الهروب من الكمّ إلى القيمة

في العالم الغربي اليوم مللٌ من القيم المادية الفارغة من المعنى، والتي تعامل الإنسان كالبهيمة، لاتخاطب أعلى مافيه: الروح، بل تركز على الجسد حتى تشقى الروح وتبحث عن نعيمها هنا وهناك، ومن هذه القيم المادية: الجوعُ الاستهلاكي، والنهم للشراء وتكديس الأشياء، ماسمّاه المسيري رحمه الله (الفردوس الأرضي) ذلك النعيم الذي وعد به الحلم الأمريكي: أن تحصل على كل ماترغب به، فقط اعمل بجد، واكسب مزيدا من المال لتحقيق ذلك.
يمكننا مُلاحظة الوحش الاستهلاكي متمثّلا في الشركات الكبرى التي تبتلع حياة الأفراد وتسحقهم تحت عجلاتها، والمصانع التي تنتج سلعا أكبر مما تحتاجه البشرية وتستعمل التسويق الخادع وتجدد الموضة لإيهام المستهلك بضرورة (شراء) السلع التي تم (إنتاجها) مؤخرا، وكما عبّر المسيري رحمه الله: ” قديما كانت الحاجة أم الاختراع، واليوم أصبح الاختراع أبو الحاجة”.
يشعر المستهلك بتوقٍ شديد للحصول على السلعة الجديدة (ملابس، أجهزة، أثاث، سيارة…..الخ) وتُمارَس عليه حربٌ إعلامية ضَروس، ترسم له الحياة في قالب محدد قائم على الاستهلاك والتجديد المستمر، فيتجه للشراء ويشعر بفرحة غامرة تشبه شعور المدمن حين يحصل على جرعة المُخدّر، ثم يكتشف بعد فترة أنه بحاجة لشراء أخرى لأنها أفضل،  وهكذا تدور عجلة الإدمان الاستهلاكي لتخنق الأشياءُ الناسَ في منازلهم، وتجبرهم على البحث عن وظائف ومصادر دخل أعلى للوفاء بكل هذه (الاحتياجات) الجديدة، دوامة تضغط الفرد المسكين ليعمل بجد ويصب عُصارة جهده وكدّه في خزائن الشركات الكبرى؛ استجابة لمعايير مجتمع معوج أقنعه أن قيمته بمايملك، لا بما هو عليه حقا، وأنه لايوجد أسلوب آخر للعَيش.
حركة الـ Minimalism، أو كما أترجمها شخصيا: الزُّهد، حركة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، صحوةٌ من سَكرة إدمان الاستهلاك والتشيؤ، والزاهد Minimalist يقلّص حاجياته إلى الحد الضروري الأدنى ويتخلص من كل ماليس ضروريا أو مهمّا أو ذا قيمة حقيقية، بحثا عن حياة ذاتِ معنى وخروجا من دوّامة الاستهلاك وإدمان التسوق، المشاركون في هذه الحركة يؤكدون أنهم الآن أكثر تحررا وسعادة وقوة، وأن الأشياء التي أبقَوها معهم اكتسبت قيمة أعمق في حياتهم.
شابان أمريكيان أنتجا فيلما عن الـ Minimalism، يقدمان فيه منظورهما للحياة بأبسط وأعمق الأشياء، ورحلتهما في الدعوة لهذه الفكرة، شاهدتُ الفيلم، ولم يفاجئني تشابهه الشديد مع مفهوم الزهد في الإسلام، والتقلل من متاع الدنيا، وكنت ألاحظ هذه المفاهيم في الثقافات الشرقية، لكنني رأيته هنا ينطلق ثائرا على المادية والرأسمالية والاستهلاك من أكبر مروجٍ وراعٍ هذه المفاهيم: الولايات المتحدة الأمريكية.
من الجمل التي استوقفتني في الفيلم -والتي تلخص فكرته- جملة قالتها إحدى المتبنيات لهذه الفلسفة في العيش:
“We all need basics: having house, food in a table, being safe, that is really important to recognize, because not everyone has these things”
“كلنا نحتاج الأساسيات: المسكن والطعام والأمن، وهذه هي الأمور التي ينبغي تقديرها حقا، فليس كل إنسان يمتلكها”
لابد لمن سمع جملتها العميقة هذه أن يقفز لذهنه قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنا في سِربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)
طوال مشاهدتي للفيلم، تتداعى في ذهني النصوص التي أحفظها عن الزهد والتقلل من متاع العاجلة، عندما رأيت البيوت الصغيرة جدا والتي اختاروا أن يسكنوها لأنهم فعليا لايحتاجون سوى الأساسيات، تذكرت حُجُرات النبي صلى الله عليه وسلم، وحياتَه التي كانت تقوم على الأساسيات فقط، المشكلة اليوم أن من يذكر نفسه والناس بهذه القيم الأصيلة في الإسلام والتي تنسجم مع رؤية المسلم لهذه الدنيا بأنها دار ممر لا مقر، يُهاجم بأن هذا لايناسب حياتنا اليوم فـ “الدنيا تغيرت” وكأن القالب الاستهلاكي سجنٌ لايمكن الفكاك منه والتحرر، مع أن غيرنا فعلها وهو لايرجو بعثا ولانشورا.

هذه تشويقة الفيلم في اليوتيوب، ومن أراد مشاهدته كاملا، فيمكنه شراؤه من هذا الموقع، ويمكن البحث في اليوتيوب عن تجارب المنضمّين لهذه الفلسفة في الحياة، بالبحث عبر كلمتي Minimalism و Mininmalist.

كتبت هذا المقال في العام الماضي في قناتي في التليغرام عند مشاهدتي للفيلم بعد توصية من صديقة، ومؤخرًا نَشر الأخ المبدع ( علي محمد ) في قناته المميزة في اليوتيوب اثنين من الفيديوهات عن هذا الموضوع: Minimalism أو تبسيط الحياة  ( 12) وقد تناول في المقطعين تبسيط الحياة من عدة جوانب (ترشيد الاستهلاك، تبسيط البيئة والأغراض الشخصية، تبسيط العلاقات، تبسيط الحياة العمليّة)، ومن الكتب التي انتشرت في الآونة الأخيرة كتاب اليابانية ماري كوندو (سحر الترتيب) وهو كتاب يصف منظورها لترتيب المنازل من وجهة نظر شخص يتبع فلسفة التقليل أو التبسيط أو Minimalism .

بالنسبة لي، أحببت هذه الفلسفة لأن التعقيد وكثرة الأشياء أمورُ تصعّب الحياة، ولأن سِيَر العلماء والعظماء تحكي أنه كلما ازداد الثراء المعنوي للإنسان جنحَ للبساطة والتخفّف من أثقال الحياة المادية، ولأن تبسيط الحياة يحل مشكلات مجتمعية عويصة لاحدّ لها، وقد جاء الإسلام بكل هذا ولكننا قومٌ نزهد بما لدينا حتى يأتي به الأجانب فنفغرُ أفواهنا دهشة وإعجابا… !

مذكرات أميرة عربية وزنجبار المنسيّة !

uploads_1476833755640-blogger-image-978745702

سالمة بنت سعيد بن سلطان، أميرة عربية من سلالة البوسعيدي حُكّام عمان حاليا (ومعها زنجبار سابقا) قصتها غريبة تستحق التأمل، فهي واحدة من عشرات الأبناء للسلطان الذي ما إن توفي حتى تنازع أبناؤه على العرش، ودخلت سالمة في معمعة النزاع لتبوء بالخسارة بعد أن تنكرت لفضل أخيها ماجد ووقفت ضده، ثم تعرفت على شخص ألماني وقررت الزواج منه وتنصرت (!!)

هربت سالمة مع زوجها لألمانيا وأنجبت منه ثلاثة أبناء ثم توفي فجأة وعاشت حياة عصيبة بعده، هذه المذكرات لم تُكتب في الأصل بنيّة نشرها، لكن سالمة ( التي غيرت اسمها لاميلي روث) كتبتها لأولادها كي يتعرفوا على ماضيها المسلم العربي وعيشتها في القصر السلطاني في زنجبار، والكاتبة تصف حياة القصر بدقة شديدة وتشويق بالغ يطير بمخيلة القارئ لتلك القصور المليئة بالخدم والحشم والثراء الفاحش المفتقر للتنظيم والجودة، قصص الغيرة والمكائد والوفاء والخيانة والخير والشر،  تُقدم الكاتبة مادتها في عدة فصول مثل: بيت الموتني، بيت الساحل، وفاة السلطان، ولادة الأطفال وتربيتهم، الرقيق، أزياء النساء….الخ، وفي ثنايا كل فصل تجد وصفا دقيقا للمكان والعادات والطقوس والمشاعر،  وتلمس -في الوقت ذاته- حنينا للديار والأهل، حينما تتطرق الكاتبة لتعاليم الإسلام فإنها تعرضها بطريقة خاطئة ومستفزة للمسلم أحيانا، لا أعلم إن كان ذلك بسبب أنها إباضية المذهب أم بسبب جهلها واختلاط العادات لديها بالدين؟ كما يبدو أنها ندمت على كثير من طيشها واغترارها بالحياة الأوروبية، لكنها تدافع عن المرأة العربية دفاعا ساذجا في كثير من المواضع، أحزنني حنينها وتساءلت: هل عادت للإسلام في آخر عمرها؟ أتمنى ذلك.

اقتنيت الكتاب من مكتبة جرير بسعر٣٩ ريالا، ويقع -مع ملحقاته- في ٣٠٠ صفحة تقريبا (صدقوني ستمر سريعا فالكتاب ممتع) والورق أصفر غير مصقول، النسخة التي قرأتها كانت من ترجمة عبدالمجيد القيسي ونشر دار الحكمة (لندن) أعجبتني الترجمة جدا وكأنني أقرأ نصا كُتب بالعربية لأول مرة، وحين قرأت مراجعات الكتاب في موقع goodreads لا حظت استياء البعض من ترجمة د.سالمة صالح التي نشرتها دار الجمل، الجدير بالذكر أن هذه المذكرات كُتبت بالألمانية ابتداء ثم تُرجمت لعدة لغات، وفقدت بعض فصولها لمدة طويلة، ختاما:يقدم هذا الكتاب صورة لأحداث قديمة في مكان منسيّ (زنجبار، قبل مئة عام أو تزيد) وهذا مايعطيه قيمة مميزة وأهمية استثنائية، وإنني أتساءل: كيف يمكن للكتابة أن تُخلّد ما كان يمكن أن يطمره النسيان للأبد؟ وكم من الأحداث والأزمنة والأماكن التي افتقدنا متعة التعرف عليها بسبب عدم وجود من يكتب عنها؟

هذه التدوينة تم نشرها في مدونتي القديمة (نقوش) بتاريخ ١٣-ذو القعدة-١٤٣٥ هـ

رضوى، وثلاثية غرناطة، وأشياء أخرى!

uploads_1476833484397-blogger-image--739408637 (1)

لعل من محاسن تويتر أنه يجمع أصدقاء القراءة فيحدّثونك عن هذا الكتاب أو ذاك، وحين عزمت على السفر آثرتُ اصطحاب رواية معي، ففي كل سفر تصحبني رواية ترتبط شرطيًّا بالمكان، وتُشبع شغف القراءة بطريقة أقرب للأدب والخيال منها إلى الفكر والواقع، فاخترت “ثلاثية غرناطة” لرضوى عاشور، قرأتها وغرقت في أحداث سقوط غرناطة وتبديل هوية مسلميها بالقوة، حين كان التحدث باللغة العربية ممنوعا وتحري هلال رمضان والاحتفال بالعيدين وكل مايرتبط بالإسلام ولغته وشعائره، اختارت رضوى شخصياتها من بين عامة الشعب، لم تتحدث عن القادة أو العلماء أو الشعراء، بل اختارت أبا جعفر الورّاق، سعد ، نعيم، سليمة، مريمة وعليّ، آثرت رضوى أن تنفُض غبار التاريخ وتنقّب في الكتب والوثائق والمخطوطات وتجمع الحقائق هنا وهناك لتكمل أحجية سدّت الكثير من فراغاتها بخيالها الخصب، قدّمت لنا صورة أبناء ذلك الزمان كما تخيلتها هي مستندة إلى التاريخ، كانت مهمّة رضوى صعبة، فكتابة رواية بتفاصيلها عن زمنك الذي تعاصره ومكانك الذي تقطنه يعدّ عملا شاقا، فكيف بسرد رواية في زمن غابر ومكان بعيد؟ تصف حياة الشخصيات اليومية، عاداتهم، خُرافاتهم، آلامهم، آمالهم وكأنك بينهم؟! أوغلت رضوى في تقليب مواجع القُرّاء حين تحدثت عن شغف القراءة وحرق الكتب والحرمان منها ونفاستها حتى تبذل في سبيلها الأموال وتُركبُ الأهوال!

أوجعتني بالوصف حتى عرفت كم نحن باذخون حين نقتني مانشاء من الكتب، ونقرؤها بلا وجل، وتطبع لنا المطابع آلاف النسخ منها، فهل شكرنا؟

رضوى عاشور  أديبة مصرية توفيت في العام الماضي رحمها الله وزوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي وابنهما الشاعر تميم، أسرة أدبية بامتياز، بحثتُ عن سيرة رضوى فإذا هي أستاذة الأدب الانجليزي في جامعة عين شمس، لكن هذا لم يمنعها أن تكون أديبة بلغتِها الأم، لغتُها فخمة لاتملك إلا أن تعجب بها، تمتليء ثلاثية غرناطة بسرد تفصيلي قد لايُطرب القاريء العجول، لكنه ينم عن تمكن رضوى وجزالتها ويمتع المتمهِّل حقا، لاتخلو ثلاثية غرناطة من شيء من الابتذال في وصف بعض المشاهد، لكنها أخف من غيرها بكثير وهذه المشاهد تمر عليها مرورا عابرا بعكس بعض الروايات المُغرقة في الابتذال وكأنه محور الرواية، وكأن الكاتب لايملك إلا موضوع “الممنوع” ليتحدث عنه، رضوى أديبة وظّفت اللغة والتاريخ والثقافة والهوية والحنين والفراق لتنتج رائعتها “ثلاثية عرناطة”، تحمست لأقرأ ماكتبته عن مأساة الفلسطينيين في “الطنطورية” وعن سيرتها الذاتية في “أثقل من رضوى”.

رحم الله رضوى وغفر لها

هذه التدوينة تم نشرها في مدونتي القديمة (نقوش) بتاريخ ٢٠-شوال-١٤٣٥ هـ

سيرة الأديب أحمد أمين

أهوى قراءة السير الذاتية، لمافيها من عرض شامل لحياة شخصٍ ما عاش على هذه الأرض، بآلامه وآماله، وشعوره وعقله، وأَلِجُ  من هذه السيرة لمعرفة نفسه وبيئته ومجتمعه، وزمانه والظروف التي أحاطت به، وفي كل ذلك متعة عقلية وفائدة عظيمة ومعلومات ترتدي ثوب الحكاية، أما معرفة النفس، فإن الإنسان يرى من قراءة السير تمايز البشر وتشابههم في آنٍ، فهم يمتلكون نفس المشاعر، أنا وأنت والملك والعالم والأديب والغني والفقير، كلنا نملك نفسا بسيطة تحزنها أبسط الأشياء وتفرحها أبسطها كذلك، أما التمايز فكل إنسانٍ نسيجُ وحده كما يُقال، كل إنسان نتاج فطرته وملكاته، وتفاعله مع بيئته واجتهاده وكسبه وكل ذلك مما قدر الله له، فينتج من تفاعل ذلك كله إنسان فريد لايشبه أحدا ولو كان توأمه (كما ألاحظ من ابني شقيقتي وهما توأم يستطيع المرء التفريق بين طباعهما ولم يتما عامهما الأول بعد، فسبحان خالق هذه النفوس ومبدعها!).

كما أن قراءة سِيَرِ الأعلام تعطي النفس دفعة معنوية، وزادا روحيا، حين يقرأ تفاصيل حياتهم وما واجهوه من صعوبات ومابذلوا من تضحيات، وما تهيأ  كذلك لهم من فُرَصٍ    يسّرها الله حتى وصلوا لما هم عليه، وآراءهم في الحياة والناس، وغير ذلك مما يفيد العقل ويُبهج النفس، وقراءة السِير الذاتية هي قراءة ترويحية يستجم بها الإنسان ومع ذلك فهي تزخر بالفوائد، وإن كانت لا تصدق في كثير من الأحيان، فكاتب السيرة الذاتية يكتب بنفسه عن نفسه ولك أن تتخيل تأرجح ميزان الصدق هنا، إما بقصد أو بغير قصد، وتزِنَ  الأمور بميزان معقول، وقد كتب أحمد أمين مقدمة ثمينة عن صعوبة ذلك.

نعود  لكتابنا، في الحقيقة اشتريته من جرير وكنت  -يالخجلي- أعتقد أن أحمد أمين صحفي، وأنه شقيق مصطفى أمين الصحفي المصري الشهير الذي قرأت له قديما مذكرات طريفة ( هل لمصطفى أمين شقيق اسمه أحمد أمين أم أن هذا من نسج خيالي؟! لا أعلم!) المهم أنني ركنت الكتاب حينا، وحين قررت قراءته فوجئت بمقدمته تهزني هزّا وتشعرني -بما لايقبل الشك- أن الكاتب أديبٌ  وعالِمٌ وليس صحفيا كما اعتقدت، فما هكذا يكتب أهل الصحافة! وليست نفوسهم وأقلامهم بهذا الجلال!

عمدت إلى ويكيبيديا لأكتشف أنه من أهم أدباء العربية في القرن العشرين، وأنه رئيس مجمع اللغة العربية ردحا من الزمن، وأنه أستاذ في كلية الآداب وأنه مؤلف (فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وظهر الإسلام) وكنت أنوي قراءتهما دون الانتباه كثيرا لاسم المؤلف، وهكذا وجدت من المعلومات ما يستقيم مع بلاغة أسلوبه وجلال قلمه، وأبحرت مع سيرته إبحارا سلسا جميلا فكنت  أضيق عندما أتقدم في الصفحات وأوشك على الانتهاء من الكتاب الذي لم يتجاوز ٢٢٢ صفحة فقط، وحين انتهيت من قراءته تذكرت العبارة الشهيرة: ” إذا شعرت وأنت تقلب الصفحة الأخيرة من الكتاب الذي تقرؤه أنك فقدت صديقا عزيزا، فاعلم أنك قرأت كتابا رائعا”، لكن الطبعة التي حصلت عليها ذات غلاف وتجليد أقل من المستوى، وبها عدد من الأخطاء المطبعية، وعتبي على جرير أنها لا تُعنى بالطبعات الجيدة في أغلب الكتب.

ولابد أن أُشير لشعور لازمني طيلة قراءة هذه السيرة، وهو الشبه الكبير بين الأديب أحمد أمين والشيخ علي الطنطاوي في مذكراتهما، وإن كانت مذكرات الأول كتابا واحدا، فإن مذكرات الثاني كانت في ثمانية مجلدات، ولكن ثمة قواسم مشتركة:

١- الأديبان عاصر كل منهما الآخر، وإن كان الشيخ علي الطنطاوي أحدث سنّا، لكنهما عايشا نفس الأحداث (الاستعمار، نهاية الخلافة العثمانية، نشوء الدول الحديثة واحتلال فلسطين…) ومايتبع ذلك من تأثير على الحياة الثقافية والأدبية.

٢- تشابُه الأسلوب الكتابي لكليهما تشابها واضحا.

٣- تأثير الجو العلمي للأسرة (الأب) على كل منهما.

٤- اشتغال كليهما بالتدريس والقضاء.

٥-نقد الأديبين لذواتهما نقدا واضحا ينم عن معرفة النفس، ومايسمى في علم النفس بـ (الاستبصار) وهو رؤية الشخص لنفسه من الخارج، ونقد محاسنها وعيوبها ومحاولة تفسير تصرفاتها كما لو كان يتحدث عن شخص آخر.

٦- كلا الأديبين يهوى العزلة، ويخجل من الناس، لكنه لايهاب المنابر، وله قلمٌ جريء واضح الفكرة لايجامل.

٧-تولى كل منهما عددا من المناصب الرسمية، سمحت له بالطواف في عدد من البلدان، زارها زيارة موظف مسؤول، ووصفها وصف أديب.

٨- تثقف كل منهما في بداية حياته ثقافة شرعية عربية اتصلت بكتب التراث اتصالا وثيقا، وكان لها في نفسه أثر عميق، وإن اختلف مشربيهما فيما بعد.

٩- كلاهما: عالمٌ وأديب.

بقي أن أقتبس من هذه السيرة آخر فقرة فيها، وهي عندما تكلم أحمد أمين عن توفيق الله له في أعماله، قال: ” وهذا التوفيق ظاهرة يصعب تعليلها في عقلي، أو تفسيرها بالتحليل الاجتماعي والنفسي، فكم رأيت من أناس كانوا أذكى مني وأمتن خلقا وأقوى عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل على أنهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثم باءوا بالخيبة ومُنوا بالإخفاق، ولا تعليل لذلك إلا أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم”.

 

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ

للراغبات في التدريس أو الوظيفة، أرجوك اقرئي هذا

 

uploads-1475429365793-it_challenges

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

تنشغل العديد من الخريجات هذه الأيام بالتقديم على الوظائف التعليمية، وكلهن أمل بالحصول على وظيفة آمنة، ومرتب ثابت، وعمل تقضي فيه وقتها، كل هذا جميل، لكن قرار الوظيفة -كأي قرار مصيري آخر-  ينبغي أن يدرس بعناية قبل الإقدام عليه، بمعنى أن تجلسي مع نفسك جلسة هادئة وصريحة وتسأليها هذه الأسئلة:

١- لماذا أريد الوظيفة؟ هل لدي هدف واضح؟

٢-ما متطلباتها؟ هل تتوفر لدي هذه المتطلبات؟

٣-ما صعوباتها؟ ما التحديات التي قد تواجهني؟

٤- هل لدي القدرة والاستعداد الكافيين لمواجهة هذه الصعوبات والتحديات؟

٥- ما التنازلات التي ينبغي علي تقديمها؟ وهل لدي الاستعداد لتقديم هذه التنازلات؟

٦- ما مزايا الوظيفة؟ هل سأستشعر هذه المزايا فيما بعد؟

٧- هل لدي تصور واقعي أم رومانسي عن الوظيفة؟

الهدف من هذه الأسئلة والإجابة عليها هو تكوين التصور الواضح عما أنتِ مقدمة عليه، حتى لاتتكرر المآسي التي نراها من بعض المعلمات حين تتحمس جدا للوظيفة وتركز على مميزاتها فقط وتسرف في الخيالات الإيجابية، ثم بمجرد حصولها عليها تصطدم بالواقع وتواجه عدة مشاكل لم تكن مستعدة لها، ومن ثمّ تبدأ في التضجر والشكوى والتظلم والإحباط ومايتبع ذلك من قلق ومشاكل نفسية وأسرية لاحصر لها، فطبيعة الإنسان أنه يسرف في تخيل مزايا مايفقده، لكن بمجرد حصوله عليه تنقشع الغشاوة وتتبدى له الأمور على حقيقتها فإذا هو كثير الشكوى وغير مستعد لدفع الثمن! بعكس من يحمل تصورا واقعيا فهو إما أن يحجم عما لايستطيعه أو يقدم بنفس راضية مستعدة، فالمعلمة التي كانت تحلم بوظيفة ولو على الحدود تكتشف مثلا:

١-أن مسألة الذهاب اليومي للقرية أمر في غاية الصعوبة.

٢-أن الجمع بين التدريس والقيام بحقوق الزوج والأبناء مسألة معقدة جدا.

٣-أن ترك الأبناء عند الخادمة يولد قلقا ومشاكل لاحصر لها.

٤- أن انتظار النقل وعدم حصوله لسنوات متتالية أمر ممكن الحدوث ومعتاد ولاغرابة فيه.

لكن عليها أن تتذكر جيدا الحقائق التالية:

أولا:أن أحدا لم يهددها بالسجن أو القتل والتعذيب إن لم تتوظف، فالوظيفة خيارها الشخصي البحت وعليها أن تتحمل نتائجه أو ببساطة: تتخلى عنه.

ثانيا:أن الزوج والأبناء والأسرة يريدونها زوجة وأما، وأن المدرسة ووزارة التعليم تريدها معلمة، وليس لدى أي طرف الاستعداد للتنازل عن حقه، فهي التي ورطت نفسها في الأمرين معا وادّعت أنها تستطيع القيام بالدورين في آنٍ واحد.

ثالثا: أن مسألة الكسب وجلب المال للأسرة ليست وظيفة المرأة، ولم تُكلّف بها، بل هي وظيفة الرجل، لأن الله عز وجل يعلم طاقة العبد ولايكلف نفسا إلا وسعها.

وهذه النقطة الأخيرة بالذات هي مربط الفرس، فالكثير من النساء تخرج للعمل بحجة أن الأمر بات ضرورة، مع أن باستطاعة زوجها أن يوفر لهم عيشا كريما وإن لم يكن مترفا ومرفها، لكن طموحاتها تجعل من الترف ضرورة ومن الكماليات ضروريات، فتخرج للوظيفة وهي كارهة، وغير مستعدة، وليس لديها الحماس الكافي فهي منهكة جدا، مقصرة في المنزل بحجة التعب في العمل، ومقصرة في العمل بحجة ظروف وأعباء المنزل، فتنتهي بكونها أما محبطة، وزوجة مرهقة، ومعلمة غير منتجة، لماذا؟ كي تتمكن من شراء حقيبة باهظة الثمن، أو بناء قصر منيف في نهاية العمر بعد أن تضيع أجمل سنواته، وهي تظن أنها مجبرة ومكرهة مع أنها من اختار هذا كله!

أنا هنا لا أقول لك لاتتوظفي، لكنني أطلب منك أن تقيمي الوضع جيدا، وتوازني بين المصالح والمفاسد،  وتعلمي أنك حين تختارين الوظيفة فأنت تقبلين ضمنيا مميزاتها وعيوبها وتبدين استعدادك لدفع الثمن، فإن رأيت في نفسك قدرة على قبول التحدي والصبر على المشاق، والاستعانة بالله، فأنا أشد على يدك وأشجعك وأهنئك مقدما وأهمس في أذنك أنك ستستمتعين بتجربة التدريس أيما استمتاع، أما إن كنت ستملئين الدنيا شكوى وضجيجا ونحيبا على ماجنته يداك، وما اختارته نفسك، وتظنين نفسك ضحية، فاتركي الأمر لأهله، فربما شغلت الوظيفة من هي أجدر منك وأكثر تفرغا وأقل انشغالا وأكثر استطاعة على حمل الأمانة وأداء الرسالة.

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ 30/9/2016

قانون حرية الطبع

 

 

 

uploads-1475426758490-difference-entre-affacturage-assurance-credit

سألتني صديقتي الرائعة يارا في برنامج الأسك، قبل سنة تقريبا، هذا السؤال الغريب: لو سمح لك أن تضعي قانونا، فما هو هذا القانون؟ بصراحة أحب هذه الأسئلة التي تستفز العقل والقلم، فكتبت:

القانون الذي أتمناه هو قانون (حرية الطبع)
على وزن (حرية الفكر)
في ظل هذا القانون يُجرَّم ويُعاقَب كل من يحاول مصادرة حق الآخرين في أن يكون لهم طباع خاصة مادامت (لاتضر أحدا) و (لا تخالف شرعا)

ما الذي يضرك لو بقي فلان صامتا؟
ما الذي يضرك لو كان متحدثا؟
ما الذي يضرك لو كتم فلان أخباره؟ وما الذي يضرك لو أفشاها؟
ما الذي يضرك لو لم يتواجد فلان في كل مناسبة وفضل المكث في بيته أكثر؟ وما الذي يضرك لو كان أغلب وقته مرتبطا مع الناس؟
ما الذي يضرك لو كان جادا أغلب الوقت؟ وما الذي يضرك لو فضل المزاح في كل حين؟
ما الذي يضرك لو كانت علاقاته محدودة؟ وما الذي يضرك لو صادق جلّ أهل الأرض؟

فعلا…
ما الذي يضرك؟ !
النفس تميل لمن يشابهها في الطباع ويشاكلها فيما تحب وماتكره، لكن هذا لايعني أن نعتقد دوما أن طبعنا هو الأفضل وقناعاتنا هي المرجع، هذه القناعات التي نطالب الآخرين بالالتزام بها بينما قد نغيّرها نحن في غمضة عين، وندافع عن ضدها باستماتة فيما بعد! ضيق الأفق هو الذي يحمل الإنسان على “نبذ” غيره لذنب واحد: “أنت لاتشبهني…!” بينما تعويد النفس على تقبل الاختلافات مع البشر وتقديرها والإيمان بأن كل إنسان له بصمة مختلفة عن الآخرين وأن الاختلاف هو الأصل وفي كثير من الأمور لايوجد صواب وخطأ واضح وقطعي، كل هذا يجعل الإنسان أكثر مرونة، ينبغي أن نرفض السلوك لسوئه وليس لنمطه، وأكرر الشرط: الناس أحرار في طباعهم مادامت (لاتضر أحدا) و (لا تخالف شرعا) بمعنى:

*حين أكون شخصا اجتماعيا، فليس من المعقول أن أنتقد النمط الانطوائي من الناس ولا أحترم اختلافهم عني، إلا إذا أدت انطوائيتهم لسلوك خاطئ كقطيعة الرحم مثلا، فيحق لي تخطئة هذا السلوك وليس نمط الطبع العام.

* والعكس صحيح، فلو كان من طبعي الصمت، فلايحق لي انتقاد من يحسن الكلام ويزين المجلس به لمجرد مهارته في الحديث وجذب انتباه الناس واختلافه عني، بينما لو استخدم نمطه هذا في التطاول على الناس بالكلام السيء أو إفشاء الأسرار أو الغيبة أو غيرها من الكلام الضار، هنا فقط يحق لي انتقاد السلوك الخاطئ وليس مجرد الحديث الذي لاأميل إليه بوصفي صامتا وهكذا.

وحين أقول: يحق لي تخطئة السلوك فأنا أعني تخطئة السلوك نفسه وليس غيبة الشخص الذي قام به، وينبغي على الآباء والأمهات الانتباه لهذا، فبعضهم مثلا يريد أبناءه نسخة من طباعه وطباع من يحبهم ويميل إليهم وهذا تسلط وجهل، احترم طبيعة ابنك وساهم في توجيه هذه الطبيعة للخير واستثمارها فيما ينفع لكن لاتحاول مصادرتها ومصادمتها، فالاختلاف سنة الحياة، بعضهم يصل به الأمر لعدم تقبل نفسه، فالمحيط الذي يعيش فيه يقدس طبعا معينا، بينما تجده فُطر على طبيعة أخرى مختلفة، يواجهه من حوله بالانتقاص والنبذ لطبعه (رغم محبتهم له) فيصدق ذلك ويحاول أن لايكون أبناؤه مثله أبدا، مثلا: الشخص الاجتماعي في عائلة يسودها التحفظ والصمت قد يظن نفسه مجنونا ومندفعا و غير سوي، والعكس صحيح حين يوجد شخص انطوائي في عائلة اجتماعية قد يظن نفسه معقدا وفاقد الثقة بنفسه، خصوصا إذا لم يكن لدى محيطه الوعي الكافي لتقبل الاختلافات واستشعار مزايا كل نمط وعيوبه.

لو هناك عقوبات لمن يحاول مصادرة طباع الآخرين لمجرد اختلافهم عنه، فإنني أقترح أن تشمل هذه العقوبات: كتابة مقال عن محاسن الطبع الذي انتقدته ومساوئ طبعي الخاص الذي أتعصب له،  وكيف يمكن أن يستغل كل واحد منهما في الشر؟ وما مجالات استثماره في الخير؟ وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام رغم اختلاف طباعهم؟ وكيف وجههم جميعا لاستغلال طاقتهم للخير دون مصادمة أصل طباعهم؟

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ

 

حينما تغيبت عن درس الكناية

عندما كنت طالبة في الصف الأول ثانوي، كنا ندرُس مادة البلاغة ضمن مواد اللغة العربية، ولا أعلم إن كان قد تم تغيير تلك المقررات أم لا؟ لكن محتوى الكتاب كان ممتعا ومفيدا بحق، كان يضم سلسلة دروس عن (علم البيان) تضم التشبيه والاستعارة والكناية وغيرها (بالمناسبة، أعتقد أن مقرراتنا رائعة جدا، خاصة في المواد الإنسانية، إن كان هناك ثمة مشكلة، فهي في البشر: طلاب ومعلمين، معلم غير مؤهل، أو طالب شارد الذهن مثلي ذلك اليوم)، حين أردت المذاكرة للاختبار، واجهتني صعوبة في فهم درس (الكناية) لا أعلم صراحة إن كنت تغيبت حقيقة أم شعورا عن ذلك الدرس؟ لكنني لم أستطع فك طلاسمه كما ينبغي، فلجأت بعد عدة محاولات للفهم للمجلس الأعلى في العائلة: والدي-حفظه الله-المتخصص في اللغة العربية، وكان يطلب منا عدم السؤال إلا بعد بذل الوسع في الفهم والتعلم، فالتعلم الحقيقي لايحدث إلا بعد استنفاد الجهد، أما حين تُقدّم المعلومة مباشرة على طبق من ذهب دون أن يعمل الذهن فيها ويكدّ،  فلن ترسخ ولن تقوى المهارات، وهذا فحوى النظرية البنائية.

ذهبت إليه وقد فهمت أمثلة الكتاب قليلا، لكن الفكرة لم تترسخ عندي جيدا عن الكناية، فتعريفها في كتب البلاغة: “لفظ أُطلق و أريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلي”، مع بعض الأمثلة الفصيحة، حين سألت والدي لم يقم بشرح هذا التعريف المُلغِز، ولم يشرح أمثلة الكتاب، وإنما نظر إليّ وقال: يا ابنتي، إن أساليب البيان هذه نستخدمها في حديثنا اليومي، وأنتِ  كذلك لكنك لا تدركين مسمياتها الاصطلاحية، فأنت تستخدمين الكناية في كلامك! قلت: كيف؟! قال: ألسنا نقول: “فلان طايرتن عيونه! ماذا يعني هذا؟”  “يعني أنه مندهش يا أبي!”  فعقّب:”حسنًا، يمكننا القول أن تعبير (طايرتن عيونه) كناية عن الدهشة” وهكذا أصبح يضرب لي، ويطلب مني، أمثلة من لغتنا العامية اليومية: طايرتن عيونه (الدهشة)،  ماتشوف إلا عراقيبه (الهرب)، مايدري وين كوعه من بوعه (الجهل)، حايمة كبده (الغثيان) وهكذا، حين فتحت الكتاب وقرأت التعريف وراجعت الأمثلة فيه، لم أكن بحاجة لسؤال آخر، لقد فهمت الكناية جيدا، لأن والدي شرحها ببساطة شديدة لا تنتج إلا عن فهم عميق للغة ولارتباطها بحياة البشر اليومية، نعم، لقد ضرب لي بعض الأمثلة من القرآن الكريم والشعر العربي، لكن الذي أدهشني أنه لفت انتباهي إلى أن هذه الأساليب بسيطة لدرجة أنني أستخدمها ولا أعلم ذلك.

 في ذلك اليوم لم يشرح لي والدي الكناية فحسب، بل علّمني قيمة أعمق وهي أن التعليم الجيد يقترن بالبساطة الناجمة عن العمق أكثر من اقترانه بالتكلّف السطحي (وفرقٌ هائل بين البساطة والسطحية)، وما نراه في بعض مدارسنا من تكلّف شديد يؤتي ثمارا مختلفة ليس من بينها: التعلّم الحقيقي الذي يجعل الطالب يرى العالم بعيون أخرى، ماقيمة الوسائل التعليمية المكلفة والاستراتيجيات المفتعلة مالم يؤدِّ هذا كله إلى تحقيق الهدف الأساسي من وجود المدارس: التعلم الذي ينتقل أثره للحياة ويمتد لبقية العمر؟

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ

قارب جدتك، وبحرك المتلاطم

uploads-1487928216061-af12ead14beedff35da44e351ef6d47e

 

 

تحرصين على مواكبة عصرك بأحدث الملابس والحلي والأثاث، وتفاصيل السفر المرفّه، وطرق تقديم الطعام المبتكرة والمحدثة، تعيشين زمانك وحُقّ  لك ذلك، فما الذي يجعلك تعيشين زمن جدتك وأمك؟ تحرصين على أن تواكب ابنتك معايير الجيل الجديد ولاتتخلف عنها، ولاترضين أن تقارَن متطلبات ابنتك اليوم بمتطلباتك أنت عندما كنتِ  في عمرها، فالزمان مختلف، والمرونة العقلية مطلب هام، وأنتِ  بالطبع سيدة مرنة تعي اختلاف الأزمنة، ومايتطلبه ذلك من اختلاف الآليات.

جميل هذا المنظور -مع التحفظ على إطلاقه- إلا أن هذا النوع من السيدات يفاجئك كثيرا، بردة فعل معاكسة، ورؤية مغايرة عندما يتعلق الأمر بطلب العلم والمعرفة، والتثقف في شؤون الأسرة والتربية وتحديات العصر الأكثر تعقيدا، فهي ترتد عن مفاهيم الحداثة هنا بشكل مفاجيء وتطالعك بغرابة قائلة: لماذا نقرأ؟ ولماذا نتثقف تربويا؟ ولماهذه الفلسفة التي لاداعي لها؟ لدينا ما يكفي، وماضرّ أمهاتنا وجداتنا كونهن أمّيات لم يقرأن حرفا، ولم يُمسكن كتابا، ولم يسمعن لمتخصص، لقد ربيننا أفضل تربية، وخرّجن أفضل جيل!

وللرد على هذا النوع من الحديث الذي يتردد أمامي كثيرا، ولسنوات عدة، وتنسف فيه جهود المؤلفين والعلماء في مجالات عدة، ويثبط المجتمع عن الاستفادة منها،  أقول باسم الله:

أولا: من قال لك -سيدتي الكريمة- أنك تلقيت أفضل تربية وأنه يصح وصفك بأنك منتمية لـ ” أفضل جيل”؟

هذه تزكية سافرة للنفس، وكأنك تقولين: أنا مثال حي للمسلم النموذجي الذي يجب أن يمتلئ المجتمع به، وبما أنني تلقيت تربيتي دون حاجة والديّ للتثقف، فسأفعل الشيء ذاته مع أبنائي، ليكونوا نسخة من أمهم العظيمة: أنا، اصدقيني القول عزيزتي: هل تؤمنين بهذا حرفيا؟

ثانيا: إن الزمن الذي رباك فيه والداك، لايشبه زماننا الحالي إطلاقا، كانت التربية بسيطة جدا، لم يكن أحد يشارك الوالدين والأسرة في التربية، لم يكن الطفل يتلقى قيما في المنزل، وقيما مضادّة في وسائل الإعلام، كانت بيئة التنشئة آمنة جدا، والساحة راكدة، فالصواب عند أمك هو الصواب في عين المجتمع كله، ومع ذلك، لم تكن الأجيال السابقة مثالية كما نردد، بل اختلفت التنشئة من أسرة لأخرى كما هو واضح، وقد استمرت البشرية في ذلك قرونا متطاولة، أما في عصرنا الحالي، فالأمر مختلف جدا، لايشبه الحياة الماضية البسيطة أبدا،  فرق معنوي شاسع أكبر بكثير من الفرق المادي بين بيتك وبيت جدتك، وبين طعامك وطعامها…الخ، أنتِ  مستعدة للقيام بعبء سد الفجوة المادية بين الأجيال، بمواكبة عصرك ماديا، وبذل النفس والمال والوقت والجهد بطيب نفس ثمنا لذلك، لكنك غير مستعدة للتغيير المعنوي وطلب العلم الذي تستطيعين به مجابهة تحديات عصرك، ففي هذا الجانب يسعك ماوسِع أمك وجدتك، ولا داعي للترف!!

صدقيني هذا ليس ترفا، بل ضرورة أشد إلحاحا من استخدام جوال ذكي، أو صنع طبق حلوى مبهر، أو ترتيب أثاث بيتك بما يتوافق مع متطلبات زمانك، أبناؤك يحتاجون أُمًّا قوية إيمانيا، مؤصلة عقديا، واعية بمايموج في الساحة الفكرية، قادرة على قراءة أفكارهم ومناقشتهم في ما يطرأ من شبهات وأفكار والرد عليها، يحتاجون أما تنتمي لعصرهم، وتعرف أفكارهم، وتجيب عن تساؤلاتهم بعلم غزير وفقه للواقع، لايريدون أُمًّا ترتدي قميص (بيربري)، وتتقن أدق تفاصيل الحياة المادية المرفهة،  لكنها فقيرة معنويا، تتشرب الأفكار الوافدة من شهيرات السناب دون إدراك حقيقي لما تمارسه وسائل الإعلام من تغيير مجتمعي ناعم، تعيش وسط أمواج تحديات متلاطمة ظانّة أن مركب جدتها البسيط سيقيها الغرق، إذا كنت مصرّة على ركوب قارب جدتك وعدم إبداله بسفينة قوية، فعودي بأسرتك إلى الوراء، وأبحري في نهرها الهادئ، عيشي في بيت الطين، بلاتقنية، حيث لايدخل المنزل إلا حكايا نسوة الحارة الطيبات.

 

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ 24/2/2017

سؤال وجواب حول مستوى مخرجات التعليم!

‎باشرت عملي في التدريس عام ١٤٣١ هـ، ومنذ ذلك الحين وإلى الآن وأنا أعاني من نفس المشكلة في مدارس التعليم العام، وقد انتقلت المشكلة للجامعات أيضا، وهي السبب في ضعف المخرجات، وردني هذا السؤال قبل أكثر من سنة، وهذه إجابتي لم أغيّر منها حرفا، وقناعتي هذه لم تتحرك قيدَ  أنمُلة منذ التحاقي بسلك التعليم!

ما رأيك في مستوى الطالبات في السنوات التي قمتِ  بالتدريس بها هل ترين أن مستوى الطالبات بصفة عامة في كل سنه يتطور أم يكون في انحدار وما السبب في رأيك؟

‎بالنسبة لي لست من أنصار تفضيل الجيل القديم على الجديد، ففي كل منهما خير كثير وتقصير كثير أيضا، لكن أجد -بصفة عامة- أن مستوى الطالبات بدأ يهبط لهبوط مستوى التحديات التي تقدم لهن، فأغلب المواد تقدم بشكل سطحي يركز على حفظ المعلومة وليس ممارستها عمليا، ثم إن هناك حاليا (ثقافة سائدة) بين المعلمات وهي تخفيض مستوى التوقع من الطالبات فتقوم بتلخيص المادة العلمية والاقتصار على حفظ الأمثلة دون توسيع أفق الطالبة، فتسهم المعلمة في ضمور عقلية طالباتها لأقصى حد وهي تظن أنها تحسن إليها لأنها تريحها من التعب وتقدم لها الدرجات على طبق من ذهب! تماما كما كان نظام المدارس الأهلية الضعيفة المستوى التي لايلجأ إليها إلا طلاب الدرجات
نعم أعطيتها درجات ولكن هل علمتها حقا؟ هل اكتسبت مهارات تساعدها في المستقبل؟ أم غششتها بإيهامها بتفوق كاذب يفرحها ويريحك من عناء التقويم والمراجعة؟ هل الطبيب الناصح يقدم تحليلا سليما للمريض لمجرد أن يسعده؟ أم يقدم له تحليلا دقيقا ويساعده بمايلزم حالته للوصول للصحة بإذن الله؟ لدى الطالبات عقول نيرة تنتظر من يرتقي بها لا من ينزل إليها لكن ….من يعلق الجرس؟؟

‎أضيف للإجابة السابقة، أن اللوم لايقع على المعلمين والمعلمات فقط، فنظام التعليم حاليا يهدف لتحقيق نسب عالية من النجاح الكمي على حساب النوعي، والدليل مخرجات نظام التقويم المستمر في الابتدائية، بالإضافة إلى التغيرات الثقافية التي جعلت الطلاب وأولياء الأمور يريدون شهادة جاهزة فحسب دون الرغبة في بذل الجهد والسعي لتحقيق التعلم الحقيقي، لنتأمل ظاهرة الغياب المخيفة التي تنهش في شخصية الأبناء على سمع وبصر آبائهم! وهؤلاء الطلاب تتفجر جديتهم وبذلهم عندما يلتحقون بجامعات غربية أو محلية تفرض ثقافة الالتزام والكفاءة في المخرجات، ولا يعنيها كمية الخريجين بقدر مايعنيها نوعيتهم!

‎لكنني أعود لأقول: المعلم هو حجر الأساس، وهو قادر بعون الله على رفع نوعية طلابه والإسهام في تغيير ثقافة الهزال المنتشرة، أستاء عندما تصارحني معلمة بأنها كانت متحمسة في بداية مشوارها ثم صدمت واستسلمت للعرف السائد!

‎ماقيمة الحياة عندما نعيش بقناعات الآخرين؟

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ

افتتاح

السلام عليكم ورحمة الله

على الرغم من كون المدوّنات أقدم وسائل التواصل الاجتماعي على الانترنت وأقلها شيوعا بين الناس، إلا أنها الأحبّ لقلبي، أشعر أن المدونة كالبيت تماما، أكتب فيها المقالات وأرتبها وأصنفها، أستقبل تعليقات الزوار، أجد لحروفي ملاذا آمنا ورحبًا بعيدا عن الزحام، جربت أكثر من منصة تدوين، وفي كل منها مميزات وعيوب، ولعل ووردبرس الآن تكون مقرًّا لي بعد أصبح استخدامها أسهل.

ألِفت الكتابة منذ عمر مبكر، وعلاقتي بها لاتشبه علاقتي بأي شيء آخر، لا أعلم كيف ستكون حياتي لو أزلت منها ( الكتابة )، لطالما كان قلمي صديقي الوفي، ولساني المعبّر، وأثَري الباقي، أنا لا أكتب ليفهم الناس ما أريد قوله فحسب، أنا أكتب لأفهم نفسي أولا، لأرتب أفكاري، وليخرج الضجيج داخل رأسي إلى العالم فأهدأ، ويتسع المكان لضجيج آخر ولأفكار أخرى، الكتابة سجل يوثق ماكنا نفكر فيه ونعتقده في يوم من الأيام، حين أعود لكتاباتي السابقة قبل عدة سنوات أفهم أفكاري حينها، يصبح مادوّنته بمثابة الصورة الفوتوغرافية التي يلتقطها أحدهم للذكرى، وتزداد قيمتها المعنوية في نفسه مع السنوات، إنه يرى فيها نفسه في الماضي بجلاء شديد غير متكيء على ذاكرة قد تخونه وتشوه الصورة الحقيقية، أنا حين أكتب أفهم نفسي الآن، وأجعل لأفكاري صدى عند الآخرين، وتكون كتابتي بمثابة صورة أضمها لألبوم حياتي، كيف سيحدث هذا كله لو لم أكتب وأدون؟

إن من الإحسان العظيم لأي إنسان أن تعلمه هاتين المهارتين: ( القراءة والكتابة) تعلّمه أن يقرأ ويفك شِفرات العالم من حوله، ثم يكتب ليُصدر شفرته الخاصة، أنت تُحسِن له لأنك تجعل له فكرًا يفهم به العالم من خلال القراءة، وتجعل له منبرا يساهم من خلاله في إعادة تشكيل الواقع عبر الكتابة، القراءة والكتابة أمران معنويان، إن من يكتب لايصنع سيارة ولايبني ناطحة سحاب، ولكنه يُشكّل العقول ويغيّر في الأنفس، وهذا الجانب الثقافي أشد أثرا في الأمم والحضارات من الجانب الحضاري المادي، تستطيع أي أمة العيش بصورة بدائية مادامت تملك فكرا وعقيدة، ولكنها تنهار من الداخل إن كانت متطورة في البنيان وضعيفة في الجانب المعنوي.

سأنقل لهذه المدونة مقالاتي القديمة، وسأشير لتاريخ نشرها الأصلي أسفل كل مقال، ثم سأشرع في إضافة المقالات الجديدة وتصنيفها لفئات: تربوي، فكري، تأملات منوعة، ترجمة، كتب،  آمل حقا أن يجد القارئ في هذه المدوّنة ما ينفعه ويرتقي لذوقه، كما أرحّب أشد الترحيب بالتعليقات والملاحظات.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليلى العصيلي