخطوط البيضاء التي يخلفها الحمل -والتي لايوجد لها علاج نهائي إلى اليوم- كابوسا في نظرها، وقد يؤرق مضجعها السيليولايت الذي جاهدت في مكافحته دون جدوى، أو الهالات السمراء التي استنفدت كل الحلول دون أن تتمكن من التخلص منها.
إن تدني صورة الذات Self Image يكاد يكون أشد الأضرار النفسية الناجمة عن عولمة نموذج مثالي للجمال، يصعب الوصول إليه دون إنفاق أموال طائلة، وأوقات عظيمة في العناية المبالغ فيها، فضلا عن تقنيات تعديل الصور وخدع التصوير نفسها، مما يجعل النساء يزدرين نعمة الله عليهن، ويرين أنفسهن أقل بكثير مما هن عليه في الحقيقة، لأن سقف المعايير ارتفع جدا وأصبح أقسى يوما بعد يوم، ولهذا أثر في إضعاف ثقة المرأة بنفسها، وخجلها عند التعامل مع الآخرين، أو حضور المناسبات الاجتماعية، أو الزواج والارتباط بشريك الحياة.
على منصة TED وقفت خبيرة التجميل الإيطالية Eva DeVirgilis في حديث بعنوان In my Chair (هنا) لتقول إن معظم زبوناتها اعتذرن عن عيوب في وجوههن فور جلوسهن على كرسي التجميل أمامها، بغض النظر عن مستوى جمالهن الحقيقي، أو مكانتهن الاجتماعية، أو مستواهن الاقتصادي والتعليمي، بل إن بعضهن متحدثات على منصة TED نفسها! فهن يبادرن بكلمات مثل: عيناي صغيرتان، أنفي كبير..الخ، وأن قلة قليلة من النساء فقط هي التي تأتي لتحظى بتجربة ماكياج مميزة دون أن تجد نفسها مضطرة للاعتذار عن ملامحها، وأن هذه الفئة الأخيرة وإن كانت متفاوتة في جمالها الفطري، ومستواها الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي، إلا أن صفة واحدة تجمع النسوة فيها: قوة الشخصية!
الأمراض النفسية المرتبطة بالأكل والمظهر:
يعد مرض فقدان الشهية العصبي Anorexia أحد أهم الأمراض النفسجسمية التي ظهرت في الغرب بسبب صناعة التجميل، فالمصابة بهذا المرض لديها خوف زائد من اكتساب الوزن، وترى نفسها أسمن من الواقع بكثير، مما يؤدي بها إلى الرفض التام للطعام، ومن ثم الدخول في مجاعة حقيقية قد تنتهي بالموت، وهو مرض ليس ظاهرا لدينا، لكن خطر الإصابة به مرتبط بهوس النحافة، ومن أشهر من عانين منه الممثلة الأمريكية أنجلينا جولي، وكذلك مرض البوليميا Bulimia وهو مرض معاكس تماما للأول، وإن اتفق السبب، فالبوليميا شره عصبي للأكل، ينتج من اضطراب هرمونات الجوع والشبع نتيجة اتباع أنظمة حمية قاسية، يتبعها إفراط في الأكل، ومن ثم رغبة في التقيؤ من أجل اجتناب زيادة الوزن، ومن أشهر من أصبن بهذا المرض: الأميرة ديانا والممثلة الأمريكية جين فوندا.
تدني مستوى الاهتمامات والطموحات:
أصبح المظهر على رأس أولويات المرأة، فقدواتها أيقونات جمالية، وأهدافها جمالية، ورغبتها في المال تتزايد من أجل الوفاء بمتطلبات الجمال والمظهر المترف، مما يجعل الأهداف الأخرى في الحياة تنكمش وتتراجع، ومن الطبيعي أن تجد فتاة تكتب أنها حزينة لأن ظفرها انكسر مثلا، و تكمن المشكلة هنا في أن طاقة الإنسان في هذه الحياة محدودة، فإن بالغ في صرفها لأمر واحد، أهمل بقية أمور حياته، وقد عير أحد السلف عن هذا بقوله: “مارأيتُ سرفًا قط، إلا ومعه حقٌّ مضيَّع”!
تهديد المظهر للمكانة الاجتماعية:
تعد الحاجة للتقدير والمحبة والقبول الاجتماعي أحد أهم الحاجات النفسية للإنسان، فإذا كان المظهر المثالي شرطًا في القبول والمكانة، راج سوقه بين أفراد المجتمع، لا لذاته، وإنما للحاجة العميقة في نفس الإنسان للتقدير والقبول والحب، ويظهر ذلك في الخوف المبالغ فيه من التقدم في العمر خشية فقدان النضارة والجمال، فالمرأة في المجتمعات المترابطة تكتسب مكانة أكبر عندما يتقدم بها السن، أما في المجتمعات المعولمة فالمظهر والقدرة على الكسب هما أساس المكانة، وبذلك تغدو خطوط التجاعيد ومظاهر التقدم في السن كابوسا يقوّض النظرة للذات والمكانة الاجتماعية.
و يرتبط بذلك أيضا، شيوع ثقافة الاستعراض المظهري المتكلف بين أفراد المجتمع، وفي مختلف المناسبات الاجتماعية، وتقييم الذات والآخرين بناء على المظهر والماديات، مما يضعف العلاقات الإنسانية الحقيقية وينشيء بدلا منها علاقات هشة وسطحية وتنافسية تفتقر للرحمة والأخلاق، وينتج عن هذا أيضا المشكلات الأسرية بين الفتاة وأهلها أو المرأة وزوجها، نتيجة المتطلبات الاقتصادية للمظهر الجمالي المعولم، والتي قد لايستطيعها الأب أو الزوج، فالنتيجة مشكلات أسرية واتهام بالتقصير، أو بحث عن مصدر كسب مالي بأي ثمن.
ازدراء الأدوار الفطرية للمرأة:
عولمة الجمال تؤدي لازدراء الدور الطبيعي للمرأة كمنجبة ومربية للأجيال، فجسدها سيتأثر بالولادة والرضاعة، وهي تريد الحفاظ عليه مثاليا، والانشغال بالأولاد وتربيتهم قد يأخذ من الوقت الذي تريد تخصيصه للعناية بنفسها، أو للكسب من أجل إرضاء الطموح الجمالي المثالي لديها، ولذلك نرى في العالم الغربي من تحجم عن الحمل والولادة والإرضاع لأسباب جمالية صرفة، فالمظهر أهم من الغريزة الفطرية في الإنجاب، وهذا الأمر يتسلل شيئا فشيئا للمجتمعات المعولمة.
قلة الرضى عن شريك الحياة:
أختم الأضرار الاجتماعية للجمال المعولم بتأثيرها على نظرة الرجل للمرأة عند اختيار الزوجة، وبعد الزواج، فالرجل المتأثر بماتعرضه وسائل الإعلام، والذي لايمتثل الأمر الرباني بغضّ البصر، سيرتفع سقف شرهه الجمالي إلى مدى أبعد من واقعه، فيحتقر مظهر امرأته، وقد يجهر بعدم رضاه عن شكلها ومطالبتها بأن تكون مثل النموذج الذي يحلم به صاحب السعادة هذا، وقد تفعل المرأة الشيء ذاته لنفس السبب، ومن شأن هذا الأمر تقويض السعادة الأسرية لحد كبير، ويرجع المسيري في حديثه عن الفردوس الأرضي في الولايات المتحدة هذا الأمر لأسباب اقتصادية بحتة فيقول:
“تساهم الشركات المنتجة لأدوات التجميل في تصعيد توقعات الذكور من الإناث، فتضطر الإناث للاستهلاك”
2. الآثار الصحية:
إن ترويج الجمال المعولم للنحافة الزائدة، يزيد معدلات الإصابة بمرض فقدان الشهية العصبي أو مرض الشره العصبي كما أسلفت في الأضرار النفسية، وأضيف لذلك الأضرار الصحية الناجمة عن اتباع حميات غذائية غير مدروسة، وغير متوازنة غذائيا، مما يؤدي لنقص بعض الفيتامينات والمعادن الهامة من الجسم، وبالتالي تساقط الشعر أو شحوب البشرة أو اضطرابات الدورة الشهرية نتيجة اضطراب الهرمونات.
هناك أيضا ضرر صحي شائع ناتج عن تكرار اتباع حميات غذائية غير متوازنة وتعتمد على الحرمان، وهو مايعرف بظاهرة تأثير اليويو Yoyo Effect وهي ظاهرة يتم فيها فقدان الوزن بسرعة ومن ثم إعادة اكتسابه بسرعة، لأن الحرمان يؤدي للشره في الأكل والتعويض العاطفي، ومن ثم يعود الشخص للحمية من جديد، وهكذا يدخل الجسم في دورات متكررة من السمنة والنحافة، والحرمان والشره، مما يزيد الطين بلة.
الاهتمام المبالغ فيه في ملاحقة تقنيات التجميل أدى في كثير من الأحيان إلى التساهل في الإقدام على إجراءات تجميلية ذات مخاطر عالية، والتهاون بنوعية المواد في الإبر التجميلية أو خبرة الشخص الذي ينفذ الإجراء، ومدى حاجة الشخص له وانتفاعه به وآثاره عليه.
3. الآثار الاقتصادية:
تقوم فكرة الجمال المعولم على بذل الجهد والمال والوقت من أجل الوصول للجمال المعياري أو بعضه، والمحافظة عليه، وهذا يستنزف الموارد المالية، فمستحضرات التجميل، والماركات المترفة من ملابس وحقائب وأحذية، ومنتجات الحفاظ على الوزن، وأسعار اشتراك النوادي الرياضية، وكريمات العناية بالبشرة، وإجراءات التجميل من فيلر وبوتكس وتقشير وإبر نضارة وجلسات نحت جسم وغيرها، كلها تتطلب قدرة مادية كبيرة، مما يؤدي لاستنزاف ميزانية الفرد والأسرة، وكل هذه المصروفات متجددة، فموضة الملابس تتغير، ومستحضرات التجميل تنتهي صلاحيتها قبل أن تنفد من علبتها، وإجراءات التجميل في العيادات ذات نتائج مؤقتة، إذ لابد من تجديدها كل ستة أشهر، وهكذا، وصناعة التجميل اليوم تبلغ وارداتها أرقاما فلكية لايتصورها المستهلك العادي، ولكنه يلمس أثرها في عبارة: المال يصنع الجمال!
مزايا الجمال المعولم:
بعد عرض أضرار الجمال المعولم، لابد من عرض مزاياه، ليس من باب الحياد المصطنع، ولكن من باب الإنصاف، وتلمّس الحكمة والنفع، ففي نظري أن أبرز ميزتين في هذا الجمال هما:
1.تعزيز الاهتمام بالصحة:
من مزايا الجمال المعولم، أنه روّج للصحة كوسيلة للجمال، فالمظهر يعكس أسلوب الحياة Lifestyle ، فالنوم الجيد، والغذاء الصحي المتكامل، والرياضة المنتظمة، وشرب الماء باستمرار، كلها تنعكس على الجسد في نضارته ورشاقته، وعلى الشعر في صحته ولمعانه وكثافته، وعلى البشرة في صفائها وبريقها، وعلى الحالة النفسية للإنسان أيضا، فالنمط الصحي للحياة يخفف التوتر، وبالتالي ينعكس على المظهر أيضا، لذلك، نرى اليوم كثيرا من الناس يتبنى النمط الصحي للحياة من باب حب الجمال والمظهر الجيد، أكثر من كونه اهتماما حقيقيا بالصحة ووقاية من الأمراض، وهذا أمر لا بأس به.
2. توسيع فرص الجمال:
لم يعد الجمال اليوم ذلك الجمال الفطري الذي إما أن تولد به المرأة أو لا، فالجمال أصبح صناعة واهتماما أكثر من كونه جمالا في خِلقته الأصلية، فأساليب العناية بالجسد قد انتشرت ولم تعد حكرا على فئة معينة، كل فتاة بإمكانها التعلم والاستفادة من محتوى الانترنت في العناية بنفسها، هذا الأمر يجعل فرص الجمال شبه متساوية أمام البنات، فالمسألة تغدو مسألة جهد ذاتي وبذل أسباب أكثر من كونها أمرا قَدَريّا محضًا لايد للإنسان فيه، فالجمال الفطري الباهر فرصة نادرة في الحقيقة، لكن الجمال المكتسب يمكن الحصول عليه بجهد قلّ أو كثُر، وهذه فكرة ليست جديدة تماما، فجداتنا كان لديهن مثل يقول “شينٍ مجمّل، ولازينٍ مهمّل” أي أن الجمال المتواضع مع الاهتمام أفضل من الجمال الفائق مع الإهمال، ولكن مسألة الاهتمام هذه بلغت إمكانياتها اليوم آفاقا هائلة لم تتخيلها الجدات اللواتي كان أقصى تجملهن حناء وكحل وعطر !
وهاتان الميزتان، أجدهما نعمة على بنات آدم، ومدخلا للتعامل الذكي مع الجمال المعولم بالاستفادة من خيره واتقاء شره، ولكن بعد إعادة ضبط البوصلة.
إعادة ضبط بوصلة الجمال:
أول أمر يجب تأسيس الوعي الجمالي عليه، هو أن الإسلام منظومة ذات مرجعية ربانية، والثقافة الغربية منظومة ذات مرجعية مادية، وهذا الفرق يجب أن يبقى واضحا جليا عند أي اقتباس أو تفاعل بين الحضارتين، ولايكون التشرب الغبي للثقافة الغربية إلا من الانهماك في المشتركات، ونسيان الاختلافات الجذرية.
والنظرة للجمال -في أي حضارة- تنطلق من الأصول الثقافية لهذه الحضارة، ففي العصور الوسطى أهملت المرأة الغربية جمالها وتركت التزين لأن المسيحية الرهبانية آنذاك علمتها أن التزين خطيئة، أما حين تقدمت الحضارة المادية فقد بالغت المرأة في العناية بالجسد لكون قيمة الإنسان في الحضارة المادية تتجسد في كل ما يمكن رؤيته أو لمسه أو شمه أو سماعه، أي إدراكه ماديا بالحواس، أما ماوراء المادة فلا قيمة له، ومن هنا نفهم منطقية المبالغة في تقديس أو تسليع الجسد في الحضارة الغربية.
الأمر غير المنطقي أن تستورد المرأة المسلمة نفس المنطق الجمالي دون أن تسأل: ما الأساس العقدي أو الثقافي الذي سأؤسس عليه مفهومي للجمال؟ هل يمكن أن تكون نظرتي ومعاييري وطقوسي مطابقة لأخرى تؤمن بأننا نعيش للدنيا فحسب؟
يولي الإسلامُ الجمالَ عناية مميزة، لكن الإسلام بطبيعته عصيٌّ على الاختزال في مفهوم قاصر، فهو ليس دينا يهتم بالروح ويهمل الجسد، كما أنه ليس دينا يقدم الجسد على الروح، ولذلك نجد الروح فيه تحتل المقام الأول، ففي سورة الحجرات يتحدد معيار التفاضل وأنه (التقوى) أمرٌ باطني لا علاقة له بالمظهر: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا في الحديث الشريف أن مظاهرنا لاتعني شيئا، فيقول: “إنَّاللهلاينظرإلىصوركم،ولاإلىأموالكم،ولكنينظرإلىقلوبكموأعمالكم“
لكن هل هذه الصرامة في تحديد معيار التفاضل الذي ينبغي أن ينصرف له جهد المسلم ووقته وطاقته، تعني تجاهل فطرة حب التجمل عند البشر؟ لا، فليس هناك مجال لأن يأتي شخص ويدخل في الإسلام مظاهر الرهبنة، فالله تعالى يقول في سورة الأعراف: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32).
و عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: “لايدخلالجنَّةمنكانفيقلبهمثقالذرَّةمنكبر! فقالرجل: إنَّالرَّجليحبُّأنيكونثوبهحسنًا،ونعلهحسنة؟قال: إنَّاللَهجميليحبُّالجمال،الكبر: بطرالحقِّوغمطالنَّاس“،لنتخيل الموقف معا: قبل أكثر من 1400 سنة، يعبر الصحابي الجليل للنبي صلى الله عليه وسلم عن حبه للتجمل، وهو رجل ومعروف أن ميل الرجال للتزين أقل من النساء، أضف لذلك أنهم كانوا في بيئة صحراوية أقرب للتقشف والفقر، ومع ذلك يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، ويخشى على نفسه من الكبر بسبب هذا، ثم يطمئنه النبي صلى الله عليه وسلم أن حب التجمل لاعلاقة له بالكبر، بل يزيده طمأنينة بأن الله جميل يحب الجمال! أي طمأنينة تسري في النفس عند تذكر هذه المعاني؟ أي دين يقودك للآخرة ويبيح لك أن تتنعم في طريقك لها بما يوافق فطرتك ويشبع ذوقك؟ ثم لنتأمل الآية قبلها، لنجد الحث على التزين وإنكار من حرمها على الخلق، والتذكير بأنها نعمة للعباد في الدنيا، وأن المؤمن وإن تنعم بها في الدنيا مثل الكافر، فإنها خالصة له يوم القيامة.
ولذلك أستغرب ممن يربط بين التدين وإهمال المظهر، أو بين الجدية وإهمال الزينة، وطوال عملي معلمة للمرحلتين المتوسطة والثانوية، لم أنهَ أي طالبة عن اتخاذ الزينة في المدرسة، وأقول للمعلمات اتركوهن يمارسن فطرتهن في التزين فليس لدينا رهبانية، والمدرسة كلها نساء، وهذه ميزة فريدة لدينا ولله الحمد، حُرمت منها كثير من البنات في مدارس وجامعات العالم الإسلامي بسبب الاختلاط، فيضطررن للتحجب وترك الزينة طوال الوقت، و على مر العصور كان إهمال الزينة والتجمل أحد مظاهر الحزن والحداد وأعراض الاكتئاب، فلماذا نجعله الأصل؟
لكن لنتذكر أن الآية قيّدت الأمر بـ: “ولاتسرفوا”، وأن الصحابي في الحديث كان يخشى على أمر أهم من التجمل، وهو “القلب” الذي هو موضع نظر الرب، فلم يكن التجمل أكبر همه، ولا مبلغ علمه، وإن كان يحبه!
لذلك لابد من إعادة ضبط بوصلة الجمال، بما يلي:
1. النية الصالحة:
النية الصالحة في الاهتمام بالجسد، فهو مطية الروح، والمسلم يهتم بصحته لهدف أرقى من مجرد المظهر، فهو يعبد ربه بهذا الجسد، والحفاظ عليه صحيحا يساعده في خدمة نفسه وأهله، وفي الصلاة والصيام والعمرة والحج وسائر العبادات، وأنا أشعر بالحسرة حين أرى كبار السن في أوروبا يهتمون بأجسادهم لعمر متقدم بالرياضة والغذاء الصحي ويركضون كالشباب، ثم أجد عددا كبيرا من المسلمين لا يصلي إلا على كرسي، ويعاني أمراضا كثيرة سبب معظمها قلة الحركة ورداءة النظام الغذائي، والمسلم يستشعر نعمة الله عليه عندما يهتم بجسده ونظافته وزينته، وجودة حياة أي مجتمع مرتبطة لحد كبير بالطب الوقائي الذي يعتني بالجسد وصحته قبل حاجته للطب العلاجي.
2. ترتيب الأولويات:
ترتيب أولويات الحياة بحسب ميزان الشرع، فالتقوى والعمل الصالح أولا، والمظهر تاليا، وترتيب الأولويات يمنع الإسراف ويساعد عند اتخاذ أي قرار جمالي، فإذا كانت التقوى مقدمة على المظهر، فلن تقع المرأة في محظور شرعي أو شبهة، ولا محظور طبي أيضا، ولن تقع في الإسراف المذموم بإضاعة الوقت والمال في الاهتمام الزائد بالجمال، وبملاحقة كل منتج جمالي تغريها دعايته لأنها تعلم أن أحد الأسئلة الكبرى يوم القيامة سيكون عن عمرها فيم أمضته؟ وعن مالها مم اكتسبته وفيم أنفقته؟ وتعلم أن لباسها ومظهرها جزء من عملها الذي ينبغي أن تراقب الله فيه قبل مراعاة الخلق.
وترتيب الأولويات يرتب العلاقة مع الناس، فلا يمكن لمسلم قد رتب أولوياته وفق كتاب الله وسنته، أن يحتقر إنسانا لمظهره، أو أن يُعظّم آخر لذات السبب، فالتقدير الاجتماعي يخضع للمعايير المعنوية من قرابة وأخوة وخُلُق وصلاح، أكثر مما يخضع لمعايير مادية قاسية، وهذا التعقل في التعامل صمام أمان للمجتمع ضد الانزلاق في النزعة الاستهلاكية والاستعراض المظهري، لأن جل هذه النزعة نابع من حاجة نفسية عميقة: الحاجة للتقدير والاحترام والقبول!
في كل مرة يرتفع فيها قدرُ إنسان عندك، وتعامله معاملة مختلفة، فقط لأن مظهره أعجبك، ويوحي بتميزه وثرائه، ثم تحتقر آخر لافتقاره لهذه المعايير فحسب، فأنت تعمّق مشكلة الاستعراض وتعززها وتسهم في إفساد القيم، فكل إنسان يتعطش للتقدير والقبول والاحترام، وويل لمجتمع يوجب على أفراده شراء ذلك بالمال !
وإن من ترتيب الأولويات معرفة قدر الدنيا وقدر الآخرة، فنحن وإن كنا في الدنيا نهتم بأجسادنا، ونعتني بها، إلا أن هذه الدنيا ليست سقف آمالنا، ففي الجنة جمال لاتشوبه شائبة، وخلود لا يعقبه هرم، والتوق للجمال والشباب والخلود أمر فطري، إلا أن تحققه التام في الجنة، لا في الدنيا، وحري بالمؤمن أن لايبالغ في اللهاث وراء السراب الدنيوي وأن يقتنع بالمعقول.
3- صيانة الجمال من الابتذال أو التسليع:
المسلم يكرم جسده، ولا يجعل التمتع بالنظر لهذا الجسد حقا مشاعا لكل من هب ودب، فهناك حدود للعورات، وهناك حجاب فرضه الله على النساء، وأمرٌ بالستر، وهذا كله يصون نعمة الجمال من الابتذال، أما تسليع الجسد فهو التكسب به (التكسب بجماله، لا بكدّه وجهده)، وهو خُلُقٌ لايرضاه إلا وضيع، وأشد صور التكسب بالجسد أن تعمل المرأة في الدعارة، ولكن هناك طيفا واسعا من صور تسليع الجسد ليس بالضرورة أن تصل للدعارة، فعارضات الأزياء و (المودلز) اللواتي يُستخدَمن في جلسات المكياج كلهن يتعرضن لتسليع الجسد، فهذه الممارسات تتفق في كسب المال بسبب جمال الجسد، ومهما تفاوتت التنازلات، فإن التكسب بجمال الجسد أمر حقير ومهين، والعرب من قبل الإسلام كانت لهم شيم تمنعهم من تسليع أجساد النساء مهما بلغت بهن الفاقة، فمن أقوالهم: “تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها”، وهذا مثل يظل يتردد في ذهني كلما رأيت فاشينستا مسلمة تكسب المال بسبب جمال جسدها وظهورها في الإعلانات، أو إذا رأيت أُمًّا تتاجر بصور جسد طفلتها الجميل وتكسب من ورائه أموالا، للجسد حُرمة، وتسليعه وابتذاله إهانة له ولصاحبه، اكسب من تعب جسدك، لا من جماله!
4. التركيز على البنية التحتية للجمال:
البناء الحقيقي لأي مدينة، يكمن في بنيتها التحتية، لا في أعلام الزينة التي تعلق على شوارعها، والجمال الحقيقي للمظهر كذلك، الاهتمام بالغذاء الصحي، وشرب كميات كافية من الماء، والنوم الجيد والرياضة، علاج أي مشكلة جلدية عند طبيب متخصص، الاهتمام بصحة الأسنان ونظافتها، الاهتمام بمظهر الأظافر الصحي وتقليمها وبردها، ترطيب الجلد باستمرار، الاهتمام بصحة الشعر ولونه ومظهره، أناقة الملابس وملاءمتها للجسد، استخدام المكياج الناعم باحتراف، الهندام والترتيب والنظافة الدائمة والرائحة الطيبة، المشية السليمة والابتسامة، هذه هي البنية الأساسية لجمال المظهر، التي تجعل أي امرأة مرتبة وأنيقة، مهما كانت ملامحها، ومهما كان مستواها المادي، تستطيع كل امرأة الحفاظ عليها، ولن تحتاج معها للوقوع في الشبهات أو الإسراف وإرهاق النفس، و الواقع أن كثيرا من النساء تهمل هذه الأساسيات المجانية لأنها تحتاج صبرا وعناية واستدامة للجهد وإن قلّ، وتظن أن ماينقصها هو إبرة فيلر أو جلسات إبر نضارة أو حقيبة بآلاف الريالات أو طقم ألماس أو كريمات باهظة، وتكتسب السلوك الاستهلاكي الشره دون أن تصل لنتيجة، وهذا خلل في التفكير يشبه من يكون لديه منزل خرب، ويهمل صيانته وتنظيفه ويصر على تزيينه بلوحة ثمينة أو قطعة أثاث نادرة!
في نهاية هذا المقال الذي أشكر للقارئ صبره ووصوله لسطوره الأخيرة، أود القول بأن الذائقة البشرية السليمة لا تنظر للجمال منفصلا عن شخصية الإنسان، فالدمية لها شكل مثالي لكنها تظل دمية جوفاء، فارغة من الداخل، وجمال المظهر يعزز الجوهر القيّم، ويبرزه، لكنه لايقوم لوحده ولا يصمد، ولذلك مهما بلغ اهتمامك بمظهرك، احذري أن تجعليه الشيء الوحيد الذي يعرفك به الناس، وصدقت غادة السمّان حين قالت: ” الكحل ليس مرادفا للتفاهة، التفاهة ألا يكون في عين المرأة إلا الكحل”.
قرأت مؤخرا عدة تغريدات تستهجن ماتقدمه شركات إنتاج الأفلام مثل نتفلكس من ترويج للشذوذ أو الإباحية، ونفور الشباب المسلم من هذا أمر جيد ولاشك، ولكن مادمت تتسوّل التسلية على موائد الآخرين فكيف تطالبهم أن يحترموا مرجعيتك؟ من يصنع الأفلام سيروج لأفكاره هو، لا أنت، المشكلة ليست فيما يعرضه، بل في عدم قدرتك على الاستغناء عنه.
هذه شركات رأسمالية، يهمها الربح لا الأخلاق، وهي تابعة لمنظومة سياسية وفكرية تطالبها بإثبات احترامها لأفكار معولمة لا تمت لدينك بصلة، والأمر لم يبدأ من الشذوذ فقط، فمنذ نشأة صناعة الأفلام وهي تخدم فكر صانعها ومنتجها، فما الجديد؟!
هذه المنظومة هي التي روجت -من خلال الأفلام- للإباحية والعلاقات المحرمة والاستهلاك المادي والتفكك الأسري والإلحاد والتمرد على المجتمع بحثا عن الحرية، هي التي شوهت صورة المسلم والعربي، هي التي سعت خلال عشرات السنوات لتقديم فكر مخالف تماما لعقيدتك، وقيمك، وأخلاقك، لماذا تغضب عليها؟ إنها لم تناقض نفسها يوما، أنت الذي خدعت نفسك ورضيت أن تشاهد كل هذا وتستمرئه وتتسلى به لأنه قُدّم لك في قالب قصة مشوّقة وإخراج مُبهر.
القصة أسلوب من أساليب التربية، تستخدمه معك شركات إنتاج الأفلام، لأنها تعلم أنك لاتملك الجَلَد الكافي لتقرأ كتابا يقنعك بالداروينية أو الانحلال، فتقدمها لك عبر قصة مشوقة، الأمر يشبه أن يرفض الطفل شرب دواء، فتضعه الشركات له في هيئة حلوى، أرجوك لاتقل لي أنا أفهم وأستطيع فرز الأفكار، إن قلت هذا فأنت لاتفهم آلية عمل الدماغ، ولا كيف يغسل تكرار الفكرة وعرضها بطرق عدة هذا الدماغ، والواقع أمامك خير شاهد: كلما انفتحنا على الثقافة الغربية أكثر بطرق سلبية ليس فيها تفاعل حضاري جاد، قل التزامنا بديننا وزاد إعجابنا بهم، واعتناقنا لأفكارهم، ليس لأن أفكارهم جيدة، بل لأنهم يحسنون عرضها ونحن لانحسن الفرز، ونتلقى فقط، وهذا طبيعي، فأرجوك دع عنك التظاهر بدور الفلتر لما تشاهده، لأن الواقع يكذبك قبل أن تفكر في الرد أصلا.
هذه الشركات لاتهدف لإقناع عقلك فحسب، فهي تريد جيبك في المقام الأول، أرباح صناعة السينما خيالية، وأجور المخرجين والممثلين وعوائد شركات الإنتاج تفوق الخيال، والأمر الوحيد الذي يريدون ضمانه هو بقاؤك مدمنا مستهلكا، لذلك يبهرونك في كل مرة بقصة أقوى وإخراج أجمل، وأنت باقٍ تنتظر الجديد وتتسلى بالقديم حتى يأتي جديد آخر، ولست وحدك في هذا، فكثير من البشر على هذا الكوكب مثلك، لكنك مسلم ويفترض أنك تفهم أنك لم تُخلَق لحياة بهيمية، وأنك لاترضى أن يكون عقلك مكبّا لنفايات الأفكار التي تلِجُهُ عبر بوابة حواسك.
إدمان التسلية داء عصري بامتياز، فالتسلية ضرورة لاغنى للبشر عنها، لكن ضياع ساعات اليوم وسنوات العمر في التسلية أمر غير طبيعي، الإدمان يجعلك في توق شديد ويضعف مقاومتك، لذلك أرى أن الحل في كسر إدمان التسلية هذا أولا، و محاولة التعافي منه، لا في مجرد طرح بديل نظيف ينقلنا من إدمان مخدرات مغشوشة إلى إدمان مخدرات أصلية، فقد رأينا ماحدث حين طرحت إحدى القنوات (المحافظة) بديلها عن تلفزيون الواقع : ضياع وقت أكثر، وتعلق البنات بالشباب المشاركين في البرنامج، وكذلك مافعلته وسائل التواصل من إدمان تسلية متابعة المشاهير، وماتبعها من انتشار قيم وسلوكيات غير جيدة وضياع أوقات وتشتت لم نشهد له مثيلا، لا أحاول هنا أن أطرح حلولا جذرية، ولا أن أحارب البدائل، ولكن أحاول طرح فكرة بسيطة فحسب: الحياة أثمن من أن تبقى متفرجا.
يمكن اعتبار انتشار ثقافة الاستهلاك والماديات من أعظم التغيرات السلبية في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، بما لها من تبِعات نفسية واجتماعية واقتصادية، وأراها تزداد شِدّة وانتشارا عاما بعد عام، وقد اخترت في هذا المقال أن أتحدث عنها من خلال تتبع نشأة عملية الاستهلاك، ومظاهرها في حياتنا اليومية، وطرق التخلص منها، وأهمية دورنا في ترسيخها، أو النجاة منها.
كان الناس في الماضي يشترون مايحتاجون فقط، فالأسواق محدودة، وإنتاج الحرفيين واستيراد التجار مرتبطان بالحاجات الفعلية للناس، مع هامش كماليات بسيط، لكن العالم انتقل نقلة نوعية بعد عصر النهضة الأوروبية التي مهّدت للصناعة والرأسمالية، فقد كثرت المصانع والسلع والمخترعات، وأصبح الإنتاج أسهل بسبب الثورة الصناعية، إذ يمكن لمصنع أن يُنتج في ساعة ماينتجه الحرفي في عشرات السنوات سابقا.
لم تعد المشكلة أن الطلب أكثر من العرض، بل انقلبت وأصبح العرض يفوق الطلب، وهذا يهدد أصحاب رؤوس الأموال والمصانع بالكساد والخسارة، فنشأ فنّ التسويق الذي كان بدائيا ثم تطور، واستفاد من نظريات علم النفس وعلم الاجتماع فائدة كبيرة، ليضمن استمرار الناس في الشراء وعدم تكدّس السلع، التحدي الذي واجهه المنتجون هو: كيف نقنع المستهلك بشراء منتجنا وهو لايحتاجه حقيقة؟ والجواب بسيط وعميق: لابد من خلق شعور بالحاجة إلى هذه السلعة وتصعيد الرغبة فيها إلى الحد الذي يجعل المستهلك يقرر أن شراءها أمر لابد منه.
كان التسويق شخصيا عبر الباعة المتجولين وفي الأسواق، ثم ظهرت الإعلانات المطبوعة في الصحف والمجلات والشوارع، ثم انتقلت نقلة نوعية بانتشار التلفزيون في المنازل في أواخر القرن العشرين، أما بعد ظهور الانترنت، ثم وسائل التواصل الاجتماعي فقد قفز التسويق قفزات هائلة، وبالتالي انتشرت حُمّى الاستهلاك والمادية في العالم أجمع، واخترقت كل طبقات المجتمع، بدلا من كونها محصورة في المجتمعات الرأسمالية أو الطبقات المخملية في المجتمعات الأخرى.
يعتمد فنّ التسويق على فهم نفسية الإنسان وكيفية التلاعب بها بإثارة رغبته في الحصول على سلعة ما، وشعوره بالحاجة الشديدة لها، حتى يقرر شراءها وهو يظن أنه مُختار، بينما هو في الحقيقية مُرغَم وواقع تحت تأثير التسويق، وتضمن الشركات عن طريق التسويق تنميط سلوك الإنسان، أي التأثير عليه ليكون الشراء عادة عنده وليس سلوكا عارضًا، من أجل ضمان عدم تكدّس السلع.
من أهم الأمور التي يعتمد عليها التسويق تأثّر الإنسان بالبيئة من حوله مهما كانت قوة قناعاته الداخلية، فهو يتأثر بالصور التي يراها، والسلوكيات التي يقوم بها الناس في مجتمعه، فمثلا قبل عدة سنوات كانت المرأة العاقلة حتى لوكانت غنية ميسورة لايمكنها أن تدفع آلاف الريالات لشراء حقيبة، ولا يمكن أن يوافق الأب العاقل على إقامة حفلة لابنه في فندق فخم لمجرد أنه تخرج من الروضة، لكننا اليوم نرى هذه السلوكيات شائعة جدا لسبب واحد: لأن الجميع يفعل ذلك، فقد تم تنميط سلوكيات المجتمع وتحول الإسراف والاستهلاك لعادات راسخة يصعب اجتثاثها رغم تأذّي الجميع منها.
يبدأ الأمر عادة بمجموعة صغيرة: نجوم التلفزيون أو السينما أو الأثرياء جدا، ثم مشاهير التواصل الاجتماعي، ثم يتطبّع المجتمع على السلوك وينتقل لعامة الناس، وهؤلاء بالذات -أعني عامة الناس- يسوّقون للشركات من جيوبهم الخاصة، فهم يشترون السلع بمالهم، ويصوّرون بجوالاتهم، فينتشر السلوك الاستهلاكي في المجتمع انتشار النار في الهشيم، وترتفع المبيعات ويزداد الاستهلاك، ولاتمضي سنوات قليلة حتى يُعدي الأجربُ السليمَ، ولا تكاد تجد عاقلا إلا من رحم ربي.
تعد حُمّى الاستهلاك حديثة نسبيا في مجتمعاتنا العربية، فهي حدثت أولا في المجتمعات الغربية التي تحكمها الأنظمة الرأسمالية وعلى رأسها: الولايات المتحدة الأمريكية، وقد قويت في نهاية القرن العشرين، ثم تضخّمت مع الألفية، ووردت إلينا مع الانفتاح الإعلامي، وقد تحدّث مفكرون عدة عن هذا الأمر وتأثيره على الأفراد والمجتمعات، ومنهم الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي وصف التسويق وإشاعة سلوك الاستهلاك بأنه (امبريالية نفسية) بمعنى استعمار نفسي، فهو يقول إن الاستعمار العسكري الذي يُنزِل الجيوش إلى الأرض بهدف نهب ثروات البلد قد ولّى عهده، وحلّ محلّه الاستعمار النفسي الذي يحتل عقل الإنسان ومشاعره ويجعله يهب ماله طوعًا للشركات، بل ويسعى لزيادة دخله من أجل المزيد من الاستهلاك وتحقيق الربح للشركات، وهذا اقتباس من كلام المسيري رحمه الله، وأرجو أن يدرك القارئ أن كلمة امبريالية تعني: استعمار
إن أبعاد الامبريالية النفسية أكثر عُمقًا وشمولا من الامبريالية العسكرية، فهي تنطلق من الإيمان بأن الهدف من الإنتاج هو الاستهلاك، وأن الهدف من تزايد الإنتاج هو تزايد الاستهلاك، وأن حياة المرء تكتسب معنى إن هو استهلك، ومزيدًا من المعنى إن هو صعّد استهلاكه (وقد عُرّفت التنمية والحداثة بأنها ثورة التوقعات المتزايدة)، وأن الإنسان أساسًا حيوان اقتصادي جسماني لايبحث إلا عن منفعته الاقتصادية ولذته الجسدية، وأن سلوكه لابد أن يصبح نمطيا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع، هذا الإنسان لايهدف في حياته إلا إلى تحقيق المنفعة واللذة، ويرى أن خلاصَهُ يكمن في ذلك، ولذا كانت الحاجة أم الاختراع في الماضي، أما في هذا الإطار فالاختراع هو أبو الحاجة، إذ لابد أن تظهر سلعة جديدة كل يوم، ومن هنا يدخل الإنسان دائرة الإنتاج التي لاهدف لها، والآخذة في الاتساع إلى مالا نهاية. (المذكرات، ص 256)
سأضرب في الفقرات التالية مثالا لخلق السلوك الاستهلاكي وهو مثال ( الاحتفالات والهدايا)، ويمكن للقارئ أن يقيس بناء عليها سلوكيات استهلاكية كثيرة كالهوس بالماركات، والأجهزة، وإدمان السفر والمطاعم، وعمليات التجميل وأدوات الزينة والملابس الفاخرة، و كل الكماليات التي أصبحنا نراها ضرورة وقد عاش أجدادنا آلاف السنوات بدونها.
ثقافة الاحتفال وتبادل الهدايا موجودة في كل الثقافات والشعوب، وقد حثّ شرعنا المطهّر على الاحتفال بالأعراس والعيدين، وأباح الاحتفال بالمناسبات بشكل عام إلا مادلّ الدليل على حُرمته، كما حثّ على الإهداء وقبول الهدية لأن ذلك مما يقرب القلوب لبعضها وينشر المحبة، لكن الثقافة الاستهلاكية قفزت بهذا الأمر الطبيعي الجميل إلى مستويات ظهر فيها الإسراف من وجهين: الأول هو إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال، والثاني: الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا، بمعنى استغلال عادة موجودة من القدم، والقفز بها كمّا وكيفا لغرض الربح المادي.
إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال:
إن ترويج ثقافة الاحتفال الدائم، أمر تسويقي بحت، الهدف منه حثّ المستهلك على الاستمرار في الشراء لضمان رواج السلع التي تقذفها المصانع كل يوم، فالمستهلك لايخرج من مناسبة إلا ليدخل في دوامة مناسبة أخرى، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، تستفيد الشركات استفادة عظمى من توزيع المناسبات المختلفة على مدار العام: يوم الحب، يوم الأم، الكرسماس، يوم الشكر، الهالوين، يوم الأب، يوم العمال، يوم المعلم…قائمة طويلة من المناسبات العامة، تنشط فيها الأسواق، وتُقدّم العُروض والتخفيضات، وتروّج الإعلانات.
كما تُشجّع ثقافة الاحتفال بالمناسبات الخاصة وإيجاد أي مبرر للاحتفال، فمن الممكن مثلا أن تقيم أمٌّ حفلة بمناسبة تعوّد طفلها على استخدام الحمام، أو تقيم أخرى حفلة طلاق، أو حفلة توديع العزوبية، أو حفلة تقيمها الصديقات بمناسبة مرور عقد على صداقتهن، أو بمناسبة وصول عدد المتابعين لكذا…وهكذا قائمة طويلة لاحتفالات متقاربة جدا في زمنها، وفي كل عام ترى عجبًا من الإبداع والتقليد في اختراع المناسبات حجة للاحتفال، وقد سرى هذا الأمر لمجتمعنا فأصبحنا نسمع بدعا جديدة من الاحتفالات المستمرة لمناسبات تشعر أنها اختُلِقت اختلاقا لمجرد الاحتفال، بل ويتعدى الأمر ذلك للاحتفالات التي تخالف الشرع كعيد الحب، أو ابتداع احتفالات دينية لم يرد بها الشرع كاستقبال رمضان مثلا.
الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا:
أمر آخر أود لفت الانتباه للمبالغة فيه، وهو أن الهدايا والحفلات أصبحت تتجه -سنة بعد أخرى- للبذخ والمبالغة، حيث لم تعد الهدية المتواضعة أو الحفلة البسيطة مُقنعة، فالجميع يتوق لإعطاء واستقبال هدايا باهظة الثمن، دون مراعاة الحالة المادية للأسرة أو الفرد، فتوقعات الجميع ارتفعت ولابد من تلبيتها، تصوروا كيف يمكن لأب بدخل متوسط لديه خمس بنات مثلا، أن يلبي رغباتهن في الاشتراك مع صديقاتهن بحفلات فخمة، وهدايا ثمينة، ثم هدايا رمضان أيضا ؟! والأمر لم يقف عند الإسراف في الهدية فحسب، بل في طريقة تغليفها المتكلفة جدا والتي لافائدة منها سوى التصوير.
أجزم أن كثيرا من العقلاء قد تأذّى من انتشار حُمّى السلوك الاستهلاكي في مجتمعنا، فآثاره وخيمة، أخطرها على الإطلاق تعظيم قدر الدنيا وزينتها في القلب، وهذا يصدّ عن الغاية الكبرى وهي الآخرة، وقد سمّى المسيري المادية في الفكر الغربي بــ(الفردوس الأرضي) حيث يقوم الحُلُم الأمريكي على فكرة تحقيق السعادة الفردية المطلقة في هذه الدنيا، فالحياة المثالية تقوم على تحقيق النجاح الشخصي والثروة الطائلة وكل مايتمناه المرء من ماديات، حيث تخلى الإنسان الغربي عن فكرة الفردوس السماوي (الجنة) وقرر السعي للفردوس الأرضي في الدنيا.
ومنها أيضا الإرهاق المادي الذي يُثقل كاهل الأفراد والأسر، ويجعلهم يشعرون بالحاجة أو الفقر رغم الغنى أو الكفاف، لأن التوقعات والمتطلبات تتزايد عاما بعد عام، مما يُشعر الفرد بعدم الاكتفاء، والحاجة لدخل إضافي، وقد يجرّ هذا لإرهاق المرأة أيضا بضرورة السعي لزيادة دخل أسرتها إضافة لأعبائها الأسرية، أو الرجل بضرورة البحث عن دخل إضافي لتلبية الحاجات المتزايدة، كما يجرّ السلوك الاستهلاكي لاستنفاد مدخرات الأسرة في الكماليات، وإهمال الضروريات كشراء مسكن أو ادخار مبلغ لقادم الأيام.
ولاتقف آثار حُمّى الاستهلاك هنا، بل تمتد لتغزو نفس الإنسان، وتشعره بالدونية عندما لايستطيع مجاراة غيره، مما قد يصيبه بأذى نفسي كبير، قد يتطور للاكتئاب والقلق والانطواء، وتمتد للعلاقات الاجتماعية فتجعل تقييم المرء في المجتمع ومكانته قائمة على مستوى معيشته، لا على أخلاقه وقرابته وسنّه وغيرها من الاعتبارات الصحيحة، والحاجة للتقدير أساسية وعميقة في نفس الإنسان، فإذا لم يجد التقدير إلا بالمادة فسيبحث عنها ليضمن مكانته، وماظنك بأخلاق مجتمع لا يبحث أفراده إلا عن المال، وما يمكن أن يجلبه المال من ماديات ومكانة مصاحبة؟ وما ظنّك بالقيم التي سيتربّى عليها جيلٌ ولد ونشأ وكبُر في ظل هذه الثقافة؟
آمل أن أكون قد وفقت في إلقاء نظرة على هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه، لكنني لن أختم المقال دون وصف طريقة الخروج من هذا النفق، و بيان دوري ودورك أيها القارئ في إنقاذ مجتمعنا منه، ولعلي أوجز هذا الدور في ثلاث مراحل هامة:
أولا: إرادة التغيير:
لابد أولا من إدراك أننا في مشكلة، وعدم التعامي عنها أو الرضى بها، فالاعتراف أول طرق العلاج، وأظن أن كثيرا منا تجاوزوا هذه الخطوة ولله الحمد، يأتي بعدها اليقين بالقدرة على التغيير بإذن الله، لا تستسلم وتظن أن ثقافة الاستهلاك والماديّات حتمٌ لازمٌ ليس أمامنا إلا الاستسلام له أو الاكتفاء بالنقد الخافت.
ثانيا: بناء الوعي:
لابد من التذكير المستمر بحقيقة الدنيا وأنها دار ممر لا مقرّ، وأن المسلم فيها مسؤول عن وقته وماله وتصرفاته، وأنه عبدُ لله، لا لهواه وشهواته ومايفرضه عليه الإعلام والمجتمع، ثم التثقيف بمسألة الرأسمالية والاستهلاك، وتأثير وسائل الإعلام على نفسية الإنسان، ومشاهدة الأفلام الوثائقية أو قراءة الكتب التي تُعمّق فهم الموضوع، ولاعذر لإنسان في عصر المعرفة هذا أن يبقى جاهلا بأساليب التلاعب بوعيه ويرضخ لها، ثم محاولة نشر هذه الثقافة في الأسرة والأبناء والمجتمع بحسب مستوى تأثير الإنسان، إن بناء الوعي مرحلة جوهرية، لأن إدراك جذور المشكلة ووسائلها يُشعر بالقوة تجاهها، وكما أن المجتمع الأمريكي سَبق العالم في دخول نفق الاستهلاك، فهو سبق العالم أيضا في التنبّه لآثاره الخطيرة ومحاولة الخروج منه، ويبدو ذلك في تنامي اتجاه التقليل أو مايسمى بـ minimalism وهي ثقافة جديدة آخذة في النمو هدفها الخروج من دائرة الاستهلاك، وقد كتبت مقالا عنها (هنا)، ولابد من تذكير النفس والآخرين بأهمية تقدير نعمة المال، وأن النعمة معرّضة للزوال، وأن شُكرها هو حفظها لا إضاعتها، فالفقر والجوع خطرٌ يهدد الأمم في كل زمان ومكان، نسأل الله العافية وأن يردّنا إليه ردّا جميلا.
ثالثا: سلوك التغيير:
وهذه هي الحلقة الأصعب، إذ يمكن أن نريد التغيير، ونثقف أنفسنا، لكننا نفوسنا تضعف عند التطبيق، ونستمر في السلوك الاستهلاكي، بل وننشره دون أن نعلم، وهنا لابد من المجاهدة والموازنة، لابد أولا من إغلاق الصنبور والتخفف من متابعة الحسابات التي تشجع على الاستهلاك وتزيد التعلق بالدنيا وزينتها، واستبدال ذلك بسلوكيات تعزز الجانب الإيماني، والعقلي، والصحي، كتلاوة القرآن وقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم القراءة، والدراسة، والرياضة، وممارسة الهوايات، إن وقتا طويلا يضيع مع وسائل التواصل التي تُضخّم جانب المادة في نفوسنا، مما يُضمر بقية الأبعاد في شخصية الفرد، ويضعف أهميتها في المجتمع.
لابد أيضا من تعويد النفس على الصبر، وتأجيل بعض الرغبات لحين التأكد من أهمية شراء السلعة المعينة، كما ينبغي ترك التبذير، والإنفاق بما يتلاءم مع الدخل فقط، وألا نكلف أنفسنا أو أهالينا مبالغ طائلة لمجرد اتباع الهوى ومجاراة الناس أو حب التفوق عليهم، ولنجعل شعارنا (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ )، لا تستهن بدورك، فأنت قدوة، إن تبسيطك لحياتك ورفضك لمجاراة السَّفَه الاستهلاكي، دليل وعيك، وسيجعل الكثيرين يقتدون بك، كما أن رفضك هذا تعبيرٌ عن قوتك واستقلالك أمام من يريد استعمار نفسك والاستيلاء على مافي جيبك.
كما أودّ أن ألفت الانتباه لسلوك قد يفعله المرء دون قصد إشاعة السلوك الاستهلاكي عند الناس، لكن تأثيره عظيم جدا، وهو التصوير والنشر، إن نشرك لصور الحفلات والهدايا والمشتريات الثمينة والماركات والسفر والمطاعم وكل ماشابه ذلك له أثر كبير على المتلقي، ولعلك توافقني في أن الصورة تخلق العدوى، وأن حسابات وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تطبيع المجتمع على عادات الاستهلاك كما لم يفعل أي شيء آخر، لذلك لا تستهن بدورك، أوقف تصوير أي سلوك استهلاكي ونشره، واجعل نيّتك في ذلك مساعدة المجتمع على التخلص من هذا الداء، واعلم أن الله لايضيع عنده شيء ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7).
في اليوم الثاني من شهر أبريل رأيت وسما في تويتر بعنوان #تحدي_الكتابة، وهو تحدّ تخوضه مع نفسك لمعرفة مدى قدرتك على الالتزام بالكتابة اليومية لثلاثين يوما متتالية، فأعجبتني الفكرة لأن في ذهني عدة موضوعات أود الكتابة عنها لكنني أسوّف وأؤجّل، فرأيت الأمر فرصة لاعتياد الكتابة بوتيرة أسرع، وقد فصّلت الأمر في المقال الأول بعنوان استعن بالله ولاتعجز (هنا).
يقتضي التحدي أن تكتب ثلاثين موضوعا، في كل يوم موضوع، لايهم إن كان طويلا أو قصيرا، المهم هو الالتزام، وها أنا اليوم وصلت لليوم الثلاثين، ولكنني لم أكتب إلا ثلاثة عشر موضوعا، يعني نصف المطوب تقريبا، فهل معنى هذا أنني فشلت؟ لا أظن، فقد كتبت ثلاثة عشر مقالا بواقع مقال كل يومين ونصف، في حين أنني كنت أمكث شهرا ونصف أو شهرين ولم أكتب شيئا، وهذا بحدّ ذاته إنجاز عظيم ولله الحمد، فماذا تعلمت من هذه التجربة؟ أو ما الذي كنت أعرفه سابقا وأثبتته لي هذه التجربة؟
ارفع سقف طموحك:
حين ترفع سقف أهدافك، ترتفع إنجازاتك تلقائيا حتى لو لم تحقق الهدف بالضبط، لكنك ترتفع عن أدائك السابق، وضعت في ذهني ثلاثين مقالا، ولكنني انشغلت أياما، وتكاسلت أياما أخرى، فحققت نصف الهدف، ولو قلت إنني سأكتب كل شهر لما كتبت إلا كل شهرين، وهكذا، وهذا مايسميه علماؤنا الأوائل (علوّ الهمّة) فمن علت همّته زاد استعداده وتحمله وإنجازه، حتى لو يبلغ ما يريد بالضبط، ومن درس علم التخطيط عرف إن إنجاز الهدف بنسبة 100% أمر شبه مستحيل، ولكن القوة في مقاربته قدر الإمكان.
استمر، حتى لو تعثّرت:
في الأيام الأولى من التحدي، التزمت فعلا بالكتابة اليومية، لكن بعد بضعة أيام، انشغلت قليلا، فمرّ يوم كامل والذي يليه دون تدوين، لكنني عدت مباشرة ولم أعبأ بأنني فوّت يومين، مما ساعدني على الاستمرار، لم أقل إن الأمر انتهى لأنني خرقت شرطا أساسيا، عدت ببساطة شديدة وكأن شيئا لم يكن، وهذا أحد أهم شروط الاستمرار في إنجاز الأهداف، كثير منا يبدأ حمية غذائية مثلا، ولنقل إنها تقتضي ألا يتناول أي وجبة مفتوحة خلال الثلاثة أسابيع الأولى، لكن يحدث ظرف طارئ يفسد الأمر ليوم فيأكل وجبة مفتوحة ويخرق النظام، بعضنا يشعر بأن الأمر كله انتهى، فيترك الحمية ويعود لسابق عهده، وهذا يفشل في الالتزام، التصرف الصحيح هو أن تعود بسرعة فحسب ولاتتطلب الكمال، فالرجوع عن الخطأ خير من التمادي فيه، والاستمرار في المضي نحو الهدف -ولو بتعثّر- أفضل من التوقف، وقد تحدث الأخ علي محمد علي عن هذا الأمر تحديدا في هذه الحلقة بعنوان: أكمل مابدأت! (هنا).
لابد من التعلم بالعمل:
ذكرتُ في المقال الذي بدأت به التحدي، أن الإنجاز يُكسبك الخبرة عن طريق التعلم بالعمل؛ لأن الممارسة المكثفة هي التي تقود للإتقان، حيث تكتشف المشكلات والأخطاء أثناء العمل وتعمل على إصلاحها، ومن الأمور التي لاحظتها أثناء هذا التحدي هي أنني أواجه انفلات قلمي أحيانا للاستطراد بعيدا عن فكرة المقال الأساسية، فأحاول كبح جماحه والعودة به، ولم أكن أشعر بهذه المشكلة سابقا لأنني كنت أكتب على فترات متباعدة.
في نهاية هذا التحدي، أشكر الرائعة أراك الشوشان، ومدوّنتها عليّة (هنا) حيث عرفت التحدي عن طريقها وإن لم تعلم هي بذلك، وأشكر زوار المدوّنة، ومن قرأ المقالات أو نشرها أو علّق عليها أو من أبدى مقترحا أو رأيا، وقد سعدت بهذه التجربة، فالكتابة تبهج النفس رغم الجهد الذي يُبذَل فيها، و سأعود من الغد للوضع الطبيعي بإذن الله بعد جرعة التدريب المكثفة على الالتزام، والتي كنت أحتاجها حتى مع حبي للكتابة، وفي ذهني أن أكتب أسبوعيا كل أربعاء بإذن الله، وأسأل الله أن يكون ما أكتبه نافعا وممتعا.
كتبت تغريدة في تويتر قبل عدة أيام أبديت فيها استغرابي من الغلو في أهمية عمل المرأة اليوم واعتبار وظيفتها ضرورية كالماء والهواء، حتى إن المرأة التي لم تتوظف بعد تُعدّ في أزمة تنتظر انفراجها، أما من ترفض الوظيفة وتفضّل المكوث في المنزل أو عدم السعي لها فتلك مجنونة، وختمت التغريدة بقولي: ما الذي حل بالناس؟
كانت الإجابة حاضرة في ذهني: الأمر الذي حلّ بالناس هو مجموعة من التغيرات الثقافية والاجتماعية بشأن المال والمرأة والأسرة، اختلفت المواقف التي تبناها الأشخاص الذين تفاعلوا مع التغريدة في الردود أو على الخاص أو في حسابي في صراحة، فمنهم من يؤيد استغرابي ويقول إن التكالب على الكماليات هو السبب، ومنهم من أرجع الأمر إلى احتقار دور ربة المنزل، أما المعارضون فقالوا إن الوظيفة أضحت ضرورة قصوى اليوم بسبب غلاء الأسعار وصعوبة المعيشة واستحالة قيام الأسرة المعاصرة بعائل واحد، ومنهم من قال إن الوظيفة أمان من نوائب الدهر و أن المرأة لا تضمن استمرار زواجها أو وفائه أو حياة والدها، فئة أخرى قالت إن جلوس المرأة في المنزل يعد سلوكا اتكاليا، وأنه من العيب عليها -مادامت قادرة على الكسب- أن تقبل أن ينفق عليها أحد!
هذه الردود -المؤيدة والمعارضة- كلها ردود تعبّر على الأقل عن فهم لطبيعة السؤال المطروح، لكنني واجهت أيضا ردودا غير منطقية، تنمّ عن استعجال شديد ورد قبل الفهم -كما هي العادة في تويتر للأسف- هذه الردود فهمت من استغرابي من تعاظم أهمية عمل المرأة أنني أطالب بإلغاء الوظائف النسائية وأطلب من جميع النساء التخلي عن جميع الوظائف، مثل:
لماذا توظفتِ إذا مادمت ترين الوظيفة عيبا؟ (متى قلت إنها عيب؟!)
هل تريدين من المرأة المحتاجة أن تتسول في الشوارع بحثا عن لقمة عيش لها ولأبنائها؟ (كيف قفزتم لهذا الفهم؟)
ليس كل الناس مثلك أثرياء! (من قال إنني ثرية؟)
كثير من الردود المؤيدة لضرورة عمل المرأة انطلق أصحابها من أهمية الوظيفة على المدى القصير في كون أهميتها نبعت من الاحتياج المالي المعاصر وتعقيد الحياة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا، بدليل أننا نرى اليوم كثيرا من بنات وزوجات المقتدرين والأثرياء يسعين للوظائف سعيا محموما مماثلا لغيرهن، وأن النساء اليوم يقبلن بوظائف مُهينة أو مختلطة لم يكنّ ليقبلن بها قبل عدة سنوات ولو كُنّ أشد فقرا.
إن اختزال تعاظم أهمية عمل المرأة اليوم في مسألة الاحتياج المالي والتغيرات الاقتصادية نوع من التسطيح، يجعلنا لاندرك جذور الأمر ولا ثماره، ولايمكن أن يقول به إنسان يدرك أسباب التغير الثقافي والفكري للمجتمعات، ويدرك دور الآلة الإعلامية في محو ثقافة الشعوب وإحلال ثقافة أخرى بديلة محلها، من المهم أن نمارس مهارات التفكير العليا، أن ننظر للأمر من الأعلى لندرك جذور هذا التغير، ومظاهره وثماره، لأن المجتمعات الواعية فقط هي القادرة على الإصلاح والتغيير، أما المجتمعات التي تستسلم للتغيرات دون أن تعيها، أو تفكر في قدرتها على نقدها وتعديلها، فستبقى ضحية لها.
هناك أربع أفكار مترابطة يمكن أن نُرجع لتغلغلها في المجتمع كثير من التغيرات الثقافية ومنها اعتبار وظيفة المرأة ضرورة، وسأعرضها في هذا المقال بشكل مبسط بعيدا عن اللغة الأكاديمية أو الفلسفية، لأنني على قناعة بأهمية وعي جميع الناس لمظاهرها وتأثيراتها، ولعلها تقود القارئ للتوسع في البحث حولها فأنا لن أستطيع في مقال أن أفصّل جذورها وتأثيراتها، إنما أردت لفت الانتباه لعمق الموضوع وأهميته، هذه الأفكار منتشرة فعلا بيننا لكننا نظنها أحيانا مجرد تغير اجتماعي عفوي، ولا ندرك جذورها الفلسفية العميقة، وكما قال رتشارد تارناس، مؤلف كتاب آلام العقل الغربي: “لابد لكل جيل من أن يُعاين ويُقلّب مرة أخرى، من موقعه المميز الخاص، جملة الأفكار التي شكلت فهمه للعالم” لهذه الأفكار علماؤها ومنظّروها، ومروّجوها في العالم، وبالتالي ينبغي أن لا نتعامل معها على أنها قدر محتوم، بل أفكار لنا الحق في رفضها أو قبولها أو تعديلها:
1- المادية Materialism:
تقوم الفلسفة المادية على تعظيم أهمية المادة بدلا من العقل أو الروح، فلا يهم ذكاؤك وعلمك، أو تدينك وأخلاقك، قيمتك تتحدد في الماديات التي تتملكها: منزلك، سيارتك، أثاث بيتك، نوعية ملابسك، تتبين لك مظاهر الفلسفة المادية عندما تتابع مشاهير انستغرام وسناب شات مثلا، فقد بنوا شهرتهم على مايمتلكونه من ماديات: سفر، مطاعم، مجوهرات، قصور، ماركات عالمية، وكل مظاهر الحياة المترفة، عندما يتعرض عامة الناس ليوميات هؤلاء، فإنهم يتأثرون تدريجيا، ويزهدون في معيشتهم، وبالتالي تشعر المرأة أن نفقة والدها أو زوجها غير كافية، فطموحاتها ومعاييرها أكبر بكثير، فتصبح الوظيفة ضرورة قصوى لإشباع الحاجة للماديات.
إن الفلسفة المادية متجذرة في البشر، لكنها في الوقت المعاصر أصبح لها آلة إعلامية ضخمة تخدمها وتروّج لها، وشركات عالمية تستفيد اقتصاديا من بث النهم الاستهلاكي في الناس، وإبقائهم زبائن جائعين للسلع والكماليات باستمرار، ترتبط المادية بالرأسمالية والهوس الاستهلاكي، وهذه المادية أحد أهم أسباب توق النساء لدخل مادي خاص لم تكن معظمهن بحاجته قبل سنوات قليلة، كما أن النهم الاستهلاكي أثّر على الثقافة المالية للأسرة، فأصبحت بعض الأسر غير قادرة على الادخار للأمور الأساسية كبناء مسكن مثلا أو تسديد فواتير الخدمات الأساسية، ومضطرة للاستدانة نهاية الشهر رغم ارتفاع الدخل، لأنها تنساق مع الكماليات والمظاهر وتبذل فيها معظم دخلها، وبالتالي يظن أفرادها أن الحل في توظيف المزيد من أفراد الأسرة بدلا من معالجة الخلل الأساسي، مع أننا نرى اليوم أيضا أسرا تمتلك المسكن والحياة الكريمة -غير المسرفة- وليس لها عائل إلا الأب وبوظيفة عادية، في كثير من الحالات يعود الأمر لحسن تدبير المال لا إلى مقداره، فالحل ليس في إضافة عبء جديد للمرأة وإشعارها بأن أسرتها مضطرة لوظيفتها، بل في تثقيف الأسرة وتوعيتها.
2-الليبرالية Liberalism:
يقوم الفكر الليبرالي في الأساس على الحرية والمساواة، لا على العدل والحق، فحرية الفرد مقدمة في الفكر الليبرالي على تماسك المجتمع، وتعطيل المرأة عن العمل عندهم يعني ظلم النساء وفقرهن وحصر المال في أيدي الرجال، إذ لابد من المساواة في ذلك، وليس هناك وظائف مخصصة للنساء وأخرى للرجال، فالمساواة تقتضي أن كل عمل يعمله الرجل، فإن من حق المرأة القيام به، والعكس صحيح، فلابد للرجل من أن يتقاسم عمل المنزل مع المرأة، ولابد من تمكين المرأة من مهن الرجال كأن تكون جنديا في حرب، أو لاعبا لكرة قدم، أو عاملة في محل إصلاح سيارات أو بائعة في سوبرماركت، أو حارسة أمن، وقِس على هذا عشرات المهن التي بدأت تُسوّق لبناتنا اليوم.
3- النسوية Feminism:
النسوية فكرة ولدت من رحم الليبرالية، ولكن مطامعها أعلى، فهي لاتطمح للمساواة فحسب، بل لاستقواء النساء في العالم، يمكن تلخيص فكرة النسوية بأنها محاولة لنبذ قوامة الرجل في الأسرة، وإقامة حياة المرأة على أساس الاستغناء عن الرجل، فربة البيت التي تحتاج النفقة من زوجها، ذليلة في نظرهم وخاضعة للنظام الذكوري أو السلطة الأبوية، وعليها فورا أن تبحث عن مصدر رزق يجعلها قادرة على الاستغناء عن ولي الأمر، فالاستقلال المادي بوابة الاستقلال الحقيقي عن سلطة الرجل، ولاتعترف النسويات -أو النسويون- بتكامل الأدوار في الأسرة، بل لابد من (تمكين المرأة) وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في مؤتمر السكان والتنمية عام 1994 ثم ألِفَتهُ الأسماع بعد ذلك دون الانتباه لدلالاته الحقيقية وآثاره، وقد ارتبط هذا المصطلح بالتنمية الاقتصادية، حيث تُقاس فاعلية الفرد في المجتمع بمدى قدرته على كسب الدخل المادي فحسب، فربة المنزل تسمى عاطلة لأنها لاتكسب كسبا ماديا، أما دورها المعنوي في بناء الأسرة ورعاية المنزل وتربية الأبناء فلايعد شيئا لأنه لايمكن قياسه بلغة الاقتصاد والمال.
ويمكن ملاحظة تأثر المجتمع بهذا الفكر من انتقال مركزية الزوج والأولاد في حياة المرأة المسلمة إلى مركزية الوظيفة، ففي السابق كانت مكانة المرأة يحددها من هو زوجها وكم عدد أولادها، أما اليوم فالمكانة تتجه لمنصبها الوظيفي أكثر، وبالتالي قلّ الحرص على تأمين مستقبل المرأة بزوج وعدد كبير من الأولاد يجنبونها غوائل الزمن، وانتقل شعور الأمان إلى الوظيفة ومستواها المادي، وأصبح الوالدان لايطمئنان على ابنتهما بزواجها وإنجابها كما كان الأمر سابقا، بل بتأمين وظيفة لها، كما انتقلت الأسئلة الفضولية في مجتمعات النساء من الاستفسار عن سبب تأخر الزواج أو الإنجاب، إلى الاستفسار عن سبب الجلوس بلا وظيفة، كما انتقل شعور الحسد من نوعية الزوج وعدد الأولاد إلى نوعية الوظيفة ودخلها المادي، أما الطلاق فقد قلّت الحساسية منه وانتقل التجريم إلى الاستقالة أو التقاعد المبكر، أنا لا أؤيد اعتبار الزوج والأولاد أمانًا، فالأمان من الله، لكنني أتأمل تغلغل الفكر الغربي إلى مجتمعنا المسلم المحافظ، واحتلال الوظيفة لمكانة الأسرة وقفزها لتكون أولوية في حياة المرأة.
4-التقدمية Progression:
التقدمية هي الفكرة الغبية الأم التي تسوق لكل الأفكار الثلاث المذكورة أعلاه، فملخص التقدمية هو الإيمان بأن الأفكار الجديدة هي الصحيحة، وأن الأفكار القديمة هي الخاطئة، وأن مايفعله الناس في عام 2019 أفضل وأعقل وأرشد مما كان يفعله الناس عام 1950 مثلا، ولذلك تروج الأفكار الثلاث الأخرى لأنها حديثة، ومن ثمّ لابد لك من استبدال قناعاتك القديمة البالية حول الأسرة والمرأة والمال بقناعات أخرى جديدة تلائم العصر، لأنها جديدة ولأن العالم يتقدم للأفضل بلا شك، وقد فصّلت الحديث عن الفكرة التقدمية في مقال سابق (هنا).
كثير من الناس في مجتمعات المسلمين قد تشرّب هذه الأفكار الأربع أو بعضها -بدرجات متفاوتة- تدريجيا و خلال سنوات طويلة، لقد تغلغلت في أذهاننا بطريقة ناعمة، عبر المسلسلات والأفلام ووسائل التواصل الاجتماعي والكتب والروايات والاختلاط بالمجتمعات الأخرى، ثم بمشاهدتها على أرض الواقع، والتسليم بهذا الواقع كأمر ينبغي مجاراته واللحاق بركبه بدلا من نقده وتمحيصه وامتلاك حرية رفضه أو تعديله، إننا مجتمعات تابعة -ولابد من الاعتراف بهذا- نستقبل مايرد إلينا دون أن نحاكمه بدقة إلى مرجعيتنا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أحيانا بسبب الجهل بأحكام الشريعة وإهمال تعلمها، وأحيانا أخرى بسبب الانبهار بالأفكار الجديدة وعدم الرغبة في نقدها؛ لأن نقدها يعني إمكانية رفضها، ورفضها يعني أن نوصم بالتخلف وهو وصف نحاول الفرار منه بسبب الشعور العميق بالنقص أمام المُنجَز المادي الغربي، وخضوعنا له حتى في تعريف التقدم والتخلف.
هذه المفاهيم المذكورة أعلاه تخالف أصول الإسلام وثوابته ولا يغرّك أن بعض تفاصيلها موجود في الإسلام، فالإيمان بالفكرة المادية يعني تقديم الدنيا على الآخرة، والمادة على الروح، كما أن الفكرة الليبرالية والنسوية تنسف نظام الأسرة والميراث والحقوق والواجبات الثابتة شرعا بين الزوجين، فأدوار الرجل والمرأة في الأسرة في الإسلام قائمة على العدل لا على المساواة، فكل منهما يسد ثغرا مختلفا عن الآخر، وكل منهما يكمّل دور الآخر ولايطابقه، أما الفكرة التقدمية فهي تفرض أن الحكم على الأفكار بالرفض والقبول عائد لزمنها لا إلى مصدرها، فإذا كان الإسلام يوجب النفقة على الرجل ويجعل له القوامة على الأسرة، فإن الفكرة التقدمية تقتضي أن نرفض هذا وأن نساير الفكرة الأكثر حداثة: فالمرأة مسؤولة عن نفسها، وليس للرجل عليها أي قوامة، لماذا؟ لأن الفكرة الأولى قديمة وقد انتهت صلاحيتها، والفكرة الجديدة طازجة وصالحة للاستخدام، هكذا ببساطة ! وهذا مايفسر لك الانفصام الذي يعانيه كثير منا، فهو مسلم يحب الله ورسوله، لكنه -شعر أم لم يشعر- يتبنى أفكارا مخالفة لثوابت الإسلام ويعتبرها من المسلّمات لمجرد أنها أكثر حداثة، ثم يحاول ببؤس شديد أن يُحدِث بينها وبين الإسلام تلفيقا مصطنعا ليرتاح من تأنيب الضمير.
أرجو أن يكون القارئ أعقل من أن يستنتج أنني أرفض سعي النساء للتوظيف، فالإسلام لم يحرم كسب المرأة للمال: إما بالعمل، أو الميراث، أو التجارة، أو الهبة، وترك لها حرية التصرف في مالها، وأوجب على زوجها النفقة عليها حتى لوكان فقيرا وهي غنية، كما أن حديثي لايشمل الأسر التي لا عائل لها إلا المرأة، ما أريد لفت الانتباه إليه في هذا المقال هو أننا قبل الانفتاح الإعلامي الذي شجّع تدفق الأفكار السابقة إلى اذهاننا دون وعي، عشنا منسجمين مع ذواتنا، فلم تكن وظائف النساء ممنوعة: كان منا المعلمة، والطبيبة، وأستاذة الجامعة، وسيدة الأعمال، والبائعة في منزلها، لكن المنطق الفكري الكامن خلف وظائف النساء اختلف اليوم وتأثر بالأفكار المذكورة أعلاه: أصبحت الوظيفة اليوم وسيلة لإشباع النهم الاستهلاكي، فنفقة الرجل لم تعد كافية لإشباع الرغبات المتزايدة، كما أصبحنا نرى استسهال القبول بوظائف مُهينة ولاتناسب طبيعة المرأة وتفرض عليها الاختلاط بالرجال، وأصبحنا نرى من تسعى للوظيفة طلبا للاستقلال عن سلطة الأسرة وولي الأمر، وتعتبر إنفاق وليها عليها ذُلّا واتكالية مع أنه حق لها ليس لأحد فيه مِنّة، حقّ مشروع تماما كحق الموظفة في استلام راتبها من جهة عملها، والأهم من ذلك كله: أننا فقدنا الخيار المترف الذي كان يميزنا عن الرجال، كانت نساء الطبقة المتوسطة مثلي تختار أن تتوظف أو لا تتوظف، كنا نقيّم الوظيفة ثم نقرر رغبتنا في الالتحاق بها من عدمه، دون أن يلحقنا لوم أو تقريع، لأننا لم نكن تحت أي ضغط فكري وإعلامي يخبرنا أن الوظيفة أولى الأولويات، وأن الجلوس في المنزل يعني العطالة أو الذل أو الاتكالية، بعكس النساء في السنوات الأخيرة، فهن يشعرن بأن الوظيفة ضرورة قصوى، فيغرقن في متطلباتها ومتطلبات المنزل والأولاد الأخرى مما يسبب شقاء بالغًا كان بإمكانهن تجنبه لو عرفن أن الوظيفة اختيار لا اضطرار، وقد تناولت هذا في مقال سابق (هنا).
إن السعي المحموم لتوظيف النساء وإقناعهن بضرورة الاستقلال المادي عن الأولياء، والتقليل من شأن دور المرأة في بيتها، وقبول أي وظيفة حتى لو لم تناسب طبيعة المرأة، له آثار سيئة على المجتمع، ومن المعروف أن سبيل هدم أي مجتمع هو هدم النظام الأسري فيه وتفكيكه، وهو ليس أمرا عفويا، إنه أمر عُقِدت له المؤتمرات والاتفاقيات لسنوات عديدة، وسُخّرت له وسائل الإعلام لعقود، نحن الآن أمام تغيرات فكرية واجتماعية كثيرة ينبغي أن نتوقف لنعيها وندرك جذورها وثمارها لنستطيع تعديلها بما يتفق مع مرجعيتنا الإسلامية، لا أن نستسلم لها وننقاد، لابد أن ندرك أننا نمتلك الخيار للتغيير وإعادة هندسة حياتنا كما نريد، لا كما يُراد لنا.
يكثر اليوم الحديث عن أن الإسلام “دين اليُسر”، ويمتطي هذا القول أقوام لشرعنة الشهوات والشبهات وتطويع الشريعة لهوى النفوس، لكن اليُسر في الإسلام ليس مقصوده تطويع الشرع لهوى النفوس، بل مقصوده الأعظم: تيسير الاستقامة على الصراط المستقيم، بمراعاة طبيعة البشر مراعاة دقيقة، وهذا معنى ينبغي أن ننتبه له لنفهم يُسرَ الشريعة فهما صحيحا، ولعلي أوضّح ذلك في السطور التالية.
من رحمة الله بالخلق أن جعل فطرة التوحيد هي الأصل في نفوسهم، ثم أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن الحق أشدّ بيان، وختم الرسل والكتب بخير الأنبياء وأكمل الكتب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك”، كل ذلك لنسنتبين الصراط المستقيم، فلا ينحرف عنه إلا ضالّ، وجعل الله الشريعة مُيسّرة لنا ملائمة لطبيعتنا البشرية، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟
والشريعة في مجملها: أمرٌ ونهي، فإما طاعات نؤمَر بأدائها، أو معاصٍ نُنهى عن فعلها، فكيف جعل الله الشريعة ميسرة في ذاتها، مُراعية للطبيعة البشرية، مُساعدة للإنسان ليأتمر بالأمر وينتهي عن النهي بيسر وسهولة؟
في جانب الأوامر، يسّر الله علينا القيام بها، فلم يكلفنا ما لانطيق، فالصلاة مثلا، يؤديها كل مسلم بحسب وِسعِه: قائما أو قاعدا أو مضطجعًا، والوضوء كذلك: فقد يشق الوضوء بالماء لعدمه أو ضرره، فشرع الله التيمم تيسيرا للعباد، وكذلك شرع الفطر والقضاء للمريض الذي يُرجى برؤه والحامل والمرضع، وربط تكليف الحج بالاستطاعة، وتكليف الزكاة ببلوغ النصاب، وأسقط فرض الجهاد عن العاجز والأعمى ومن هو في مثل حالهم، وشرع الجمع والقصر في حال السفر، وجمع الصلوات في حال المطر الشديد، والقائمة تطول في أمثلة تيسير الله للطاعات على عباده كلٌّ بحسب حاله: والمراد من ذلك كله ليس اتباع هوى النفوس في الرغبة في التخفيف، بل تمكين المسلم من طاعة ربه بحسب حاله، فيبقى مطيعا لربه، مستقيما على الصراط المستقيم، بحسب استطاعته، وهذا تيسير عظيم لسبيل الجنة، ومراعاة لظروف البشر على اختلافها، لايمكن أن تصدر إلا من حكيم خبير.
أما في جانب النواهي، فقد يسّر الله علينا تجنب المعاصي بسُبُلٍ شتى، وقد راعى في ذلك طبيعة النفس البشرية مراعاة دقيقة تعجز عنها أرقى مدارس الطب النفسي، أو مؤسسات الإصلاح المجتمعي ومكافحة الجريمة، فلأن الله يعلم أن طبيعتنا البشرية تميل للشهوات، ونفوسنا ضعيفة، لايكفيها الإيمان القلبي وحده للكفّ عن المعاصي، فقد يسّر لنا اجتناب المعاصي بسدّ ذرائعها الموصلة إليها، فحين حرّم الزنا، حرّم سُبُلَهُ المفضية إليه: من إطلاق البصر، وخلوة المرأة بالرجل الأجنبي عنها، والخضوع بالقول، وفرض الحجاب، وكل هذه أوامر قد يراها الإنسان قيودًا، لكن في حقيقتها تيسير ورحمة، ففي مجتمع يسوده الحجاب، وتُغَضُّ فيه الأبصار عن النساء أو الصور المحرمة، سيكون اجتناب الزنا يسيرا لايحتاج عزيمة قوية، أما في مجتمع لايقوم بشرع الله، ويتعرض فيه الناس للفتن طوال الوقت فلن يصمدوا طويلا، ستنهار دفاعاتهم الإيمانية ويقعون في الحرام مع كثرة الأسباب الداعية إليه، ويكون عسيرا عليهم اجتنابه، وبذلك يكون التيسير في هذا الجانب بالتحريم لابالتحليل، لأن الله أعلم بطبيعة النفس البشرية، هنا يعلم الإنسان أن المؤسسات الإعلامية التي تتفنن في إثارة الشهوات بزعم تسلية الناس، إنما تُمعِن في إفساد المجتمع، وتعسير الاستقامة على الصراط المستقيم، والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28).
إن الله حين أباح الحلال، يسّر سُبُلَه، وحين حرم الحرام، سدّ ذرائعه، كل ذلك تخفيفا منه ورحمة وتيسيرا، لكننا نخالف أمر الله تعالى ونعكس الحال، فيصبح من العسير اجتناب المحرم، وقِس على المثال أعلاه أمورا شتى: فالتهاون في الالتزام بالشرع -والذي يُفعل بزعم تيسير الدين- يجعل من العسير اجتناب المعاصي، فالتهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشيوع الفساد الإعلامي، والتهاون في ارتكاب المنكرات بدءً بصغيرها وانتهاءً بكبيرها، ينشر المعاصي في المجتمع فيعسُرُ اجتنابها، وتعسُر تربية الأبناء على القيم الإسلامية الصحيحة.
ما أريد قوله هنا هو أن يُسر الشريعة أمر لايقاس بمدى مطابقتها لهوى النفوس، فقد علِمنا من رسولنا الكريم أن الجنة حُفّت بالمكاره، وأن النار حُفّت بالشهوات، ولو كان معنى اليسر موافقة هوى النفوس لانقلبت الشريعة رأسا على عقِب، قال القرطبي رحمه الله: “وحاصل الأمر: أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سُنَّته، ولا على منهاج شريعته”.
إن اليسر في الإسلام يهدف لتيسير سبيل الاستقامة على الصراط المستقيم، وبذلك نفهم التيسير في التحريم، كما نفهمه في الإباحة، وندرك أن كثيرا من قيود الشريعة تيسير لنا لا تعسير، حتى وإن كان فيها مخالفة لهوى نفوسنا، لأن الرجوع في بداية مشوار الخطأ أيسر من الرجوع عند التمادي فيه وامتلاء النفس به، والله تعالى يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).
ألم يقل لك أخصائي التغذية يوما إن مما يساعدك على الالتزام بالحمية الغذائية أن تُخرِجَ أكياس البطاطا المقلية من منزلك، وأن تحذف حسابات المطاعم من قائمة متابعتك، لأن وجودها يغريك ويضعف إرادتك؟!
تأملت يوما في سبب الفلاح في أمور الدنيا والآخرة، فوجدت أن له معادلة واضحة: حبس النفس عن لذّة عاجلة صغرى، من أجل تحصيل منفعة آجلة كبرى، وهذه المعادلة تصحّ على كل فلاح: الفوز بالجنة والنجاة من النار، التقوى و الاستقامة، تزكية النفس، حسن التعامل مع الناس، الإنجاز العلمي، حسن تدبير المال واستثماره، حفظ الوقت، حسن التعامل مع المصائب، الحفاظ على صحة البدن…. وخلافها من مؤشرات الفلاح الدنيوي أو الأخروي، والتي نطمح جميعا لتحصيلها، ووجدت أن صفة جوهرية تمثّل أساس الفلاح وتحقيق هذه المعادلة، هذه الصفة هي: الصبر، والصبر في اللغة: الحبس والمنع، والعقل كل العقل في الصبر، فالعقل معناه الحبس والمنع أيضا!
إن الاستقامة على شرع الله تتطلب الصبر: الصبر على طلب العلم الذي تعرف به الأوامر والنواهي، ومنه تكرار تلاوة القرآن وسماعه وكذلك الحديث النبوي، والصبر على العمل بهذا العلم: من اتباع الأوامر واجتناب النواهي، ومنه الصبر على المصائب، فالنفس تكره التكليف، وتحب الشهوات، وتبغض المصائب، ولا يقيمها على مُراد الله إلا الصبر، الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر عند نزول المصائب، إن الإسلام كله يتطلب الصبر على مقتضى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: في اعتناقها، والتمسك بها، والعمل بمقتضاها ومصارعة هوى النفس، وشياطين الجن والإنس الذين يصدون عن الصراط المستقيم.
والصحة النفسية التي هي أساس العَيش السعيد تتطلب صبرا على أكدار الدنيا، من فقد محبوب أو ابتلاء بمرضٍ أو ضياع مالٍ أو فوات مطلوب أو سوء حال، فالصبر يوطّن النفس على البلاء ويساعد على التعايش معه والتفكير السليم في الحلول الممكنة والخيارات والفرص المتاحة، ومواصلة الحياة، وهذا ما لايمكن تحصيله مع الجزع والتسخّط، وقد تفطّن غير المسلمين أيضا لأهمية الصبر والرضى في هذا المقام، وعدّوه أحد وسائل العيش السليم ومنع الاكتئاب، بل إن اللغة الانجليزية تستخدم كلمة واحدة لتصف المريض والصابر Patient !
أما العلم فلا يُحصّل إلا بالصبر، هل تعرف شخصا ملولا قد نال علما حقيقيا؟ روي عن حَبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنه أنه سُئل: بمَ أدركت العلم؟ فقال: “بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول“، وقد ألف الشيخ عبدالفتاح أبو غدة كتابا قيّما عنوانه (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) جمع فيه الأخبار التي تبيّن لك بجلاء أن هؤلاء العلماء لم ينالوا العلم براحة الأبدان، ولا يمكنك أن تجِد حافظا للقرآن – وهو أساس العلم- إلا وقد صبر طويلا على الحفظ والتكرار والمعاهدة والمراجعة، وقد قرأت في مذكرات المسيري رحمه الله أنه عكف على تأليف موسوعة اليهودية والصهيونية خمسة وعشرين عاما! نعم، استغرق تأليفه للكتاب ربع قرن، أي ثلث حياته رحمه الله! وإذا تأملت سِيَر العلماء المسلمين وغير المسلمين -قديما وحديثا- وجدت الصبر والتركيز وحبس النفس عن الملهيات ديدنًا لهم، إنها سنة من سنن الله في الكون، لاتحابي أحدا، وكم سبّبت قلة الصبر على مذاكرة العلم من ضعفٍ علمي، وتأخّر دراسي، وخسائر جمّة.
ماذا عن حُسن الخُلُق؟ إن الحِلمَ يتطلب صبرا عن الانفعال والغضب، وقول الحق يتطلب صبرا على نتائجه، والصمت عن الكلام المحرم أو اللغو يتطلب صبرا عن الميل الفطري للثرثرة، والكرم يتطلب صبرا عن شحّ النفس، والإحسان إلى الناس يتطلب صبرا عن الأنانية، والعفو يتطلب صبرا عن الانتقام، وحسن الإنصات يتطلب صبرا عن التشتت أو الرغبة في المقاطعة، وحسن الرد يتطلب صبرا عن الاندفاع في قول غير محسوب النتائج، والتغافل يتطلب صبرا عن شهوة التيقظ لزلات الناس، والرفق يتطلب صبرا عن التهوّر، وحفظ السر يتطلب صبرا على شهوة إفشائه…والقائمة تطول، حتى إنك لا تكاد تجد خلوقا -بالمعنى الحقيقي للأخلاق- إلا وهو صبور متأنٍّ هادئٌ في تعامله مع الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» رواه مسلم، هل يمكن أن يمتلك محاسن الأخلاق شخص لايصبر في ردود أفعاله وفي ما يتفوّه به من كلام؟! يقول علماء النفس إن التميز في العلاقات يتطلب منك أن تضع مساحة زمنية بين الفعل الذي تراه وردّة فعلك تجاهه، هذه المساحة هي (الأناة) التي يحبها الله، التروّي والصبر أساس حسن الخُلُق.
أما النجاح في بيئة العمل، فيتطلب صبرا عظيما، صبر على الانضباط والالتزام بأوقات العمل والحضور، صبر على تعلم المهارات اللازمة لتجويد العمل والمحاولة والخطأ، صبر على التعامل مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين والمستفيدين، صبر عند التعامل مع الضغوط والمشكلات، صبر على مشقة العمل وواجباته وتحمل مسؤوليته.
أما التربية، فيكاد يكون الصبر مفتاح النجاح فيها، الصبر على التعامل مع الأبناء والطلاب، والاستماع إليهم، وتعليمهم وإرشادهم، وتحمّل أخطائهم وبطء استجابتهم، معظم أخطاء التربية تنتج من نفاد صبر المربي، مثلا: تضع الأم قانونا لأوقات استخدام الانترنت في المنزل، لكنها لاتصبر على إلحاح الأبناء أو بكائهم وإزعاجهم حين يُقفَل عنهم الانترنت، فتنقض قانونها وتفتح لهم المجال وتفشل في تعويدهم معظم العادات الحسنة لنفاد صبرها، سمعت مرة من د. ميسرة طاهر أن بكاء الرضيع من غير مرض سببه قلة صبر أمه، فالرضيع يتعلم منذ أيامه الأولى أن البكاء خير وسيلة لابتزاز الأم وحملها على فعل مايريد، إنه يريد منها أن تحمله باستمرار، فيستخدم البكاء وسيلة للضغط عليها وإجبارها على حمله، ولكن المفترض أن تعي الأم هذا النوع من البكاء الذي لايعبر عن مرض أو احتياج حقيقي وتتجاهله -مع مراقبتها للطفل- حتى يتعلم أن هذه الوسيلة لاتنفع فيكف عن استخدامها، وقد أضاف الدكتور أن سلوك الابتزاز يكبر مع الطفل ويتخذ أشكالا عدة، ولاعلاج له إلا بالتجاهل، لكن معظم الآباء ينفد صبرهم بسرعة ويستجيبون للابتزاز اللحظي طلبا للراحة، ولكنهم يعانون ثماره المرهقة على المدى البعيد.
كل ما يخطر على بالك من الفضائل وأسباب الفلاح التي نعلم يقينا أهميتها لكننا لانقوم بها، لايمنعنا منها إلا قلة صبرنا عليها، كلنا نعلم أهمية صحة الجسد، ولكننا نرتكب في حق أجسادنا أخطاء كارثية لنفاد صبرنا، فالأكل الضار في معظمه لذيذ ومُغرٍ، وقلة الحركة أمر مريح، والسهر عادة مسلية أحيانا، لكن الالتزام بالأكل الصحي، ومداومة الرياضة، والالتزام بالنوم المبكر عادات تتطلب صبرًا، ولكن ثمارها نافعة: صحة داخلية، ووقاية من كثير من الأمراض بإذن الله، وجمال خارجي، وإنتاجية أكبر، فكيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير إلا لافتقارنا للصبر! وتقلقني شخصيّا انتشار جراحات السمنة في السنوات الأخيرة، كقص المعدة والتكميم وغيرها، لا لخطرها المحتمل على الجسد فحسب، ولكن لتعبيرها عن افتقار أفراد المجتمع مؤخرا إلى الصبر، حيث لايمكنهم فقدان الوزن إلا بتدخل جراحي يجبرهم إجبارا على عدم الأكل، وهذا مؤشر غير جيد لقوة الشباب الذين هم ذُخر المجتمع.
هناك قصة شهيرة تُروى عن عنتره -ولا أعلم صحتها لكن معناها صحيح- بأن رجلا سأله عن سر نيله لهذه المكانة فقال: بالشجاعة، قال له: وما الشجاعة؟ قال: الصبر! فاستغرب السائل، ما علاقة الشجاعة بالصبر؟ قال عنتره: عُضّ اصبعي وأعضّ اصبعك فأينا صرخ أولا هُزم، فصبر الرجل قليلا ثم صرخ، قال عنتره: لو لم تصرخ لصرختُ أنا، ولكني صبرتُ فكنتُ أشجع! إنني أتخيل عنترة في تلك اللحظة وكأنه بطل أولمبي يدرك أن فرق جزء من الثانية يُكسِبه شرف كسر الرقم القياسي، وأن الصبر والمصابرة هي التي ستقوده لمراده.
إن الصبر عقلُ وحبس للنفس عن شهواتها، وهذا مطلب جوهري في كسب المال وحسن تدبيره، كيف ينجح مشروع تجاري لم يصبر صاحبه على المثابرة فيه؟ وكيف يحفظ المرء ماله من الضياع مالم يصبر على المغريات والرغبة في التتسوق؟ من أهم العادات النافعة اقتصاديا عادة الادخار، والاعتياد على تحديد الاحتياجات الفعلية عند الشراء، لكن صبرنا ينفد أمام إغراء السلع، فنشتري مالانحتاج، ثم تضيع أموالنا وتضيق مساحات منازلنا، إن العقل -الذي يحمل معنى المنع والحبس والصبر- يمنع المرء من تبذير المال، لذلك اقترن سوء تدبير المال في القرآن بالسّفَه وترك النفس على هواها: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) لأن المال عصب الحياة وقوامها، والسفيه يضيّعه في التوافه، وبنقيض ذلك فإن العقل في حسن تدبير المال، وفي وسط الآيات التي تتناول المال في سورة البقرة جاءت هذه الآية: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269).
تطول قائمة أمثلة اقتران الصبر بفلاح الدين والدنيا، و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جملة وصيته لابن عباس رضي الله عنه “واعلم أن النصر مع الصبر” والنصر هنا كلمة معرّفة بأل، لتفيد العموم، كل نصر لابد له من صبر، نصرك على نفسك، وعلى أعدائك من شياطين الجن والإنس، وارتقاؤك لكل فضيلة وسموّ لابد له من الصبر، ولكن إذا كانت الوسيلة معروفة وواضحة إلى هذا الحد، فما بالنا لاننتصر ولا نرتقي كما نريد؟ لأن الصبر أمرٌ شاقٌّ على النفوس، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “والصبر ضياء” رواه مسلم، ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث وسبب اختيار كلمة ضياء لوصف الصبر: ” لأن الضياء فيه حرارة كما قال الله عز وجل :جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والصبر فيه حرارة ومرارة، لأنه شاقٌّ على الإنسان”، ولأن الصبر شاق، فإن ندرة من الناس يتميزون في مجال ما، أو في عدة مجالات، وقد قال المتنبي:
والصَّبرُ مثلُ اسمِه مرٌّ مذاقَتُه لكن عواقِبَه أحلى من العَسَلِ
لكل إنسان نصيب من النصر مرتبط بنصيبه من الصبر، وكلما زاد صبر المرء وتنوعت مجالاته ارتقى في جوانب حياته المختلفة، و الصبر صفة تتطلب تمرينا ومجاهدة؛ لأن طبيعة الإنسان الفطرية هي الميل مع شهوات النفس، فالصبر لايولد مع الإنسان لكنه يتعلمه ويكتسبه، ولتقوية صفة الصبر عند الإنسان فإن عليه أن يُلزم نفسه بما يجب عليه ويستمر وإن كان الأمر قليلا جدا، ثم يزيده شيئا فشيئا، لكن المهم الصبر والاستمرار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله: أدومها وإن قل” رواه البخاري، هذه المداومة تتطلب صبرا، ولابد للمربي أن ينتبه لدوره في تقوية صبر المتربي فلا يضعف صبره بالتدليل وتلبية كل مايريد، بل يعوّده التغلب على هوى النفس ومجاهدتها، يعلمه الصبر على ماينفعه وإن كان مُرّا، والصبر عن المُلهيات وإن كانت حلوة مغرية، والمربي نفسه في تربيته هذه يحتاج صبرا كما ذكرتُ آنفا، فما أسهل تقديم كل شيء للنشء والارتياح من تذمرهم وإلحاحهم!
إن الصبر قوة للفرد والمجتمع، ولذلك فإن أسهل وسيلة لتدمير أي إنسان وهزيمة أي مجتمع، هي إغراقه بالشهوات والمُلهيات حتى يفقد الصبر عنها ويُصبح عبدًا لهواه، ويقعُدَ عن كل فلاح ويستصعبه، فلايعود قادرا على العمل الجاد أو مقاومة المغريات، ولذلك لابد من تربية النفس وتوطينها على الصبر، وتعزيز هذا الخُلُق لدى النشء، وبثّه في الكبار والصغار، والله تعالى يقول في ختام سورة آل عمران التي هُزِم فيها المسلمون نتيجة عدم صبر فئة منهم على البقاء على الجبل، ونزولهم السريع رغبة في الغنائم، وتمكّن عدوّهم منهم بسبب هذه الثغرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200).