9- للمقبلين على الدراسات العليا

graduation cap diploma isolated on a white background

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تراودني منذ فترة فكرة كتابة موضوع يرشد المستجد في الدراسات العليا، ويساعده في تلمّس الطريق وبناء الرحلة على أساس سليم، ثم صممت على الكتابة فيه بعد أن وردني أكثر من اقتراح لأكتب حوله، ولعل القارئ -سواء كان من طلاب الدراسات العليا الآن أو لاحقا بإذن الله – سيستفيد منها، وقد جعلت الحديث مقسّما لثمانية عناوين رئيسية، آمل أن تنير الطريق للمستجد، وأن يستفيد منها كما استفدت في بداية رحلتي ممن كتبوا خلاصة تجربتهم ونصيحتهم قبلي.

1- النية:

بداية، لعلي أتناول أهم أمر يتناوله العلماء في أي عمل، وهو النيّة، فقد روى البخاري رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:  سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيه، ينبغي أن تسأل نفسك: ماهي نيّتي من التحاقي بالدراسات العليا؟ هل أريد طلب علم نافع، واكتساب مهارة البحث العلمي، والتخصص الدقيق في مجال ما لأسدّ ثغرا فيه؟ هل أريد نفع نفسي وأمتي؟ أم أريد الوجاهة الاجتماعية بنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه؟  يجب أن تقف مع نفسك وقفة جادة في هذا الأمر، ولابأس أن تكون لك نية شخصية للترقي الوظيفي أو الحصول على وظيفة ترغبها، فطلب الرزق ليس عيبا، لكن هناك نوايا أكبر يمكنك أن تحملها في صدرك، إياك أن تكون نيتك الرياء والمفاخرة بهذه الشهادة، فإنه بئس الثمن الذي تقايض به جهدك وسهرك وتعبك! الطموح الحقيقي هو أن تتخذ جهدك في الدنيا سُلّمًا لرضى الله، ومعراجا للجنة، جدد نيتك باستمرار، واسأل الله الإخلاص، فإنك ربما تكون مخلصا في البداية، لكن تتشوّه نيتك أثناء الطريق فتحرف مسارك.

 2-الوعي بطبيعة المرحلة:

إن مرحلة الدراسات العليا مختلفة عن البكالوريوس، تماما كما تختلف مرحلة البكالوريوس عن المرحلة الثانوية، فكلما ارتقى المرء في مراحل التعليم قلّ اعتماده على معلميه، وزاد اعتماده على نفسه في التعلم، ستسفيد من أساتذة مميزين في مرحلة الدراسات العليا، لكن الجزء الأكبر من تعلمك سيكون ذاتيّا، ليس لأنهم مقصّرون، بل لأن طبيعة المرحلة تقتضي ذلك، أنت طالب دراسات عليا:  أي باحث، وأستاذ مصغّر، لا يجدر بك أن تكون (عالة)، تنتظر الإطعام بالملعقة، لاتنتظر أن يرشدك أساتذتك لتفاصيل المادة العلمية، أو أن يدربوك على جميع المهارات، هناك الكثير مما ينبغي لك أن تقوم به بنفسك، دورهم الأساسي في هذه المرحلة هو: وضع الخطوط العريضة لك، وتوفير النقد أو التغذية الراجعة، بمعنى قراءة تكليفاتك وبحوثك بدقة وأمانة وتبصيرك بنقاط قوتك وضعفك واقتراح بعض الحلول لتطور من مستواك، والأخذ بيدك شيئا فشيئا لتستحق أن تكون باحثا.

إن وعيك لطبيعة دورك في هذه المرحلة يرتقي بك في مدارج التميز، أذكر أنني قابلت طالبة ماجستير من أحد الأقسام التربوية في بداية دراستي، ودار الحديث حول ما إذا كانت كل منا قد وجدت فكرة بحثية يمكنها بناء خطة عليها، ففوجئتُ أنها ترى أن إيجاد الأفكار البحثية مهمة الأساتذة لا الطلاب، وقالت لي: لماذا أصبحوا أساتذة إذا كنا نحن من يطرح الأفكار البحثية؟ ما دورهم إذا؟ يمكنني تفسير موقفها بأنه ناتج عن أمرين: ضعف الوعي بدور الطالب في هذه المرحلة، وضعف الشغف العلمي والاطلاع الكافي الذي يجعلها قادرة على توليد أفكار بحثية، لا بأس باستشارة الأساتذة في الأفكار البحثية وتلقي مقترحاتهم، لكن سلبية الطالب المطلقة واتكاليته أمر غير ملائم.

3- القدرة على تقبل النقد وسرعة التعلم:

قلت في الفقرة السابقة، إن من أهم مايقدمه لك أساتذتك في مرحلة الدراسات العليا: نقد أبحاثك، وتبصيرك بنقاط قوتك وضعفك واقتراح بعض الحلول لتطور من مستواك، إن النقد -بمعناه الحقيقي- هو رأي الخبير في شيء ما ببيان مزاياه وعيوبه، هو أسلوب التقويم الملائم لمرحلة الدراسات العليا، ويجب عليك توطين النفس عليه واعتياد سماعه برحابة صدر كما تعتاد سماع تشخيص الطبيب لحالتك، ليس شرطا أن تعمل بكل رأي، لكن تقبل النقد بحد ذاته أمر لازم، مرحلة الدراسات العليا لاتناسبها عقلية الطفل غير الناضج الذي يتعطش للمديح ممن هم أكبر منه لمجرد الشعور بالأمان والمكافأة على بذل الجهد، لقد تجاوزت هذه المرحلة، قد تكون أعظم مكافأة على جهدك في هذه المرحلة هي أن يفرّغ هذا الأستاذ الخبير نفسه ليقرأ عملك بعمق، ويعطيك النقد الذي يبيّن نقاط قوتك لتعززها، ونقاط ضعفك لتعالجها، النقد الذي فيه إخلاصٌ لك وسعي جاد لمصلحتك وتطويرك، وعليك أن تستفيد منه وتتعلم ليصبح عملك أجود في كل مرة.

4- مفتاح التميز : القراءة، القراءة، القراءة:

إن كانت القراءة مهمة لجميع الناس، ومؤثرة في رفع المستوى التحصيلي للطلاب في كافة المراحل، فإن أهميتها تتأكد في مرحلة الدراسات العليا، إذ لايمكن للإنسان في هذه المرحلة أن يكون ضحل الثقافة، سطحي الفكر، لابد أن يكون لك قراءة جادة في الثقافة العامة، وفي تخصصك الدقيق، احذر أن تقتصر قراءاتك على المراجع التي تحتاجها لإنجاز تكليفات المواد، أو لإنجاز رسالتك، الاقتصار على قراءة المراجع الضرورية سيجعلك ضيق الأفق، محدود المعرفة، سطحي التفكير، وهذا آخر أمر تتمناه في هذه المرحلة بالذات، إن القراءة تنفعك في عدة نواحٍ:

  • سعة الأفق المعرفي، فاتساع قراءتك يزودك بمعلومات تثري خلفيتك وتعمّق من تناولك لأي موضوع.
  • امتلاك مهارات التفكير العليا، كالنقد والتحليل والتركيب، مما يجعل شخصيتك واضحة في بحثك بلاعناء ولاتكلف، فالقارئ الجاد يعالج المعلومات بطريقة مختلفة عن الطالب العادي، فهو يمحّص ما يقرأ ويستطيع النفاد إلى عمق النص ومعالجته معالجة نوعية.
  • تطوير مهارة الكتابة، فالقارئ النّهم، يمتلك قلما سيّالا، ولغة فصيحة، وبيانا ساطعا، وهذه أمور جوهرية في تجويد البحث العلمي، فحسن التعبير عن الأفكار وإيصالها للقاريء بلاتكلف، وخلو البحث من الأخطاء اللغوية أمور فارقة في جودة البحث العلمي.

بقي أن أنوّه هنا إلى أنه بالإضافة للقراءة العامة، والقراءة في مجال التخصص، لابد أن تكون مطلعا على أنظمة جامعتك من أدلتها الرسمية، عارفا لحقوقك وواجباتك، لاتكتفِ بمعرفة الأنظمة من زملائك أو بأخذها شفهيا من أساتذة الجامعة، اقرأ اللوائح والأنظمة وعد إليها كلما لزم الأمر.

5- التعلم الذاتي:

لابد أن تطور مهارة التعلم الذاتي لأي معرفة أو مهارة تحتاجها وتنقصك، هناك مهارات عامة لابد لها أي طالب دراسات عليا مهما كان تخصصه، مثل مهارات استخدام برنامج Word ، مهارات البحث في Google، مهارة تنظيم الوقت، مهارات القراءة المختلفة كالتلخيص وتدوين الملاحظات وأنواع القراءة المختلفة، مهارات البحث في المكتبات، وقواعد البيانات و المعلومات الالكترونية، مهارة الحوار والكتابة العلمية، وهناك مهارات خاصة بتخصصك، مثل مهارة البحث في المكتبة الشاملة للتخصصات الشرعية، مهارة استخدام برنامج التحليل الإحصائي SPSS  للتخصصات التي تتطلب استخدامه.. وهكذا، كلما تعلمت مهارات أكثر زاد تجويدك لبحثك وأصبحت أكثر قدرة على تنفيذ تفاصيله بنفسك، لاتجعل مصدر معلوماتك الوحيد: جامعتك وأساتذتك، تابع المهتمين بالبحث العلمي في وسائل التواصل، واعرف مستجدات تخصصك، سواء في محتواه أو في مناهج البحث فيه، ولاتخف من التعلم والتجربة.

6- أخلاق الباحث:

كان علماؤنا الأوائل يطلبون الأدب قبل العلم، ويعدون الأدب ثُلُثي العلم، مهما تعلمت وتعمقت في تخصصك، فلاغنى لك عن حُسن الخُلق، بل قد يتأكد في حقك أكثر ممن هو أقل منك علما.

كن ودودا بشوشا بارّا لوالديك واصلا لأرحامك نافعا للناس وليّن الجانب معهم، لا تتكبر على أحد فالإنسان جاهلٌ مهما تعلم، والعلم لايقتصر على أسوار المدارس والجامعات ولايُختزل في الشهادات، ثم إنه نعمة من رب العالمين فله الفضل لا لك، وهو قادر على سلب عقلك وعلمك وذكائك في أي لحظة، فما الداعي للتكبّر؟ تذكّر قول الله تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)  

لاتنعزل عن مجتمعك وأهلك وأسرتك وأقاربك بحجة الانشغال ببحثك، نظّم وقتك جيدا، واعلم أن الحياة ليست بحثا فقط، ولا دراسة فحسب، فأعطِ كل ذي حق حقه، لا أقصد أن تتتبع كل لقاءات الناس فهي لن تنتهي، وقد يتخذونها وسيلة لتزجية الفراغ فحسب، لكن سدّد وقارِب ولا تنعزل واحضر المناسبات والاجتماعات والأعياد الأسرية، إن التواصل الأسري كنز يثري روحك ويعظّم أجرك ويجدد نشاطك، ومن يدري؟ قد يفارقك أحدهم فتندم على بخس علاقتك معه بسبب هذه العزلة.

أخلاقك مع أساتذتك وزملائك أمر لايقل أهمية عن سابقه، فاحترام أساتذتك وحفظ مكانتهم، أمر هام، كما أن علاقتك مع زملائك الباحثين من دفعتك وغيرها جوهرية أيضا، ويمكن إيجاز التميز فيها بالقول: أحبّ لزملائك الخير كما تحبه لنفسك، وإذا رأيت من هو دونك فلا تتكبر عليه ولاتتوانَ عن مساعدته، إما إن رأيت من هو أفضل منك، فإياك وحسده أو كراهية تميزه أو تبرير ذلك الحسد بحيل نفسية ملتوية، افرح به، وتعلم منه، واجعل قربك منه منحة لا محنة، وقد يكون التفاضل بينكم في أمور دون أمور، فاتخذ ذات الأسلوب: انفعه فيما ينقصه، وتعلم منه فيما ينقصك، تعامل مع زملائك بمبدأ التعاون لا التنافس، واجعل احتكاكك بهم شاهدا لك لاعليك، ونافعا لك في مسيرتك.

بقي أن أنوّه لخلق هام هو خُلُق الشكر لمن يساعدك، ستحتاج مساعدة الكثيرين، بتوفير بيانات أو خدمات، أو تحكيم أداة بحث، أو الإجابة عليها، أو إجابة على استشارة بحثية، كن مهذبا في طلبك، عاذرا للناس إن قصروا في خدمتك، شاكرا لهم إن قدموا لك شيئا، ستقول إن هذا أمر بدهي؟ يؤسفني القول إنه ليس كذلك، لأن بعض الباحثين ينسى الشكر أو يتجاهله، يتعامل مع البشر وكأنه يتعامل مع محرك Google  أو قاعدة بيانات جامدة، يأخذ منها ما يريد، ثم يمضي بلا شكر، وهذا خلق سيء حذّرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:  “مَنْ لا يشْكُرُ الناسَ لا يشْكُرُ الله ويشرح العلامة ابن باز هذا الحديث بقوله: “أن من كان من طبيعته وخلقه عدم شكر الناس على معروفهم وإحسانهم إليه ، فإنه لا يشكر الله لسوء تصرفه ولجفائه، فإنه يغلب عليه في مثل هذه الحال أن لا يشكر الله…وإنه كما يجب عليه شكر الله على ما أحسن إليه، فعليه أن يشكر الناس أيضاً على معروفهم إليه وإحسانهم إليه، والله جل وعلا يحب من عباده أن يشكروا من أحسن إليهم”.

7-أخلاقيات البحث العلمي:

فضّلت فصل أخلاقيات البحث العلمي، عن الأخلاق بوجه عام، لأن أخلاقيات البحث العلمي لاتتعلق بتعاملك مع البشر مباشرة، لكنها جزء خاص من الأخلاق يختص بتصرفك مع البيانات والمعلومات في بحثك بصدق وأمانة، ولابد لك من الاطلاع على أخلاقيات البحث العلمي بشكل مفصّل، لكن هذه أمور أساسية:

  • السرقة العلمية ممنوعة منعا باتّا في مرحلة الدراسات العليا، وقد تعرضك للفصل مباشرة، فانسب كل معلومة لمرجعها بصدق وأمانة ولا تسرق جهد غيرك، وإذا دوّنت أي معلومة فاحرص على ربطها بمرجعها في نفس الوقت، لأنك ربما تنسى ذلك، فتعود لها لاحقا وتظنها من بنات أفكارك، وتنسبها لنفسك، فتكون أوقعت نفسك في السرقة العلمية من حيث لاتدري.
  • إذا وجدت اقتباسا لمرجع لم تحصل عليه، وأردت إيرداه في بحثك، فابحث عن المرجع الأصلي وانقل منه مباشرة، فإن تعذّر ذلك، فانسب المعلومة للمصدر الثانوي الذي وجدت فيه الاقتباس، وإياك أن تدعي الرجوع لمرجع لم ترجع له حقيقة، فإن هذا كذب، وبخس لجهد صاحب المرجع الثانوي، وإن لم يردعك خُلُقك، فقد يُكشف فعلك لأن صاحب المرجع الثانوي يكون قد تصرّف في المعلومة فيُعلم أنك نقلتها منه، لا من المرجع الأصلي ( وهذه النقطة بالذات يغفل الكثيرون عنها، أو عن تبيّن خطئها أخلاقيا).
  • حافظ على سرية بيانات المستجيبين لبحثك، من تجري معهم مقابلات أو استبانات أو تستقبل منهم بيانات، لاتفشِ أرقام هواتفهم، ولا تحرّف أقوالهم، ولا تنشر من بياناتهم إلا مايسمحون لك به.

8- منعطفات الرحلة:

رحلة البحث العلمي كثيرة المنعطفات، مهما قرأت في كتب مناهج البحث من خطوات، أو رأيتها في منشور انفوجرافيك، فإنها ليست بهذه السهولة على أرض الواقع، سيصيبك في الواقع الحماس والإحباط، والاستمتاع والملل، وسيعتريك الإقبال والإدبار، وستواجه عقبات لم تكن في الحسبان، فلا تستسلم بسهولة، أكاد أجزم أن من أهم الأمور التي تعلمتها من إعداد رسالة الماجستير: المثابرة والصبر، ولكن نصيحتي لك هي أن تسرع بالنهوض بعد كل كبوة أو فتور، لاتسوّف، عد لبحثك بمجهود بسيط، ثم ستتيسر لك الأمور بإذن الله، وقد كتبت في مقال سابق (هنا) أمورا ستنفعك بإذن الله عن الإنجاز والتسويف، كما أن قناة علي وكتاب (هنا) تقدم لك أفكارا تساعدك في تنظيم الوقت والجهد، والتعامل مع الإحباط و المشتتات واستعادة الشغف، الرسم  الطريف التالي يبيّن رحلة البحث العلمي كما نتخيلها قبل البدء، وطبيعة الرحلة على أرض الواقع 🙂

PhD-journey

إن رحلة البحث العلمي رحلة شاقة ممتعة، ستغيّر فيك الكثير إن أحسنت إدارتها، فاستمتع بها، ولا تتعامل معها على أنها أزمة، تسلّح بالدعاء والاستعانة بالله في كل حياتك، ومنها دراستك، فإننا -لولا معونة الله- ما استطعنا رفع طَرْفٍ أو رَدّ نَفَس، فأظهِر إلى الله افتقارك، وتبرأ من حولك وقوتك، وتوكّل عليه، وألحّ على ربك بالتيسير والتوفيق والسداد، اجعل الافتقار إلى الله والإلحاح في الدعاء ديدنًا لك، فإن هذا لُبّ العبودية، ومفتاح التوفيق.

وفقكم الله جميعا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

8- لاتثق بنفسك

images

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ازدهرت دورات التنمية البشرية في العقود الأخيرة، ولاجدال أن في محتواها خير عظيم مهما قُلّل من شأنها، لكنها لم تخلُ من الضرر والمبالغة، ومن القيم التي غالت دورات التنمية البشرية في الإشادة بها، قيمة: الثقة بالنفس، فقد كان الناس في فترة سابقة غارقون في التفكير الجمعي لدرجة نسيان كل منهم لذاته، وتقييمه لها بناء على آراء الآخرين، وخوفه من الإقدام على إنجازات فردية، خاصة لو لم يملك سجل إنجازات منذ سن مبكر يجعل العالم يعترف به، فكان من الضروري إعادة ثقة الفرد بنفسه بعيدا عن التأثر بما يحمله الآخرون من انطباع عنه، أو مايحمله هو من انطباع عن نفسه.

لكن -كعادة أي مفهوم- فإنه يبدأ غريبا مستهجنا، ثم يتقبله الناس، ثم يبالغون فيه حتى التطرف فينقلب لأمر ضار، وهذا ما حصل مع مفهوم الثقة بالنفس، حيث تحوّل مع الوقت إلى انتفاخ أجوف، وغرور مستهجن، فالكل واثق بنفسه، في كل شيء، والجميع يرى نفسه فوق السحاب، يتجاهل عيوبه باسم الثقة بالنفس، ويصمّ أذنيه عن سماع الآراء باسم الثقة بالنفس، حتى أصبحت هذه الثقة عائقا عن التعلم والتطور، فالتعلم فعل يتطلب التواضع، والاعتراف بالجهل والتقصير، ومعرفة العيوب والمزايا بدقة، والعاقل يثق بنفسه في الأمور التي يمتكلها حقا، لكنه يتواضع عند الأمور التي يفتقدها ويعترف بقصوره، وهذا  ماعرفه علماؤنا الأوائل باسم الصدق مع النفس.

وقد قرأت مقالا لـ Simon Borg بروفيسور التنمية المهنية لمعلمي اللغة الانجليزية، يؤكد فيه من خلال احتكاكه بالمعلمين حول العالم أن الثقة  المطلقة بالنفس قد تعيق المعلم عن تطوير عمله، لأنه راضٍ تماما عما يقوم به، ولايشعر بالحاجة للتعلم، وقد لاحظ أن المعلمين الذين يخوضون تجربة تنمية مهنية جادة تهتز ثقتهم بأنفسهم وتتراجع شيئا ما حين يدركون أن أمامهم الكثير ليتعلموه، لكن هذا هو الذي يطوّرهم حقا، ويكسبهم ثقة مستحقة بالنفس، ثقة مصدرها العلم والإنجاز الحقيقي لا مجرد الادعاء الفارغ، ثم يؤكد على أهمية الصدق مع النفس، ومعرفة المعلم لنقاط قوته وضعفه بدقة، كي يتطور فعلا، هنا رابط المقال.

ذكرني مقاله بظاهرة أواجهها كثيرا في مجال التعليم، وهي ادعاء بعض المعلمات أنها واثقة من نفسها ولذلك فهي لاتهتم لأي نقد لتدريسها من أي زائر للصف، وهذا لايعكس الثقة بقدر ما يعكس الضعف النفسي وعدم القدرة على التعلم وتقبل النقد ومواجهة الذات،  إذ يُنظر للنقد على أنه هجوم وانتقاص أكثر من كونه فرصة للتعلم، قد تقول إحداهن: ولكن هذا النقد غير منطقي، لكنها تغالط نفسها حين تفرح بالإشادة غير المنطقية أيضا، ومن عرف نفسه حق المعرفة، وأراد الخير لها حقا، أخذ الحق وترك الباطل بغض النظر عن كونه مدحا أو ذمّا، وبغض النظر عن الأسلوب أيضا، إن الإنسان الجاد في تطوير نفسه يدرك أن المشوار طويل، وأن التعلم الحقيقي يتطلب التواضع وخفض الجناح، ولذلك قيل “إن العلم ثلاثة أشبار: إذا تعلم الإنسان الشبر الأول تكبّر، ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثاني تواضع، ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئاً “،  قد تعبر الثقة بالنفس أحيانا عن مكوث المرء في الشبر الأول !

نحن نصمّ آذاننا عن النقد بحجة الثقة بالنفس، ولك أن تتجول في حسابات بعض المشاهير، وترى مخالفتهم للشرع والعرف والذوق العام، ثم اختيارهم للمضي قُدُمًا وتجاهل انتقادات المتابعين ونصائحهم مهما كانت صحيحة، وتبرير ذلك باسم (الثقة بالنفس)، وقد يُتبع ذلك بحِيَل نفسية أخرى كوصف الذات بالشجرة المثمرة التي ترمى، ووصف الناقدين بالكلاب التي لايضرّ السحاب نباحها.. وهكذا،  إن هذه الثقة المزعومة بالنفس غلافٌ لآفة عظيمة حذّرنا الله منها وهي: الكِبْر، حيث يمتنع المرء من قبول الحق استكبارا عنه، واستجابة لهوى النفس في كراهية الانصياع للآخرين، وما أثقل التعلم والتغيير في هذه الحالة.

إن الثقة بالنفس مفيدة في موضعها، لكنها ضارّة إن استخدمت بلا مبرر، لايمكن لإنسان عاقل أن يدّعي الثقة بالنفس في كل أمر، فهذه الثقة ينبغي أن تكون مبنية على مقوّمات حقيقية، فالثقة بالنفس لن تسعف مترهّلا للفوز بمسابقة رياضية، لكنها تفيد الرياضي المستعد في تخفيف توتره عند بدء المسابقة، يعتبر بعض المحاضرين أو المدربين الثقة بالنفس كافية لتقديم محاضرة أو دورة تدريبية، فيهمل الاستعداد الكافي متكئا على ثقته بنفسه، لكن سرعان ماينكشف ذلك للحضور وإن جاملوه، الثقة بالنفس مفيدة عند وجود ما يبررها، مفيدة لدفع التوتر الذي لاداعي له، لكنها لاتهَبُك شيئا لاتملكه، لاتثق بنفسك فيما لم تتمكن منه، اعترف بالقصور وتعلم حتى تكون ثقتك مستحقة، الثقة وحدها لاتفعل شيئا، بل قد تضرّ. 

7- إليك عني !

listenالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يحدث أن يصاب شخصان بذات المصيبة، أو يقعان في نفس مشكلة، فيرضى الأول بقدر الله، ويتصبّر حتى يصبّره الله، وقد يكرمه بمنزلة الرضى، فتكون المصيبة مفتاح أجر لاوزر، وميدان انطلاق لا انغلاق، بينما يجزع الآخر، ويتسخط، وقد يفشل في تجاوز المصيبة لبقية عمره، ويحدث الشيء نفسه مع المشكلات، فمن الناس من يتعثر عند أي مشكلة، ويتقن لعب دور الضحية، فإذا طرحت عليه الحلول تفنن في تفنيدها وطرح معوقاتها وبيان استحالة تنفيذها وأن الأمر ليس بيده أبدا، بينما يعي الآخر دوره في حل المشكلة ويبذل مابوسعه من الأسباب لتجاوزها.

وإذا واجهت شخصا من النوع الأول، الذي يجزع للمصائب ويستسلم للمشكلات، ثم حاولت مساعدته بتعريفه بما يمكنه فعله، من الصبر عند المصيبة، أو السعي وفق الإمكان عند المشكلة، غضب عليك، وواجهك بحجة معروفة: أنت لم تجرب ماجربته ولذلك تطالبني بالمثاليات، ولو كنت مكاني لفعلت فعلي.

وهذه حجة من السيء أن تنتشر بيننا، ليس شرطا أن يجرب ناصحك ذات الأمر حتى تكون نصيحته نافعة، بل قد يكون مجربا ويضرك، لأنه هو أيضا تصرف بطريقة خاطئة، فيقدم لك نصيحة خاطئة، صحيح أن التجربة مفيدة لكنها ليست شرطا لصلاح النصيحة، نحن نشترط التجربة أحيانا كمبرر عاطفي لرفض الاستماع لكلام الشخص المقابل، لأن مقتضاه يخالف هوى نفوسنا كما أنه ليس من الضروري أنه لو جرب فيستصرف نفس تصرفك، ربما يكون أكثر حكمة في التعامل مع المشكلات، وأقوى صبرا عند المصائب، والواقع يشهد بتباين مواقف الناس عند مرورهم بنفس الأزمات.

فإذا سمعت نصيحة نافعة فخُذها حتى لو خالفت هواك، فالدواء مرٌّ لكنه نافع، والحكمة ضالّة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، والله أثنى في كتابه العزيز على من يستمع للقول النافع فيتبعه، فقال سبحانه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)، والمقصود المباشر في هذه الآية هو القرآن، ولكن الآية عامة تشمل كل قول كما يذكر السعدي رحمه الله، ثم يضيف في تفسير الآية: ” فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام اللّه وكلام رسوله…ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره، على ما سواه، وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين الأقوال، حسنها، وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذى يميز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل“.

إن تمييز النصيحة النافعة، لايلزم منه أن تكون صادرة ممن جرب نفس مصيبتك أو مشكلتك، فلا تتكبر عنها بهذه الحجة، فالتكبر عن سماع النصيحة النافعة صفة مذمومة ولو غُلّفت عاطفيا بحجة أن الناصح لم يجرب، فلا تكن كالمرأة التي استخدمت نفس هذه الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تنتفع بنصيحته، فعن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: “مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَال: اتَّقِي الله وَاصْبِرِي فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنِّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبتي، وَلَمْ تعْرفْهُ، فَقيلَ لَها: إِنَّه النَّبِيُّ ﷺ، فَأَتتْ بَابَ النَّبِّي ﷺ، فلَمْ تَجِد عِنْدَهُ بَوَّابينَ، فَقالتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فقالَ: إِنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى“. متفقٌ عَلَيهِ.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

6- ثنائيات: الحفظ أم الفهم؟

MAG-Schoemaker-Intelligent-Intelligence-Enterprise-Business-1200

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة، سألتنا إحدى المعلمات عن القسم الذي نود الالتحاق به في المرحلة الثانوية، وتنوعت الإجابات، إلا أن إجابة لإحدى زميلاتي لفتت انتباهي، فقد قالت: “أنا أفهم ولا أحفظ، لذلك سأختار القسم العلمي، فهم يقولون إن القسم العلمي لمن يفهم، والقسم الأدبي لمن يحفظ”

هذه الثنائية أحد أمثلة التفكير السطحي الذي يلجأ له الذهن الكسول الذي يزعم أنه يفهم ولايحفظ 🙂

الحفظ مهارة مظلومة في العصر الحديث، أصبحت عنوانا للسذاجة والبلاهة، أما الفهم فهو عنوان الألمعية والذكاء، ولا أدري كيف سيُصنّف الشافعي رحمه الله -وهو من أشد الناس حفظا- في نظر أصحاب هذا التفكير الحدّي: هل سيرمون به في مكب القسم الأدبي لأنه -والعياذ بالله- يتقن الحفظ ؟ الشافعي ياسادة أحد أذكى أذكياء الدنيا، اخترع أصعب علوم الشريعة: علم أصول الفقه الذي أجزم أن كثيرا ممن يدعون الفهم اليوم سيفغرون أفواههم استصعابا لمسائله العويصة التي تتطلب الفطنة والمنطق واللغة وترتيب التفكير !

هل جلس الشافعي يوما ليفكر في تصنيف نفسه هل هو من أهل الفهم أو الحفظ كما يفعل الناس اليوم؟ إنهم يتحدثون عن الفهم والحفظ كما يتحدثون عن تشجيع فرق كرة القدم، فكما أنه من المستحيل أن تكون هلاليا ونصراويا في الوقت نفسه، فإنه يستحيل أن تحفظ وتفهم في آنٍ معا، فاكشف هويتك بسرعة: هل أنت من أهل الفهم أم الحفظ؟ هل أنت من نخبة العلمي أم من رعاع الأدبي؟

شخصيا، لم أستسغ هذه الثنائية البائسة التي لازال الإيمان بها قائما إلى اليوم، فأنا بحمد الله أحفظ وأفهم، ولا أقف عند هذه المرحلة بل أتعداها للتحليل والتركيب والتقويم وغيرها من مهارات التفكير المعروفة في سلم بلوم، وكثيرون غيري أيضا يمتلكون هذه المهارات ولا يجدون مبررا للتعارض بينها، فلا أستطيع حفظ آية من كتاب الله إلا بعد فهمها، كما أنني لا أستطيع حل مسألة رياضيات إلا بعد حفظ قانونها تمهيدا لتطبيقه، ومادة النحو مثلا مادة أدبية لكنها تعتمد على فهم قواعد اللغة، وهكذا.

إلا أن تعليمنا في العالم العربي، قد تعرض لإضعاف وتشويه في العلوم الإنسانية أظنه السبب في الإساءة لمهارة الحفظ، وظهور هذه الثنائية ( الأدبي والحفظ والغباء، العلمي والفهم والذكاء)، لأن كثيرا من المعلمين يدرّسون مواد الدين والتاريخ والجغرافيا واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع والمواد التربوية بطريقة آلية تخلو من الفهم العميق للمحتوى، وربطه بواقع الحياة، وتوسيع مدارك الطالب وإثرائه بمراجع خارج المقرر، وهذا مايسميه باولو فريري (التعليم البنكي) أي التعليم الذي يلقّن فيه المعلمُ الطالبَ المعلومة، ثم يسترجعها منه وقت الاختبار دون تغيير، ودون أن يبقى منها شيء عند الطالب بعد الاختبار، تماما كما يفعل أحدنا حين يودع ماله في البنك.

العلوم الإنسانية (الأدبية) خطيرة في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات، وإحساسهم بهويتهم، فهي العقل المفكر للأمة كما يصفها د.بكار، أما العلوم التطبيقية (العلمية) فهي اليد الصانعة، القادة والمفكرون والفلاسفة والكتاب هم قادة الأمم، هم صُنّاع الثقافة، هم روح الشعوب، أما المخترعون والمهندسون والأطباء فهم المنفذون، هم صُنّاع الحضارة المادية التي تشكّل جسد الأمة، والتخصصان متكاملان، لكن الوضع في عالمنا العربي مقلوب، فالتخصصات الإنسانية يُرمى فيها ضعاف الطلبة، ويتجه المميزون للتخصصات التطبيقية، ثم نتعجب كيف تكون أمتنا تابعة ذليلة؟!

بدلا من قراءة محتوى العلوم الإنسانية بعمق، وفهمها ومناقشتها حتى تمتزج بروح الطالب وتشكل فكره ويمتلكها للأبد، ويبلغ من تشبعه بها حدّا يجعله يجيب عن أي سؤال فيها بطلاقة دون لجوء لحفظ ألفاظ غيره، نلجأ للتعليم البنكي، فإذا أضفنا لهذه المعضلة الضعف اللغوي الشديد عند الطلاب وعدم قدرتهم على الاسترسال في الكتابة عما يعرفونه بأسلوبهم هم، لجأوا لحفظ محتوى المقرر نصًّا وصبه في ورقة الاختبار، فيُساء بسبب هذا النوع من التعليم لمهارة الحفظ، ويتبرأ منها الجميع رغم شدة أهميتها في البناء العلمي للإنسان.

في الصف الثاني ثانوي، صُنّفت من قِبَل إدارة المدرسة ضمن طالبات القسم العلمي، نظرا لأن تقديري مرتفع ودرجاتي في المواد العلمية عالية، ولكنني لم أكن أريد القسم العلمي، المواد الأدبية تجذبني أكثر، أحب اللغة العربية بفروعها، وأتلذذ بدراسة البلاغة والنحو، ويأسرني التاريخ، وأحب التعرف على البلدان ودراسة الجغرافيا، ثم إنني أود الالتحاق بقسم اللغة الانجليزية وهو قسم أدبي، وقد اضطررت لإقناع إدارة المدرسة والإلحاح الشديد والإقرار بأنني أفضل القسم الأدبي على العلمي رغم تفوقي في المواد العلمية وسهولتها عندي، لكن ما العقلية الكامنة في أذهان المعلمات ليتصوّرن أن الأدبي قسم لايليق بطالبة متفوقة؟ أين كانت المدارس ستصنّف الرافعي وشوقي والطنطاوي والزيّات ومحمود شاكر وغيرهم من أعلام الأمة ومفكريها؟ هل لهم أي اهتمامات علمية؟ لاشك أن التخلف الحضاري الذي عانته الدول العربية ساهم في المغالاة في الاهتمام بالتخصصات التطبيقية وإهمال الإنسانية، لكنني لا أعرف أمة قوية تجعل الفكر واللغة والتاريخ تخصصا للبليدين من أبنائها!

الحفظ مهارة عظيمة لاغِنى عنها لطالب العلم: حفظ القرآن والسنة ونصوص الشعر وغيرها مما يثري العقل ويطلق اللسان ويثري الوجدان، لكنها مهارة تتطلب صبرا وجلدا لايستطيعه الجميع، ولايمكن لإنسان ادّعاء حفظ نص لايحفظه حقيقة، أما الفهم فادّعاؤه أسهل، لأنه لايتطلب تكرارا كالحفظ، ولايسهل كشفه، إذ يمكن لشخص بليد ضعيف الفهم أن يقول بكل جرأة: “أنا أفهم ولاأحفظ”، وقد عرفت عبر السنوات كيف أترجم هذه العبارة لمعناها الحقيقي: “أنا لا أستطيع المذاكرة، سأكتب أي شيء وأقول هذا فهمي”، واجهت أكثر من شخص خدعوا أنفسهم بهذه الثنائية، فلا هم فهموا، ولا حفظوا، ولاتوقفوا عن توارث هذه الأساطير جيلا بعد جيل.

5-ثنائيات: الشدة أم التدليل؟

 

thumb_ls_2816السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مفاهيم كثيرة تتصل بحياتنا اليومية تحتاج تفصيلا لنحكم عليها، لايكفي أن نتعامل معها بطريقة إما أبيض أو أسود، إما صواب أو خطأ، الكسل الفكري هو الذي يجعلنا نستسهل الحكم السريع على الأشياء، ونترك التأمل والتفكير، مع أن التروّي مطلوب، لأن قناعاتنا تشكل سلوكياتنا، وسلوكياتنا ترسم مسار حياتنا، في هذه السلسلة سأحاول تفصيل القول في ثنائيات نميل لاتخاذ مواقف سريعة منها، فنحن إما مع هذا أو ذاك، والأمر يحتاج تفصيلا.

حينما يدور الحديث عن التربية في أي مجلس، ينقسم الناس عادة إلى فريقين: فريق يميل للتدليل، وفريق يجنح للشدة، وقد شكّل كل منهم قناعاته عبر سنوات بطريقة متراكمة تؤثر فيها عوامل عدة: تربية والديه له وموقفه من هذه التربية رفضًا أو قبولا، شخصيته وطباعه وميله للتساهل أو الشدة، تجاربه في الحياة ومعرفته للناس وأحوالهم، مشاهداته وقراءاته..الخ

فريق التدليل يرى أن من واجب الوالدين توفير أفضل معيشة للأبناء، وأن التدليل مقياس الحب والرحمة، أما الشدة فهي قسوة لا مبرر لها، وفريق الشدة يرى أن الحزم هو الذي يصقل شخصية الأبناء ويعودهم على مواجهة الحياة، وأن التدليل إفسادٌ بيّن وجرمٌ عظيم.

وأرى أن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ ينبغي أن نفكر في أمرين:

1- شخصيات الأبناء مختلفة:

يختلف أثر التدليل والقسوة على الأبناء، فمنهم من يرقق التدليل طبعه ويهذّب نفسه، ومنهم من يفسده التدليل ويجعله أنانيا مدمنا للأخذ غير قادر على العطاء، أو ضعيفا لايتحمل المسؤولية ولايقوى على مواجهة الحياة، والشدة في التربية يختلف أثرها أيضا على الأبناء: فمنهم من تصقله الشدة وتربيه وتعوده على القوة وتحمل المسؤولية وتجعل شخصيته مميزة وقوية، ومنهم من تكسره الشدة وتهينه وتكون سببا في انحرافه.

2- مفهوم التدليل والشدة مختلف:

للتدليل والشدة صور جيدة وسيئة، فمن التدليل ماهو أمر محمود يُشبَع فيه الأبناء عاطفيا، ومنه ماهو مذموم يكتفي فيه الوالدان بإغراق الأبناء ماديا، أو يتركان الحبل فيه على الغارب لأنهما ضعيفان فحسب، كما أن الشدة مختلفة، فهناك شدة منبعها الحب وإرادة الأفضل للأبناء وفق رؤية تربوية واضحة، وهناك شدة منبعها جفاء الطبع وسوء الخُلُق والبخل العاطفي أو المادي.

لن أتحدث هنا عن التوازن، وما الذي يفترض فعله، وعن الجمع بين محاسن التدليل ومحاسن الشدة، ليس هذا موضوع المقال، الفكرة هي أن هذه المفاهيم تحتاج تفصيلا للحكم عليها، ومن الخطأ تناولها سطحيا بتأييد أو رفض، فمهما بدت سهولة الحكم السطحي مغرية، إلا أنها خطيرة، لأن مواقفنا وسلوكياتنا ستُبنى حينها على أحكام سطحية، وبالتالي مصائرنا.

4-هل يتقدم العالم؟

259px-The_Scream

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أحد أهم ملامح الفكر المعاصر، الاحتفاء بالجديد لجِدّته، وازدراء القديم لمجرد قِدَمه، وقد يكون لهذا النمط من التفكير مبرره عند الغرب وهو سيطرة فكرة التقدمية ( progression ) والتي نبعت من الفلسفة التاريخية القائلة بأن كل عصر لابد أن يكون أفضل من سابقه، فالبشرية تسير في خط تصاعدي منذ القدم وإلى الآن وستستمر في ذلك، ومن رواد هذه الفلسفة في الفكر الغربي: هيجل وماركس.

تصب نظرية النشوء والارتقاء لدارون في ذات الفكرة، فدارون يرى أن الإنسان بشكله الحالي تطور عبرالنشوء والارتقاء وانتخاب الطبيعة للأفضل، وأنه كان في البداية قردا ثم تحول عبر الاف السنين ليكون إنسانا، وتقتضي النظرية – التي يؤسس عليها الفكر الإلحادي اليوم- أن الإنسان في تطور مستمر، وإذا كان التركيز اليوم على التطور المادي والتقني وتجاهل الجانب الروحي والأخلاقي، فإن الواقع يعزز هذه الفكرة، فالبشر في كل يوم يتقدمون تقنيا عن اليوم الذي قبله، مما يجعل البعض يستخدم نفس المبدأ للحكم على عالم الأفكار، فيرى أن فكرة التعلم النشط في التدريس أفضل وأرقى من فكرة التلقين لمجرد أنها أحدث منها، تماما كما أن أيفون 8 أفضل من نوكيا الدمعة بلا مناقشة.

 يشيع اليوم بين الناس أن يعيب أحدهم فكرة ما لأنه ولى زمنها، ولأن الناس أضحوا يفكرون بطريقة مختلفة، وكأنه ينبغي أن نبقي أعيننا على التقويم حين نريد تبني أي فكرة في أي مجال خشية أن تكون صلاحيتها قد انتهت ونحن لاندري، ولكن، هل هذا صحيح؟ هل يصحّ أن نعتبر (الجِدّة) معيارًا للحكم على صحة الأفكار؟ وهل يصح أن نقول إن تفكير الناس اليوم وعقولهم أفضل من القرون السابقة لمجرد التقدم الزمني؟

نحن في الإسلام لانحكم على أمور الدين والأخلاقيات بنفس المعيار الذي نحكم به على الماديات، فنحن وإن كنا نقرّ بأننا نعيش اليوم عصرا متقدما ماديا، إلا أنه متأخر بل متخلف روحيا وأخلاقيا، ولدينا يقين جازم بأن الأفضل مضى ولن يعود، وهو عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وأن أفضل مايمكن أن نبلغه من تقدم ورقي هو محاولة القُرب من ذلك النموذج المثالي، ولن نكون مثله، لكنه معيار قربُنا وبعدُنا منه يحدد مقدارَ تقدمنا أو تأخرنا، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ )، يشير الحديث إلى أن عصورا من ( التخلف ) قادمة، وإن كان هيجل وماركس وملايين الناس اليوم يعدونها أكثر تقدّما.

قلت في الفقرة السابفة إننا -نحن المسلمين- لا نحكم على الماديات بنفس المعيار الذي نحكم به على المعنويات، فإن كنا اليوم نعيش عصرا متقدما ماديا، فإنه متخلف روحيا، ولكن مهلا، حتى هذا التقدم المادي يعد تخلفا في نظرنا أيضا إذا انحرف عن مُراد الله، وأدى إلى جفاف الروح والتعلق بالدنيا – وهذا هو الحاصل اليوم- فالبشرية تستخدم العلم المادي التجريبي بطريقة منحرفة عن مُراد الله وحكمته في تسخير الكون للإنسان، فهي تصنع المزيد من القنابل والأسلحة المدمرة، والتي لن يروج سوقها إلا بتذكية الحروب وإشعالها وضمان استمرارها، كما أن صناعة الأدوية والتجهيزات الطبية تروج بشكل مخيف وغير أخلاقي في كثير من الأحيان، فالأدوية تطيل متوسط الأعمار وتبقي الناس في حاجة ماسة للدواء  والفحوصات بالأجهزة، وهذا يخدم الهدف الأساسي: تدفق المزيد من المال لشركات الأدوية والتجهيزات الطبية، فالميت والصحيح كلاهما لايحتاج الدواء ولا الفحص المستمر، المستهلك المثالي هو إنسان صحيح موسوس، أو مريض مزمن، فضلا عن شركات تصنيع الأطعمة التي تستخدم أحدث ماتوصل له علم الكيمياء لصناعة طعام غير طبيعي، وملئ بالزيوت المهدرجة، يدمنه الناس ويزهدون في الطعام الطبيعي الذي لا يتوفر فيه نفس المقدار من الملح والسكر والدهون والنكهات الصناعية، وماينتج عنها من سمنة وأمراض قلب وسكري، وكأن كل تقدم واحد يجلب معه آلاف المشكلات التي لم يعانِ منها الناس سابقا.

ماذا عن شركات تصنيع السلع المختلفة، من ملابس وهواتف محمولة وأجهزة، والتي تدمر البيئة، وتشغّل الفقراء والأطفال والنساء في ظروف قاسية وظالمة وغير أخلاقية لضمان إغراق السوق بمزيد من السلع، ماذا عن صناعة المواد الإباحية وتجارتها المتزايدة والتي كانت السبب الأساسي في تطور الكاميرات الرقمية الاحترافية وزيادة دقتها لإتقان إنتاج المواد الإباحية ورواجها؟

هذه مجرد أمثلة لانحراف التقدم المادي عن مُراد الله، وإسهامه في إضرار الناس بدلا من نفعهم، أما الخلل الثاني فيكمن في أن التقدم المادي يجرنا إلى تخلف لايريده لنا الإسلام، وهو الركون للدنيا والاطمئنان بها، وما يجره هذا من شقاء بسبب جفاف الروح، لأنها لم تُخلق للأرض، خُلقت لتسكن الجنة، وما وجودها هنا إلا مرور عابر لايمكنها أن تجعله غاية تقنع بها، إن الركون للدنيا ليس ارتفاعا ولا تقدما ولا طموحا، بل انحدار وتثاقل وتواضع في الطموح، ألم يعاتب الله عز وجل بعض المؤمنين على قناعتهم بالأدنى في سورة التوبة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38).

هناك الكثير من النقاش حول آفات الحداثة اليوم، ومعظم من يناقش الأمر هم الغربيون أنفسهم، يشككون اليوم في جدوى المغالاة في أهمية العلم التجريبي، وينتقدون الانحرافات الأخلاقية لاستخدامه، ويسهبون الحديث عن غربة الإنسان في عصر الحداثة، عن شعوره بالتفاهة واللاجدوى، عن تفكك العلاقات الاجتماعية وانتشار الاكتئاب، عن الشك في أن العالم يتقدم للأفضل، عن القلق الوجودي في عالم اليوم، بعد أن بلغ الإنسان مابلغ من تقدم مادي تزايد معه القلق والاكتئاب، والذي تمثله اللوحة التي أرفقت صورتها في هذا المقال وهي لوحة (الصرخة) للنرويجي ادفارت مونك، ثاني أشهر لوحة بعد الموناليزا، وقد اكتسبت أهميتها في تعبيرها عن القلق والهلع وغياب المعنى في حياة الإنسان المعاصر، عن حيرته في جدوى التقدم، وقد زادت شعبية هذه اللوحة بعد أن أهلكت الحربين العالميتين ملايين البشر في القرن العشرين، الذي كان يمثل ذروة التقدم المادي.

إن التطور المادي إذا انحرف في أصله وقام على غير مُراد الله، وانحرف في غايته فجعل الدنيا هي غاية المُنى، فقد أضحى تخلفا لاتقدما، وإن علينا أن نعيد التفكير في تقييم الأشياء والأفكار بمرجعيتنا نحن: الكتاب والسنة؛ لأن كثرة المِساس مع الحضارة الغربية أذهبت إحساسنا، وأضاعت وجهتنا، فأصبحنا نرى الأمور على غير حقيقتها، ونسميها بغير أسمائها، ونتبنى -دون أن نشعر- قيَمًا ومعايير تخالف أصول ديننا، والأمة التي لا تراجع أفكارها تنجرف وتغرق وتتلاشى، لنتقدم في الوجهة الصحيحة، نقترب من خير القرون،  ونجعل تقدمنا المادي قائما على مراد الله، خادما لغايتنا الكبرى في نشر الحق وإرادة الله والدار الآخرة، فقد ضيّعنا كثيرا من الوقت في محاولة التقدم الزائفة حين أضعنا بوصلة الطريق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

3- الرهان، حكاية روسية

يتميز الأدب الروسي باهتمامه بسبر أغوار النفس البشرية، وإثارته لتساؤلات حقيقية في نفس القارئ حول النفس والحياة والعلاقات، ومن القصص التي تلفت الانتباه فيه، قصة قصيرة كتبها أنطون تشيخوف عام 1889 بعنوان: “الرهان”، وهي قصة عميقة تجعلك تعيد التفكير في مسألة الوقت، وبماذا نقضيه؟

تبدأ القصة في حفلة أقامها مصرفيّ ثريّ ودعا لها المثقفين والوجهاء، ودار فيها النقاش حول أيهما أهون: عقوبة الإعدام، أم السجن المؤبد؟ وقد كان المصرفيّ مصرّا على أن الإعدام أهون لأنه ينهي حياة المحكوم في ثانية، أما السجن المؤبد فهو قتل بطيء وعذاب طويل، إلا أن محاميا شابا عارضه الرأي بشدة، قائلا إن السجن مهما طالت مدته أخف من الموت، فالحياة بحد ذاتها نعمة، وطال جدالهما ثم انتهى برهان تحدى فيه الصرفي الشاب بأن يسجنه خمس عشرة سنة، ويترك له حرية الخروج متى أراد، لكنه إن قضى المدة كلها فله مليوني روبل، تحمس المحامي الذي كان يبلغ الخامسة والعشرين وقبل التحدي، وكان المصرفي يستبعد استمرار المحامي في التحدي، فهو يرى قبوله له نزوة عابرة فحسب.

سجن المصرفي المحامي في كوخ داخل منزله، وأقام عليه حرسا، وبدأت رحلة السجن، احتار المحامي كيف يقضي هذه السنوات، خمسة عشر عاما، مئة وثمانون شهرًا، خمسة آلاف وأربعمئة وخمسة وسبعون يوما، أكثر من مئة وثلاثون ألف ساعة! كيف يمكنه أن يقضيها لوحده؟ في كوخ ذي غرفة واحدة وبلا أي اتصال مع البشر سوى ورقة يكتب فيها طلباته للسجّان.

يكمن جمال القصة في حيرة السجين في عشرات الآلاف من الساعات، والوقت الطويل الذي كان يمتد بلا نهاية، شعر في البداية بالملل، وصار يجرب العزف على الآلات الموسيقية، ثم وجد أمرا جليلا يقضي فيه وقته: القراءة والتعلم! قرأ في السنوات الأربع الأولى وحدها ستمائة كتاب، ثم تعلم أربع لغات عبر الكتب فقط، وظل يطلب الكتب بنهم ويقرأ بلا كلل، حتى مضت خمس عشرة سنة كاملة، ودخل السجين سن الأربعين، كان مكوثه في السجن بلاشكوى يثير استغراب المصرفي، ثم أثار قلقه حين اقترب الرهان من نهايته، وجاء موعد دفع المبلغ المتفق عليه، والمصرفي قد تغير حاله وأوشك على الإفلاس، وأضحى المبلغ الذي كان يرميه في رهان في الماضي، ثروة عظمى في عينيه اليوم ، صار يتمنى أن يخرج السجين من تلقاء نفسه فيخسر الرهان، أو أن يموت قبل إكمال المدة، إلا أن السجين غارق بين كتبه ومذكراته، فقرر المصرفي قبل يوم من اكتمال المدة أن يبعد الحرس، ويتسلل إلى الكوخ ويخنق السجين بهدوء، لئلا يضطر إلى دفع المبلغ الذي لايشك أن السجين ينتظر استلامه بفارغ الصبر، فقد أمضى في سبيل الحصول عليه خمسة عشر عاما!

 المفاجأة الحقيقية هي أنه عندما دخل عليه وجده قد خرج قبل الموعد بساعات قليلة وخسر الرهان بمحض إرادته، وترك رسالة عميقة يوضح فيها لسجانخ أن ما اكتسبه من العلم والمعرفة في هذه السنين أعظم في عينه من المال، وأنه رغم سجنه في غرفة صغيرة كل هذه المدة، إلا أنه زار بلدان الأرض قاطبة، وجالس الحكماء والعلماء وعرف أخبار الأمم وتعلم لغات عدة، قرأ حتى عاش حيوات عديدة لم يشعر فيها بمضي الوقت، وبالتالي فهو يرى أنه تحرر من النظرة الضيقة للعالم، بينما لايزال سجانه مقيدا في حبه للمال، ولم يتغير تفكيره طيلة هذه المدة!

 

هذه القصة القصيرة تجعلك تعيد التفكير في مسألة الزمن، وبطئه أو سرعة انقضائه، فقد مضى سريعا دون جدوى على السجان، لكنه مضى بطيئا نافعا على السجين، وإني أتساءل: هل كثرة الخيارات والملهيات في حياتنا كأحرار هي التي تجعلنا نضيع الوقت ويتسرب بين أيدينا دون جدوى؟

2-الثقافة والتعليم

45758683-sport-icon-stadium-sign

وردني سؤال في برنامج ask عن الثقافة والتعليم وهل هما متكاملان؟ ووعدت صاحبته بالإجابة لاحقا في مقال قد حان وقته.

لنتفق بداية على المقصود بكلمتي (الثقافة والتعليم) فالثقافة مصطلح له معنى اجتماعي مخصص ساقه  تايلور في تعريفه الشهير بأنها ذلك الكل المعقد من  المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع، فنقول ثقافة المجتمع السعودي، الثقافة الأوربية.. وهكذا، ولكن هذا المعنى ليس هو المقصود هنا، بل المقصود ذلك المعنى الشائع المتداول بين الناس وهو الثقافة بوصفها المعرفة المكتسبة غالبا من قراءة الكتب، والتي تظهر آثارها في مواقف الإنسان وحديثه وكتابته، أو كما يصفها البعض بأنها: الأخذ من كل فنٍّ بطرف، أما التعليم فأظن السائلة تقصد به التعليم النظامي، في المدارس والجامعات، والذي ينال المرء به شهادات علمية.

حسنًا، ما العلاقة بينهما؟ وما الفرق؟ سأتناول الموضوع من ثلاث نواحٍ:

  • التعليم النظامي والتعلم الذاتي
  • التخصص الدقيق والثقافة العامة
  • هل تكفي الثقافة العامة وحدها؟

1- التعليم النظامي والتعلم الذاتي:

لعل الميزة الأساسية للتعليم النظامي هي أن له منهجية واضحة، سواء من حيث اختيار المحتوى، أو المدة المحددة، فقد يطول تثقيف المرء لنفسه بحسب ظروفه وهمّته، وقد يتشتت في دروب المعرفة، لكن التعليم النظامي غالبا يجبر على الإنجاز لأنك مرتبط فيه بمؤسسة رسمية رسمت لك الخطة سلفا من حيث محتواها ومدتها، ولاشك أن جودة التعليم النظامي تختلف من مؤسسة تعليمية لأخرى.

لكن التعليم النظامي، مهما بلغت قوته – وكلنا نعلم أنه إلى الضعف أقرب- لا يكفي لوحده، و أنا لا أزهّد الناس فيه، ولكنني شخصيا أزهد بمن يكتفي به، فالعلم الحقيقي أكبر من أن تتسع له أسوار المدارس والجامعات أو تحويه صفحات مقرراتها الدراسية.

هناك طريقٌ موازٍ لابد من أن نسلكه مع أبنائنا قبل دخولهم المدرسة، ونسلكه مع أنفسنا حين نصل لسنٍّ نتحمل فيه المسؤولية، وهو طريق التعلم والتثقيف الذاتي، إذ لايصح ولايليق أن تكون علاقة الطالب بالكتب مقتصرة على المقررات الدراسية والجامعية، أو أن يكون أستاذه أو جامعته مصدر المعرفة الوحيد له، لأنه مهما كان متفوقا في دراسته، مؤديا لما يُطلب منه، فسيظل قاصرا مادام مكتفيا بما يُطعمه أساتذته، طالب العلم الحقيقي لديه جوع معرفي لايمكن للمؤسسة التعليمية النظامية إشباعه لوحدها، لديه نَهَمٌ وشغف حقيقيين، يدفعانه لالتهام كتب لم يفرضها عليه إلا سعيه الجاد للمعرفة، وللتعلم من أناس لم يلزمه بالتعلم منهم إلا إحساسه العميق بأنه يستحق الأفضل.

هذا النوع من الطلاب هو الذي ينتج ويتفوق تفوقا نوعيا، لا أعني ذلك التفوق الذي يُعبّر عنه بالدرجات والشهادات فقط، لكنه العمق المعرفي الذي تظهر آثاره في معرفته ووجدانه وسلوكه ومهاراته العالية، وهذا العمق يتطلب ثقافة عالية لا تعليما نظاميا فحسب، ولعل هذا هو الفرق الجوهري بين طلاب العلم وطلاب الدرجات والشهادات، هذا هو الفرق الذي يجعلنا نرى شخصين يحملان ذات الدرجة العلمية وبينهما بونُ شاسع في العلم والتفكير.

2- التخصص الدقيق والثقافة العامة:

يكتفي البعض منا بالانهماك في تخصصه الدقيق، ويهمل الثقافة العامة، باعتبار أن التخصص هو المهم، وبقناعة مفادها أن الانهماك الزائد في التخصص والانقطاع عن العلوم الأخرى سيزيده براعة في تخصصه، ويكتفي آخرون بالتنقل كالفراشات بين علم وآخر دون التخصص في علم بعينه، وكلا المسارين خاطيء، وإن كنت سأنتقد الأول فقط لأن انتشاره أكبر وخطؤه أخفى، لأن المرء يحتاج للأمرين معا: الثقافة العامة، والتخصص الدقيق، فالثقافة العامة تعطيه رؤية بانورامية للحياة من الأعلى، والتخصص الدقيق يهبه نظرة ثاقبة لجزء من هذه الحياة، فإذا اكتفى بهذا النظر الجزئي، فاتته النظرة العامة، وضاق أُفقه، فصار كالأعمى الذي أبصر مرة فرأى أذن فيل، فطفق يصف كل شيء في الحياة من خلال أذن الفيل لأنه لايعرف غيرها ! وهذا في الحقيقة حال من يغرق في تخصصه ويهمل الثقافة العامة إذ تراه بالغ الجهل في غير تخصصه، ومغاليا في أهمية هذا التخصص لأنه لا يعرف سواه فيحتقر العلوم الأخرى، والمرء عدو مايجهل، أما من يثقف نفسه خارج تخصصه فنظرته أوسع، وتعصبه لتخصصه أقل لأنه يعلم أن لكل علم أهميته، فضلا عن استفادته من ثقافته العامة في إثراء تخصصه الدقيق فهو يطعّمه بما لديه من العلوم الأخرى، سواء بمحتواها أو منهجيتها، ولذلك تتصاعد أهمية الدراسات البينيّة حاليا، وهي الدراسات التي تتقاطع فيها التخصصات.

3- هل تكفي الثقافة العامة وحدها؟

قد يظن القارئ الذي وصل إلى هذا السطر أنني أتعصب للثقافة العامة، وهذا غير صحيح، فالتعليم المنهجي هو الأساس، نظاميا كان أو في المساجد ومسالك التعليم المختلفة، لأن الثقافة العامة قد تنزلق بصاحبها للفوضى المعرفية أو المنهجية، ولعل أكبر مثال على هذا هو العقاد، فرغم ما يمتدحه به المثقفون من أنه لم يكمل تعليمه الابتدائي وبلغ مابلغ من الثقافة، إلا أن ثقافته لم تكفِه، فقد ظهر تخبطه المنهجي في كتاباته وخاصة العبقريات، ولعلي أخص بالتعليم المنهجي هنا: علوم الشريعة، ومنهجية البحث العلمي، فلا غنى عنهما أبدا، ونحن نرى اليوم  التخبط المعرفي الذي قد يصل للإلحاد جراء البعد عنهما والاكتفاء بالثقافة لمجرد الثقافة.

وزبدة الكلام يارفيقتي أن التعليم والثقافة متكاملان ولا يغني أحدهما عن الآخر.

1- استعن بالله ولاتعجز!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شاهدت في تويتر أمس وسمًا عن تحدي الكتابة في شهر مارس، وفحواه أن من يدخل هذا التحدي فإنه يُلزِم نفسه بكتابة مقال يوميا لمدة 30 يوما، وجدت الفكرة مغرية لأنها تتحدى تسويفي المُزمِن، فرغم حبي للكتابة، ووجود الكثير من الأفكار التي تستحق الكتابة عنها، إلا أن العملية تتطلب تركيزا أتفنن في الهروب منه يوما بعد آخر، مع أن الشروع في عملية الكتابة هو الأمر الصعب، فإذا بدأ الإنسان تدفقت الأفكار وانسابت الكلمات واكتشف أن الأمر أسهل مما كان يظن ويتصوّر، وكلٌّ منا لديه نسبة من التسويف في مجالات معينة، وإن كنا نتفاوت تفاوتا كبيرا في هذا الشأن، وبذلك تتفاوت إنجازاتنا.

التسويف علّة مزمنة مع بني البشر، حالت بينهم وبين مايستطيعون وأقعدتهم عن المعالي وأرضتهم بالدّون، وما أصدق الشاعر إذ قال:

ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا

كنقصِ القادرين على التمامِ!

أي والله إنه عيب، عيبٌ أن يعطينا الله من القدرات والموارد والإمكانات نعمًا جليلة، ثم نختار القعود والتسويف، ونحن إذ نسوّف نشعر أننا سننجز الأمر، ولكن الوقت غير مناسب الآن، وأنه حين يحين الوقت الملائم سننجز وكأننا ننتظر معجزة ندرك أنها لن تحدث أبدا، إننا نكذب على أنفسنا حين ننتظر المزاج الجيد، و حالة الحماس الملائمة، وتمر الساعات و الأيام والشهور ولم يشرفنا المزاج الجيد بقدومه، وإذا جاء فإننا نختار أن نفعل فيه مانحب، لا ماينبغي فعله، ويالضيعة الأعمار!

التسويف هو تأجيل الأعمال، وهو مأخوذ من كلمة (سوف) وهي حرف يشير للمستقبل ويقتضي المماطلة والتأخير، بعكس الفاء الذي يقتضي الفور، وفي اللغة الانجليزية -إن كنتم مهتمين بالبحث عن الموضوع بها- فإن التسويف هو procrastination.

ولأن خبرتي مع التسويف طويلة، وقد أفلحت في مكافحته مرارا وفشلت مرارا، فإنني تعلمت من القراءة في هذا الموضوع والتجربة ما يمكن أن أجعله مادة هذا المقال، و لعلي أركز على ثلاثة جوانب لهذا الموضوع: لماذا نُسوّف؟ وما آثار التسويف؟ وما علاجه؟

لماذا نسوّف؟

حين يكون لدى المرء عمل ينبغي إنجازه الآن ثم يماطل في إنجازه ويؤخره فإنه يُعدّ مسوّفًا، والتسويف حيلة نفسية يهرب بها المرء من أي أمر يُتعبه، للأمر الذي يريحه ولايتطلب منه جهدا، فمثلا حين يكون لديك اختبار، فإن المذاكرة أمر متعب وممل، وعقلك يريد راحتك، فيجعلك تسوّف المذاكرة، ويهرب بك لفعل مريح ولذيذ: تصفّح وسائل التواصل الاجتماعي، مشاهدة مقاطع في اليوتيوب، النوم، الأكل، الثرثرة مع شخص يجانبك….الخ، ثم تمر الساعات ولم تنجز في المذاكرة شأنا يُذكر، وفي نفس الوقت لم تستمتع بهروبك، لأن تأنيب الضمير يعذبك وينكّد استمتاعتك، فلا أنت أنجزت المهمة، ولا استمتعت بهذا الهروب.

يُبالغ العقل في تصوّر صعوبة المهمة التي نحن بصدد القيام بها، فنخشاها، ثم نسوّفها، هذا هو سبب التسويف باختصار، ولذلك فإن المصابين بعقدة الكمال هم أكثر الناس تسويفًا، لأن عقولهم تتفنن في تعقيد المهام، فيخافون أكثر، ويهربون من المهمة الشاقة عالية المعايير، ويظن الناس أن حبهم للكمال يؤخر أعمالهم لأنهم ينقّحونها ويهذبونها ويعملون عليها، والحقيقة المرّة هو أنهم لايعملون شيئا: يهربون فحسب!

ما آثار التسويف؟

مشكلة  التسويف أنه يضيع الوقت وهو رأس مال الإنسان، فالمهمة التي سوّفتها لشهور وسنوات، كان من الممكن أن تنجز مكانها عشرات المهام، والإنجاز بحد ذاته يقود للإنجاز، لأنه يكسبك الخبرة، ويشجعك على المضيّ قُدُمًا، وهذا تفصيل الأمرين:

1- الإنجاز يكسبك الخبرة:

كل مهمة تنجزها، تطور مستواك أكثر مما تتعلم من الكتب وسماع تجارب الآخرين، لو قرأت وحفظت كل كتب الطبخ في العالم، وشاهدت برامج أشهر الطهاة، فإن التعلم الحقيقي يكون بدخول المطبخ وخوض تجربة الطهي، ومهما كانت التجربة سيئة، فإن مجرد خوضها كفيل بمعرفتك لما تحتاجه من تحسين، ونقلك لمستوى أفضل، وتأجيل خوضها يعني تأخير الإنجاز أكثر فأكثر، إن مجرد الإنجاز -مهما كان سيئا- أفضل من القعود، وقد قرأت منشورا قبل فترة يتحدث صاحبه عن أن الإنجاز الكمّي الغزير هو الذي يقود للإبداع والإنجاز النوعي، أما التسويف بحجة التركيز على نوعية الإنجاز فإنه يحرمك من فرصة التعلم، وبالتالي لن نكون نوعية إنجازك جيدة، وهناك نظرية تقول إن عملك لمدة 10 آلاف ساعة في مجال ما، كفيل بأن يجعلك خبيرا فيه، لأن الممارسة المكثفة هي التي تقودك للإتقان، وهذه الممارسة سستضمّن قطعا إنجازات كثيرة عادية في مستواها لكن قيمتها الحقيقية هي في تدريبك وصقلك وتأهيلك للإنجاز النوعي الذي لن تصل إليه بالتسويف وانتظار المعجزات.

2- الإنجاز يشجعك على المُضيّ قُدُمًا:

أؤمن بهذه القاعدة: الإنجاز يقود للإنجاز، والكسل يقود للكسل! الإنجاز يعطيك دفعة قوية من الثقة تجعلك تتعطش لإنجاز آخر، وتقول في نفسك: ها أنا فعلتها بحمد الله! لم يكن الأمر صعبًا كما تصورت، فتتشجع لإنجاز آخر، فهو يجعلك:

  • تستشعر أن المهمة لم تكن صعبة جدا كما تصورت
  • تثق بقدراتك، لأنك فعلتها حقا، ولديك الدليل الحي
  • تذوق طعم الإنجاز، فتستطعمه وتستلذه أكثر من الكسل

ولذلك، فإن القرآن يدل -في هذا السياق- على أن الطاعة تجرّ للطاعة، والمعصية تقود للمعصية، فعلك لأمر يقودك لمثيله

إذا، فالتسويف -ياصاحِ- يحرمك من الميزتين سالفتي الذكر، فلا أنت اكتسبت الخبرة، ولا تشجعت على المضي قُدُمًا، فتظل ثقيل الخُطى، تحبو حبوًا، والعمر قصير! فضلا عن الألم النفسي الذي يحدثه التسويف فهو يشعرك بالعجز إذا تأملت ماضيك، والهمّ إذا فكرت في مستقبلك، وقد تخسر بسببه أمورا كثيرة، منها:

  • قد تخسر صحتك، بتسويف اتباعك لنظام غذائي وصحي مناسب
  • قد تخسر علاقاتك، بتسويف الشكر والاعتذار والمجاملة والصلة والهدية والمكالمة والزيارة وغيرها
  • قد تخسر علما غزيرا كان يمكنك تحصيله والانتفاع به في دينك ودنياك
  • قد تخسر الشعور بالرضى النابع من قيامك بمهامك، فتأنيب الضمير يلازمك، والفوضى تدب في حياتك بحسب مالديك من تسويف

والأهم من كل هذا، قد تخسر نفسك، حين تسوّف التوبة والعمل الصالح، فينفرط العمر دون أن تشعر:

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

ما علاج التسويف؟

لايمكن علاج أمر مالم ندرك أسبابه، أما وقد ناقشنا سبب التسويف الرئيسي وهو استصعاب المهام، ومن ثم الهرب منها طلبا للراحة، فإنه يمكن أن نصف العلاج انطلاقا من التشخيص، لا تستصعب المهمة، ولاتفكر فيها كلها، ابدأ بجزء يسير جدا، وأنجزه، مهما كان مزاجك سيئا، إن مجرد الشروع في العمل يكسر حاجز هيبته، ويجعلك تدرك أنه لم يكن صعبا كما تصورت، ومن ثمّ يشجعك على الإكمال، وقد ذكر ذلك ابن المقفع المتوفى في القرن الثالث الهجري بقوله “إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الرّوح في مدافعتها بالروغان منها؛ فإنه لاراحة لك إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، وإن الضّجر منها هو الذي يراكمها عليك”، أذكر أنني أثناء إنجاز رسالة الماجستير مرت بي أوقات سوّفت فيها، وانتظرت المزاج الجيد الرائق للبحث والكتابة، فلم يأتِ أبدا ( ولن يأتي، فهو يُجلَب)، حتى عرفت بالقراءة والتجربة أن البدء بالعمل -بغضّ النظر عن المزاج- هو المطلوب، فكنت أفتح ملف الوورد وأتحايل على نفسي بأنني سوف أشتغل على تنسيق النص فقط، فإذا شرعت في العمل، غدا الأمر سهلا وأنجزت أكثر مما توقعت ولله الحمد.

يعاني كثير من الكُتّاب مما يسمى بـ ( حبسة الكاتب ) وهو عجزه عن الكتابة، وقد قرأت تجارب لعدة كتاب، خاصة في كتاب (لماذا نكتب؟) وفي غيره، وقد أجمعوا على نصيحة واحدة: إذا أردت الكتابة، فلا تنتظر المزاج الجيد، ابدأ فورا، اكتب أي شيء، أفرغ ما بذهنك مباشرة، هذه العملية بحد ذاتها كفيلة بإدخالك في جو الكتابة، و مجرد شروعك في العمل يجعلك تنتج المادة الخام التي ستعدلها وتنقحها، وهكذا في أي أمر، لا أحصي عدد المرات التي قلت فيها لنفسي إنني سأرتب هذه الخزانة فقط، ثم أجد نفسي قد أنهيت الغرفة كاملة.

إن اختيار أمر يسير، والبدء به فورا، هو العلاج الناجع للتسويف، ألم تسمع قول الله حاثّا عباده المؤمنين: ( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) 

سارع، لاتسوّف، لا تتباطأ، وفي نفس الوقت لاتصعّب الأمر على نفسك، ولاتكلفها مالاتطيق، ابدأ الآن: اتلُ صفحة من كتاب الله، احفظ نصف وجه، راجع حزبًا، امشِ لعشر دقائق، رتب غرفة واحدة فقط، اكتب صفحة واحدة من بحثك، أدخِل تغييرا بسيطا في نظامك الغذائي، ابدأ بشيء يسير جدا ولاتهتم أكثر من اللازم لجودة العمل الان ولاتصعّب الأمر، فإذا بدأت جوّدت العمل شيئا فشيئا دون أن تشعر، وأنا اليوم أمامك مثال حي: لم أكتب كلمة واحدة في مدونتي منذ شهر ونصف، وحين قررت اليوم خوض التحدي قلت سأكتب بضعة أسطر فقط،كانت فكرة المقال غير واضحة تماما في رأسي، وهاهو عداد الكلمات يشير إلى أنني ولله الحمد تجاوزت ألف كلمة، ومع كل كلمة تتضح الأفكار في ذهني، فأعود وأحرر هذه العبارة، وأستبدل تلك الكلمة، فإذا المهمة أسهل مما صوّر لي عقلي سابقا، ابدأ والله هو المعين، واستعن بالله ولاتعجز!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

النجاح الرديء

 

challenge

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هناك فكرة تدور حولها كثير من الأفلام السينمائية الأمريكية خاصة وهي فكرة (الإصرار) أو (التحدي لبلوغ هدفٍ ما)، ويبدأ الفيلم عادة بأن يكون البطل في وضع لايرغبه، ويأمل بمستقبل أفضل يحقق فيه ماتشتهيه نفسه، وتبدو جميع الظروف معاكسة له، وكل الأشخاص من حوله يقفون في وجهه، ثم يصل الفيلم لـ (العقدة) وهي الوضع الذي يُقارب فيه اليأس، وتستمر الأحداث لتنفرج العقدة عن نهاية سعيدة وهي أن يتحقق حلمه ويقتنع الجميع بمشروعية هدفه لأنه (أصرّ) على بلوغه و (تحدّى) الجميع وفارق القطيع، وآمن بـ (شَغَفه) وشق طريقا صعبا فيتوج في نهاية الفيلم بطلا جبارا.

يُعرَض الفيلم بإخراج احترافي يجعلك تؤمن بشغف هذا البطل من أول لحظة وتؤيده في السعي له: تتوتر عندما تصادفه الصعوبات، وتنفرج أساريرك عندما يُوفّق، ويبدو لك الأشخاص الذين يعارضونه وكأنهم مجموعة من الحمقى والبُلهاء.

ماهو الشيء الذي يسعى له هذا البطل؟ لايهم، يظل المشاهد متحمسا دون أن يسائل نفسه عن مشروعية هذا الحلم الذي يُناضل البطل لأجله، فقد يناضل البطل من أجل مكافحة الجهل مثلا، أو من أجل فتح متجر لتزيين القطط، أو من أجل الهروب مع حبيبته أو مناصرة حقوق الشواذّ أو أي أمر آخر، قد يكون هذا الهدف ساميا أو سخيفا أو ضارّا، الفكرة الأساسية هي الإيمان بشغف ما، وتحدي الجميع لأجله والانتصار في النهاية، ولايملك المشاهد إلا التعاطف مع هذا البطل، والإعجاب برحلة النجاح دون تمحيص الغاية منها بعرضها على قناعات المشاهد ومرجعيته الفكرية.

ليست لدي مشكلة مع فكرة الإصرار من أجل بلوغ هدف ما، بل يكاد يكون هذا الأمر أحد أهم أساسيات النجاح، وقراءة سِيَر العظماء وصبرهم من أشد مايحفّز الهمم، بل إن أحد أسباب إيراد قَصص الأنبياء وصبرهم وماواجهوه من مصاعب: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتصبيره على مايلاقيه في سبيل الدعوة، وتصبير أمّته كذلك، مشكلتي مع الفكرة المذكورة أعلاه هي أنه يتم تناولها على أنها قيمة بحد ذاتها، وإغفال أمرين هامين:

1- مدى مشروعية الهدف الذي تسعى من أجله

2- تأثير الإصرار على هذا الهدف على توازن حياتك

 لايمكنني التعاطف -بمرجعيتي الفكرية الإسلامية- مع شخص يفعل المستحيل من أجل مناصرة حقوق الشواذ، أو مع هاوية للرقص تحدّت أهلها ومجتمعها لتبلغ ذروة النجاح في الرقص الاستعراضي، أو مع بطل كمال أجسام يتناول المواد الضارّة لينفخ عضلاته ويستعرض جسده في مسرح أمام لجنة تحكيم.

ولن أُعجب أيضا برجل أو امرأة بلغ ذروة النجاح في ريادة الأعمال أو العلم، لكن ذلك على حساب أسرته أو مبادئه، فلابد من التركيز على غاية النجاح ومدى أهميته قبل الانبهار بمسألة التحدي والإصرار والشغف، لأن من السنن التي أودعها الله هذا الكون أن من سعى لأمر وبذل جميع أسبابه فإنه غالبا يوفق له في الدنيا ولكن الجزاء الحقيقي في الآخرة، فأعظم اللصوص في العالم وأكبر رجالات المافيا لم يصلوا لما وصلوا إليه إلا بالعزيمة والإصرار والبذل، لكن ماقيمة هذا في ظل خِسّة الغاية؟

الطرح الإعلامي المعاصر يريدك أن تُعجب بفكرة النجاح الشخصي فحسب، فنحن في عالم فرداني، يعيش الفرد فيه ليسعد نفسه ويثبت ذاته، ونحن في عالم التعددية الفكرية أيضا، فجميع الأفكار مقبولة وتستحق أن يُناضل المرء من أجلها مادام مقتنعا بها، ووجود هذه الفكرة في الإعلام الغربي أمر عادي لأن الإعلام ينتج من ثقافة المجتمع ويُروّج لقيَمه، لكن تسويقها لدينا أمر دخيل، لأننا مسلمون نؤمن بمرجعية الشرع أولا، نعرض أهدافنا على الشرع فلا نسعى لها لمجرد رغبة ذاتية، وندرك أن الفرد جزء من الأسرة والمجتمع فلا يمكن التنصّل من المسؤوليات الاجتماعية والأسرية لمجرد الشغف.

بدأت ألاحظ مؤخرا تزايدا مطّردا لهذه الفكرة في الإعلانات التي تظهر لي أثناء تشغيل مقاطع اليوتيوب، وفي الطرح الإعلامي بشكل عام، ويوجّه هذا الطرح للمرأة السعودية على وجه الخصوص باعتبارها كائنا مسجونا ينبغي تحريره من ربقة المجتمع الظالم، وينبغي تشجيع الرائدات المتحديات المصرّات الشغوفات الناجحات المكافحات…. وتقديمهن بصورة ( البطل الناجح ) و (القدوة المثلى) للنساء والبنات، في هذه الإعلانات تقدم (المرأة السعودية الناجحة) بصفات محددة منها:

1- تمتلك غاية تود بلوغها، وهذه الغاية تتصادم مع قيم المجتمع: الرغبة في التمثيل، دخول الأولمبياد، عرض الأزياء…الخ، وتشعر بالفخر لريادتها في هذا الأمر

2- تمتلك العزيمة والإصرار والتحدي وتعرف مسبقًا أن طريقها شاق ولكنها مستعدة لقبول المخاطرة.

3- يظهر في التصوير ثقتها العالية بنفسها، ونظرة التصميم في عينيها.

 الأم المربّية، والمعلمة الناجحة، والطبيبة المخلصة، وأستاذة الجامعة المثقفة، والكاتبة المبدعة، وسيدة الأعمال المحافِظة، كلها نماذج نجاح يتجاوزها هذا النوع من الطرح ولاتبدو مغرية له لأنها تقليدية، فهي لاتصادم قيم المجتمع ولا تملك الإثارة المطلوبة، إذ يبدو أمرًا مملا وباهتا أن تعرض قصة نجاح أستاذة جامعية يدعو لها والداها بالتوفيق ويشد مجتمعها من أزرها لتنفع هذا المجتمع وتسهم في بنائه، بعكس الممثلة وعارضة الأزياء، وما ستواجهه من تزمّت المجتمع (المنغلق!).

في هذا السياق، تخطط إحدى القنوات لعرض مسلسل يحكي قصة نجاح (ملاكِمة) سعودية، وتبدو قصة المسلسل كله مفضوحة من إعلان لم يتجاوز الدقيقتين: فتاة تجد شغفها في الملاكمة، تعارضها أسرتها والمجتمع، تصرّ على بلوغ الهدف وتؤمن بشغفها، تنجح في النهاية و … خلصت الحدوتة، ولا أعرف ماهو الحوار الذي سيدور خلال ثلاثين حلقة بين الممثلين ليكرر فكرة سينمائية مُستهلكة، وحبكة معروفة سلفا تبدو قصة ليلى والذئب أكثر تشويقا منها.

إحدى مشهورات (سنابشات) التي لايخرج محتوى ماتقدمه عن التفاهة المستفزة، حكت مرة لمتابعاتها قصة نجاحها وكفاحها من أجل الوصول لما وصلت إليه من شهرة، وتحديها لكل من يحبطها ويقف في طريقها، ثم طلبت في النهاية منهن أن يستفدن من تجربتها في الإصرار والصبر والكفاح لبلوغ أحلامهن، أنا لا أقول إن هذه المشهورة تخطط لإفساد المجتمع، فهي شخص أبسط من هذا، لكنها تشرّبت فكرة النجاح الرديء وأصبحت تُسوّق لها تلقائيا وبصدق وبلاهة.

هذه النوعية الرديئة والضارة من الأحلام والطموحات يتم عرضها على الناشئة اليوم بأساليب جذابة تسهم في تشكيل عقولهم بطريقة سيئة، عبّرت إحدى الصغيرات عنها عندما سُئلت: ما الذي تطمحين لتحقيقه عندما تكبرين؟ فأجابت بلاتردد: “أبي أصير مشهورة!” بأي أمر ستشتهرين ياصغيرتي؟ وما الذي ستدفعينه ثمنًا لشهرتك؟ لايهم، وليس ببعيد عن القاريء احتفاء وسائل الإعلام الغربية بالفتاة الهاربة التي أعلنت إلحادها بوصفها: تحدّت مجتمعها وأصرّت على عَيش الحياة التي تريدها!

النجاح فكرة مغرية، ورؤية نماذج حية للناجحين من أعظم مايؤجج الهمم ويذكي الطموحات، ولكن هذا الأمر ينبغي أن يوزن بميزانين هامّين أعيد ذكرهما للأهمية:

1- مشروعية الهدف وتوافقه مع الشرع

2- ألا تتم التضحية بأولويات أهم من هذا الهدف لأجل بلوغه

إن مناقشة هذا الأمر مع النشء وتطبيقاته في وسائل الإعلام واجب تربوي، ليكون لديهم تصوّر صحيح لمبدأ النجاح الدنيوي المرتبط بفلاح الآخرة، والذي يحقق فيه الفرد ذاته وينهض بمجتمعه في آنٍ معًا، النجاح الذي لايتطلب بالضرورة شهرة ولاتحديا بقدر مايتطلب تزكية مستمرة للنفس وأداء لاختبار الحياة كما ينبغي، إن إهمال تصحيح هذا التصور في ظل الزخم الإعلامي المروّج للنجاح الرديء، قد يُظهر من مجتمعنا وبناتنا راقصات يرددن أن (الفن رسالة) ويظهرن في وسائل الإعلام ليحكين قصص النجاح والكفاح الملهمة في هذا !!