السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تراودني منذ فترة فكرة كتابة موضوع يرشد المستجد في الدراسات العليا، ويساعده في تلمّس الطريق وبناء الرحلة على أساس سليم، ثم صممت على الكتابة فيه بعد أن وردني أكثر من اقتراح لأكتب حوله، ولعل القارئ -سواء كان من طلاب الدراسات العليا الآن أو لاحقا بإذن الله – سيستفيد منها، وقد جعلت الحديث مقسّما لثمانية عناوين رئيسية، آمل أن تنير الطريق للمستجد، وأن يستفيد منها كما استفدت في بداية رحلتي ممن كتبوا خلاصة تجربتهم ونصيحتهم قبلي.
1- النية:
بداية، لعلي أتناول أهم أمر يتناوله العلماء في أي عمل، وهو النيّة، فقد روى البخاري رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيه“، ينبغي أن تسأل نفسك: ماهي نيّتي من التحاقي بالدراسات العليا؟ هل أريد طلب علم نافع، واكتساب مهارة البحث العلمي، والتخصص الدقيق في مجال ما لأسدّ ثغرا فيه؟ هل أريد نفع نفسي وأمتي؟ أم أريد الوجاهة الاجتماعية بنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه؟ يجب أن تقف مع نفسك وقفة جادة في هذا الأمر، ولابأس أن تكون لك نية شخصية للترقي الوظيفي أو الحصول على وظيفة ترغبها، فطلب الرزق ليس عيبا، لكن هناك نوايا أكبر يمكنك أن تحملها في صدرك، إياك أن تكون نيتك الرياء والمفاخرة بهذه الشهادة، فإنه بئس الثمن الذي تقايض به جهدك وسهرك وتعبك! الطموح الحقيقي هو أن تتخذ جهدك في الدنيا سُلّمًا لرضى الله، ومعراجا للجنة، جدد نيتك باستمرار، واسأل الله الإخلاص، فإنك ربما تكون مخلصا في البداية، لكن تتشوّه نيتك أثناء الطريق فتحرف مسارك.
2-الوعي بطبيعة المرحلة:
إن مرحلة الدراسات العليا مختلفة عن البكالوريوس، تماما كما تختلف مرحلة البكالوريوس عن المرحلة الثانوية، فكلما ارتقى المرء في مراحل التعليم قلّ اعتماده على معلميه، وزاد اعتماده على نفسه في التعلم، ستسفيد من أساتذة مميزين في مرحلة الدراسات العليا، لكن الجزء الأكبر من تعلمك سيكون ذاتيّا، ليس لأنهم مقصّرون، بل لأن طبيعة المرحلة تقتضي ذلك، أنت طالب دراسات عليا: أي باحث، وأستاذ مصغّر، لا يجدر بك أن تكون (عالة)، تنتظر الإطعام بالملعقة، لاتنتظر أن يرشدك أساتذتك لتفاصيل المادة العلمية، أو أن يدربوك على جميع المهارات، هناك الكثير مما ينبغي لك أن تقوم به بنفسك، دورهم الأساسي في هذه المرحلة هو: وضع الخطوط العريضة لك، وتوفير النقد أو التغذية الراجعة، بمعنى قراءة تكليفاتك وبحوثك بدقة وأمانة وتبصيرك بنقاط قوتك وضعفك واقتراح بعض الحلول لتطور من مستواك، والأخذ بيدك شيئا فشيئا لتستحق أن تكون باحثا.
إن وعيك لطبيعة دورك في هذه المرحلة يرتقي بك في مدارج التميز، أذكر أنني قابلت طالبة ماجستير من أحد الأقسام التربوية في بداية دراستي، ودار الحديث حول ما إذا كانت كل منا قد وجدت فكرة بحثية يمكنها بناء خطة عليها، ففوجئتُ أنها ترى أن إيجاد الأفكار البحثية مهمة الأساتذة لا الطلاب، وقالت لي: لماذا أصبحوا أساتذة إذا كنا نحن من يطرح الأفكار البحثية؟ ما دورهم إذا؟ يمكنني تفسير موقفها بأنه ناتج عن أمرين: ضعف الوعي بدور الطالب في هذه المرحلة، وضعف الشغف العلمي والاطلاع الكافي الذي يجعلها قادرة على توليد أفكار بحثية، لا بأس باستشارة الأساتذة في الأفكار البحثية وتلقي مقترحاتهم، لكن سلبية الطالب المطلقة واتكاليته أمر غير ملائم.
3- القدرة على تقبل النقد وسرعة التعلم:
قلت في الفقرة السابقة، إن من أهم مايقدمه لك أساتذتك في مرحلة الدراسات العليا: نقد أبحاثك، وتبصيرك بنقاط قوتك وضعفك واقتراح بعض الحلول لتطور من مستواك، إن النقد -بمعناه الحقيقي- هو رأي الخبير في شيء ما ببيان مزاياه وعيوبه، هو أسلوب التقويم الملائم لمرحلة الدراسات العليا، ويجب عليك توطين النفس عليه واعتياد سماعه برحابة صدر كما تعتاد سماع تشخيص الطبيب لحالتك، ليس شرطا أن تعمل بكل رأي، لكن تقبل النقد بحد ذاته أمر لازم، مرحلة الدراسات العليا لاتناسبها عقلية الطفل غير الناضج الذي يتعطش للمديح ممن هم أكبر منه لمجرد الشعور بالأمان والمكافأة على بذل الجهد، لقد تجاوزت هذه المرحلة، قد تكون أعظم مكافأة على جهدك في هذه المرحلة هي أن يفرّغ هذا الأستاذ الخبير نفسه ليقرأ عملك بعمق، ويعطيك النقد الذي يبيّن نقاط قوتك لتعززها، ونقاط ضعفك لتعالجها، النقد الذي فيه إخلاصٌ لك وسعي جاد لمصلحتك وتطويرك، وعليك أن تستفيد منه وتتعلم ليصبح عملك أجود في كل مرة.
4- مفتاح التميز : القراءة، القراءة، القراءة:
إن كانت القراءة مهمة لجميع الناس، ومؤثرة في رفع المستوى التحصيلي للطلاب في كافة المراحل، فإن أهميتها تتأكد في مرحلة الدراسات العليا، إذ لايمكن للإنسان في هذه المرحلة أن يكون ضحل الثقافة، سطحي الفكر، لابد أن يكون لك قراءة جادة في الثقافة العامة، وفي تخصصك الدقيق، احذر أن تقتصر قراءاتك على المراجع التي تحتاجها لإنجاز تكليفات المواد، أو لإنجاز رسالتك، الاقتصار على قراءة المراجع الضرورية سيجعلك ضيق الأفق، محدود المعرفة، سطحي التفكير، وهذا آخر أمر تتمناه في هذه المرحلة بالذات، إن القراءة تنفعك في عدة نواحٍ:
- سعة الأفق المعرفي، فاتساع قراءتك يزودك بمعلومات تثري خلفيتك وتعمّق من تناولك لأي موضوع.
- امتلاك مهارات التفكير العليا، كالنقد والتحليل والتركيب، مما يجعل شخصيتك واضحة في بحثك بلاعناء ولاتكلف، فالقارئ الجاد يعالج المعلومات بطريقة مختلفة عن الطالب العادي، فهو يمحّص ما يقرأ ويستطيع النفاد إلى عمق النص ومعالجته معالجة نوعية.
- تطوير مهارة الكتابة، فالقارئ النّهم، يمتلك قلما سيّالا، ولغة فصيحة، وبيانا ساطعا، وهذه أمور جوهرية في تجويد البحث العلمي، فحسن التعبير عن الأفكار وإيصالها للقاريء بلاتكلف، وخلو البحث من الأخطاء اللغوية أمور فارقة في جودة البحث العلمي.
بقي أن أنوّه هنا إلى أنه بالإضافة للقراءة العامة، والقراءة في مجال التخصص، لابد أن تكون مطلعا على أنظمة جامعتك من أدلتها الرسمية، عارفا لحقوقك وواجباتك، لاتكتفِ بمعرفة الأنظمة من زملائك أو بأخذها شفهيا من أساتذة الجامعة، اقرأ اللوائح والأنظمة وعد إليها كلما لزم الأمر.
5- التعلم الذاتي:
لابد أن تطور مهارة التعلم الذاتي لأي معرفة أو مهارة تحتاجها وتنقصك، هناك مهارات عامة لابد لها أي طالب دراسات عليا مهما كان تخصصه، مثل مهارات استخدام برنامج Word ، مهارات البحث في Google، مهارة تنظيم الوقت، مهارات القراءة المختلفة كالتلخيص وتدوين الملاحظات وأنواع القراءة المختلفة، مهارات البحث في المكتبات، وقواعد البيانات و المعلومات الالكترونية، مهارة الحوار والكتابة العلمية، وهناك مهارات خاصة بتخصصك، مثل مهارة البحث في المكتبة الشاملة للتخصصات الشرعية، مهارة استخدام برنامج التحليل الإحصائي SPSS للتخصصات التي تتطلب استخدامه.. وهكذا، كلما تعلمت مهارات أكثر زاد تجويدك لبحثك وأصبحت أكثر قدرة على تنفيذ تفاصيله بنفسك، لاتجعل مصدر معلوماتك الوحيد: جامعتك وأساتذتك، تابع المهتمين بالبحث العلمي في وسائل التواصل، واعرف مستجدات تخصصك، سواء في محتواه أو في مناهج البحث فيه، ولاتخف من التعلم والتجربة.
6- أخلاق الباحث:
كان علماؤنا الأوائل يطلبون الأدب قبل العلم، ويعدون الأدب ثُلُثي العلم، مهما تعلمت وتعمقت في تخصصك، فلاغنى لك عن حُسن الخُلق، بل قد يتأكد في حقك أكثر ممن هو أقل منك علما.
كن ودودا بشوشا بارّا لوالديك واصلا لأرحامك نافعا للناس وليّن الجانب معهم، لا تتكبر على أحد فالإنسان جاهلٌ مهما تعلم، والعلم لايقتصر على أسوار المدارس والجامعات ولايُختزل في الشهادات، ثم إنه نعمة من رب العالمين فله الفضل لا لك، وهو قادر على سلب عقلك وعلمك وذكائك في أي لحظة، فما الداعي للتكبّر؟ تذكّر قول الله تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
لاتنعزل عن مجتمعك وأهلك وأسرتك وأقاربك بحجة الانشغال ببحثك، نظّم وقتك جيدا، واعلم أن الحياة ليست بحثا فقط، ولا دراسة فحسب، فأعطِ كل ذي حق حقه، لا أقصد أن تتتبع كل لقاءات الناس فهي لن تنتهي، وقد يتخذونها وسيلة لتزجية الفراغ فحسب، لكن سدّد وقارِب ولا تنعزل واحضر المناسبات والاجتماعات والأعياد الأسرية، إن التواصل الأسري كنز يثري روحك ويعظّم أجرك ويجدد نشاطك، ومن يدري؟ قد يفارقك أحدهم فتندم على بخس علاقتك معه بسبب هذه العزلة.
أخلاقك مع أساتذتك وزملائك أمر لايقل أهمية عن سابقه، فاحترام أساتذتك وحفظ مكانتهم، أمر هام، كما أن علاقتك مع زملائك الباحثين من دفعتك وغيرها جوهرية أيضا، ويمكن إيجاز التميز فيها بالقول: أحبّ لزملائك الخير كما تحبه لنفسك، وإذا رأيت من هو دونك فلا تتكبر عليه ولاتتوانَ عن مساعدته، إما إن رأيت من هو أفضل منك، فإياك وحسده أو كراهية تميزه أو تبرير ذلك الحسد بحيل نفسية ملتوية، افرح به، وتعلم منه، واجعل قربك منه منحة لا محنة، وقد يكون التفاضل بينكم في أمور دون أمور، فاتخذ ذات الأسلوب: انفعه فيما ينقصه، وتعلم منه فيما ينقصك، تعامل مع زملائك بمبدأ التعاون لا التنافس، واجعل احتكاكك بهم شاهدا لك لاعليك، ونافعا لك في مسيرتك.
بقي أن أنوّه لخلق هام هو خُلُق الشكر لمن يساعدك، ستحتاج مساعدة الكثيرين، بتوفير بيانات أو خدمات، أو تحكيم أداة بحث، أو الإجابة عليها، أو إجابة على استشارة بحثية، كن مهذبا في طلبك، عاذرا للناس إن قصروا في خدمتك، شاكرا لهم إن قدموا لك شيئا، ستقول إن هذا أمر بدهي؟ يؤسفني القول إنه ليس كذلك، لأن بعض الباحثين ينسى الشكر أو يتجاهله، يتعامل مع البشر وكأنه يتعامل مع محرك Google أو قاعدة بيانات جامدة، يأخذ منها ما يريد، ثم يمضي بلا شكر، وهذا خلق سيء حذّرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “مَنْ لا يشْكُرُ الناسَ لا يشْكُرُ الله“ ويشرح العلامة ابن باز هذا الحديث بقوله: “أن من كان من طبيعته وخلقه عدم شكر الناس على معروفهم وإحسانهم إليه ، فإنه لا يشكر الله لسوء تصرفه ولجفائه، فإنه يغلب عليه في مثل هذه الحال أن لا يشكر الله…وإنه كما يجب عليه شكر الله على ما أحسن إليه، فعليه أن يشكر الناس أيضاً على معروفهم إليه وإحسانهم إليه، والله جل وعلا يحب من عباده أن يشكروا من أحسن إليهم”.
7-أخلاقيات البحث العلمي:
فضّلت فصل أخلاقيات البحث العلمي، عن الأخلاق بوجه عام، لأن أخلاقيات البحث العلمي لاتتعلق بتعاملك مع البشر مباشرة، لكنها جزء خاص من الأخلاق يختص بتصرفك مع البيانات والمعلومات في بحثك بصدق وأمانة، ولابد لك من الاطلاع على أخلاقيات البحث العلمي بشكل مفصّل، لكن هذه أمور أساسية:
- السرقة العلمية ممنوعة منعا باتّا في مرحلة الدراسات العليا، وقد تعرضك للفصل مباشرة، فانسب كل معلومة لمرجعها بصدق وأمانة ولا تسرق جهد غيرك، وإذا دوّنت أي معلومة فاحرص على ربطها بمرجعها في نفس الوقت، لأنك ربما تنسى ذلك، فتعود لها لاحقا وتظنها من بنات أفكارك، وتنسبها لنفسك، فتكون أوقعت نفسك في السرقة العلمية من حيث لاتدري.
- إذا وجدت اقتباسا لمرجع لم تحصل عليه، وأردت إيرداه في بحثك، فابحث عن المرجع الأصلي وانقل منه مباشرة، فإن تعذّر ذلك، فانسب المعلومة للمصدر الثانوي الذي وجدت فيه الاقتباس، وإياك أن تدعي الرجوع لمرجع لم ترجع له حقيقة، فإن هذا كذب، وبخس لجهد صاحب المرجع الثانوي، وإن لم يردعك خُلُقك، فقد يُكشف فعلك لأن صاحب المرجع الثانوي يكون قد تصرّف في المعلومة فيُعلم أنك نقلتها منه، لا من المرجع الأصلي ( وهذه النقطة بالذات يغفل الكثيرون عنها، أو عن تبيّن خطئها أخلاقيا).
- حافظ على سرية بيانات المستجيبين لبحثك، من تجري معهم مقابلات أو استبانات أو تستقبل منهم بيانات، لاتفشِ أرقام هواتفهم، ولا تحرّف أقوالهم، ولا تنشر من بياناتهم إلا مايسمحون لك به.
8- منعطفات الرحلة:
رحلة البحث العلمي كثيرة المنعطفات، مهما قرأت في كتب مناهج البحث من خطوات، أو رأيتها في منشور انفوجرافيك، فإنها ليست بهذه السهولة على أرض الواقع، سيصيبك في الواقع الحماس والإحباط، والاستمتاع والملل، وسيعتريك الإقبال والإدبار، وستواجه عقبات لم تكن في الحسبان، فلا تستسلم بسهولة، أكاد أجزم أن من أهم الأمور التي تعلمتها من إعداد رسالة الماجستير: المثابرة والصبر، ولكن نصيحتي لك هي أن تسرع بالنهوض بعد كل كبوة أو فتور، لاتسوّف، عد لبحثك بمجهود بسيط، ثم ستتيسر لك الأمور بإذن الله، وقد كتبت في مقال سابق (هنا) أمورا ستنفعك بإذن الله عن الإنجاز والتسويف، كما أن قناة علي وكتاب (هنا) تقدم لك أفكارا تساعدك في تنظيم الوقت والجهد، والتعامل مع الإحباط و المشتتات واستعادة الشغف، الرسم الطريف التالي يبيّن رحلة البحث العلمي كما نتخيلها قبل البدء، وطبيعة الرحلة على أرض الواقع 🙂
إن رحلة البحث العلمي رحلة شاقة ممتعة، ستغيّر فيك الكثير إن أحسنت إدارتها، فاستمتع بها، ولا تتعامل معها على أنها أزمة، تسلّح بالدعاء والاستعانة بالله في كل حياتك، ومنها دراستك، فإننا -لولا معونة الله- ما استطعنا رفع طَرْفٍ أو رَدّ نَفَس، فأظهِر إلى الله افتقارك، وتبرأ من حولك وقوتك، وتوكّل عليه، وألحّ على ربك بالتيسير والتوفيق والسداد، اجعل الافتقار إلى الله والإلحاح في الدعاء ديدنًا لك، فإن هذا لُبّ العبودية، ومفتاح التوفيق.
وفقكم الله جميعا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته