كيف أصابتنا حُمّى الاستهلاك؟

e-commerce22-1

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يمكن اعتبار انتشار ثقافة الاستهلاك والماديات من أعظم التغيرات السلبية في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، بما لها من تبِعات نفسية واجتماعية واقتصادية، وأراها تزداد شِدّة وانتشارا عاما بعد عام، وقد اخترت في هذا المقال أن أتحدث عنها من خلال تتبع نشأة عملية الاستهلاك، ومظاهرها في حياتنا اليومية، وطرق التخلص منها، وأهمية دورنا في ترسيخها، أو النجاة منها.

كان الناس في الماضي يشترون مايحتاجون فقط، فالأسواق محدودة، وإنتاج الحرفيين واستيراد التجار مرتبطان بالحاجات الفعلية للناس، مع هامش كماليات بسيط، لكن العالم انتقل نقلة نوعية بعد عصر النهضة الأوروبية التي مهّدت للصناعة والرأسمالية، فقد كثرت المصانع والسلع والمخترعات، وأصبح الإنتاج أسهل بسبب الثورة الصناعية، إذ يمكن لمصنع أن يُنتج في ساعة ماينتجه الحرفي في عشرات السنوات سابقا.

لم تعد المشكلة أن الطلب أكثر من العرض، بل انقلبت وأصبح العرض يفوق الطلب، وهذا يهدد أصحاب رؤوس الأموال والمصانع بالكساد والخسارة، فنشأ فنّ التسويق الذي كان بدائيا ثم تطور، واستفاد من نظريات علم النفس وعلم الاجتماع فائدة كبيرة، ليضمن استمرار الناس في الشراء وعدم تكدّس السلع، التحدي الذي واجهه المنتجون هو: كيف نقنع المستهلك بشراء منتجنا وهو لايحتاجه حقيقة؟ والجواب بسيط وعميق: لابد من خلق شعور بالحاجة إلى هذه السلعة وتصعيد الرغبة فيها إلى الحد الذي يجعل المستهلك يقرر أن شراءها أمر لابد منه.

 كان التسويق شخصيا عبر الباعة المتجولين وفي الأسواق، ثم ظهرت الإعلانات المطبوعة في الصحف والمجلات والشوارع، ثم انتقلت نقلة نوعية بانتشار التلفزيون في المنازل في أواخر القرن العشرين، أما بعد ظهور الانترنت، ثم وسائل التواصل الاجتماعي فقد قفز التسويق قفزات هائلة، وبالتالي انتشرت حُمّى الاستهلاك والمادية في العالم أجمع، واخترقت كل طبقات المجتمع، بدلا من كونها محصورة في المجتمعات الرأسمالية أو الطبقات المخملية في المجتمعات الأخرى.

يعتمد فنّ التسويق على فهم نفسية الإنسان وكيفية التلاعب بها بإثارة رغبته في الحصول على سلعة ما، وشعوره بالحاجة الشديدة لها، حتى يقرر شراءها وهو يظن أنه مُختار، بينما هو في الحقيقية مُرغَم وواقع تحت تأثير التسويق، وتضمن الشركات عن طريق التسويق تنميط سلوك الإنسان، أي التأثير عليه ليكون الشراء عادة عنده وليس سلوكا عارضًا، من أجل ضمان عدم تكدّس السلع.

من أهم الأمور التي يعتمد عليها التسويق تأثّر الإنسان بالبيئة من حوله مهما كانت قوة قناعاته الداخلية، فهو يتأثر بالصور التي يراها، والسلوكيات التي يقوم بها الناس في مجتمعه، فمثلا قبل عدة سنوات كانت المرأة العاقلة حتى لوكانت غنية ميسورة لايمكنها أن تدفع آلاف الريالات لشراء حقيبة، ولا يمكن أن يوافق الأب العاقل على إقامة حفلة لابنه في فندق فخم لمجرد أنه تخرج من الروضة، لكننا اليوم نرى هذه السلوكيات شائعة جدا لسبب واحد: لأن الجميع يفعل ذلك، فقد تم تنميط سلوكيات المجتمع وتحول الإسراف والاستهلاك لعادات راسخة يصعب اجتثاثها رغم تأذّي الجميع منها.

يبدأ الأمر عادة بمجموعة صغيرة: نجوم التلفزيون أو السينما أو الأثرياء جدا، ثم مشاهير التواصل الاجتماعي، ثم يتطبّع المجتمع على السلوك وينتقل لعامة الناس، وهؤلاء بالذات -أعني عامة الناس- يسوّقون للشركات من جيوبهم الخاصة، فهم يشترون السلع بمالهم، ويصوّرون بجوالاتهم، فينتشر السلوك الاستهلاكي في المجتمع انتشار النار في الهشيم، وترتفع المبيعات ويزداد الاستهلاك، ولاتمضي سنوات قليلة حتى يُعدي الأجربُ السليمَ، ولا تكاد تجد عاقلا إلا من رحم ربي.

تعد حُمّى الاستهلاك حديثة نسبيا في مجتمعاتنا العربية، فهي حدثت أولا في المجتمعات الغربية التي تحكمها الأنظمة الرأسمالية وعلى رأسها: الولايات المتحدة الأمريكية، وقد قويت في نهاية القرن العشرين، ثم تضخّمت مع الألفية، ووردت إلينا مع الانفتاح الإعلامي، وقد تحدّث مفكرون عدة عن هذا الأمر وتأثيره على الأفراد والمجتمعات، ومنهم الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي وصف التسويق وإشاعة سلوك الاستهلاك بأنه (امبريالية نفسية) بمعنى استعمار نفسي، فهو يقول إن الاستعمار العسكري الذي يُنزِل الجيوش إلى الأرض بهدف نهب ثروات البلد قد ولّى عهده، وحلّ محلّه الاستعمار النفسي الذي يحتل عقل الإنسان ومشاعره ويجعله يهب ماله طوعًا للشركات، بل ويسعى لزيادة دخله من أجل المزيد من الاستهلاك وتحقيق الربح للشركات، وهذا اقتباس من كلام المسيري رحمه الله، وأرجو أن يدرك القارئ أن كلمة امبريالية تعني: استعمار

إن أبعاد الامبريالية النفسية أكثر عُمقًا وشمولا من الامبريالية العسكرية، فهي تنطلق من الإيمان بأن الهدف من الإنتاج هو الاستهلاك، وأن الهدف من تزايد الإنتاج هو تزايد الاستهلاك، وأن حياة المرء تكتسب معنى إن هو استهلك، ومزيدًا من المعنى إن هو صعّد استهلاكه (وقد عُرّفت التنمية والحداثة بأنها ثورة التوقعات المتزايدة)، وأن الإنسان أساسًا حيوان اقتصادي جسماني لايبحث إلا عن منفعته الاقتصادية ولذته الجسدية، وأن سلوكه لابد أن يصبح نمطيا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع، هذا الإنسان لايهدف في حياته إلا إلى تحقيق المنفعة واللذة، ويرى أن خلاصَهُ يكمن في ذلك، ولذا كانت الحاجة أم الاختراع في الماضي، أما في هذا الإطار فالاختراع هو أبو الحاجة، إذ لابد أن تظهر سلعة جديدة كل يوم، ومن هنا يدخل الإنسان دائرة الإنتاج التي لاهدف لها، والآخذة في الاتساع إلى مالا نهاية.       (المذكرات، ص 256)

سأضرب في الفقرات التالية مثالا لخلق السلوك الاستهلاكي وهو مثال ( الاحتفالات والهدايا)، ويمكن للقارئ أن يقيس بناء عليها سلوكيات استهلاكية كثيرة كالهوس بالماركات، والأجهزة، وإدمان السفر والمطاعم، وعمليات التجميل وأدوات الزينة والملابس الفاخرة، و كل الكماليات التي أصبحنا نراها ضرورة وقد عاش أجدادنا آلاف السنوات بدونها.

ثقافة الاحتفال وتبادل الهدايا موجودة في كل الثقافات والشعوب، وقد حثّ شرعنا المطهّر على الاحتفال بالأعراس والعيدين، وأباح الاحتفال بالمناسبات بشكل عام إلا مادلّ الدليل على حُرمته، كما حثّ على الإهداء وقبول الهدية لأن ذلك مما يقرب القلوب لبعضها وينشر المحبة، لكن الثقافة الاستهلاكية قفزت بهذا الأمر الطبيعي الجميل إلى مستويات ظهر فيها الإسراف من وجهين: الأول هو إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال، والثاني: الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا، بمعنى استغلال عادة موجودة من القدم، والقفز بها كمّا وكيفا لغرض الربح المادي.

  • إختراع المناسبات من العدم  لمجرد الاحتفال:

إن ترويج ثقافة الاحتفال الدائم، أمر تسويقي بحت، الهدف منه حثّ المستهلك على الاستمرار في الشراء لضمان رواج السلع التي تقذفها المصانع كل يوم، فالمستهلك لايخرج من مناسبة إلا ليدخل في دوامة مناسبة أخرى، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، تستفيد الشركات استفادة عظمى من توزيع المناسبات المختلفة على مدار العام: يوم الحب، يوم الأم، الكرسماس، يوم الشكر، الهالوين، يوم الأب، يوم العمال، يوم المعلم…قائمة طويلة من المناسبات العامة، تنشط فيها الأسواق، وتُقدّم العُروض والتخفيضات، وتروّج الإعلانات.

كما تُشجّع ثقافة الاحتفال بالمناسبات الخاصة وإيجاد أي مبرر للاحتفال، فمن الممكن مثلا أن تقيم أمٌّ حفلة بمناسبة تعوّد طفلها على استخدام الحمام، أو تقيم أخرى حفلة طلاق، أو حفلة توديع العزوبية، أو حفلة تقيمها الصديقات بمناسبة مرور عقد على صداقتهن، أو بمناسبة وصول عدد المتابعين لكذا…وهكذا قائمة طويلة لاحتفالات متقاربة جدا في زمنها، وفي كل عام ترى عجبًا من الإبداع والتقليد في اختراع المناسبات حجة للاحتفال، وقد سرى هذا الأمر لمجتمعنا فأصبحنا نسمع بدعا جديدة من الاحتفالات المستمرة لمناسبات تشعر أنها اختُلِقت اختلاقا لمجرد الاحتفال، بل ويتعدى الأمر ذلك للاحتفالات التي تخالف الشرع كعيد الحب، أو ابتداع احتفالات دينية لم يرد بها الشرع كاستقبال رمضان مثلا.

  • الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا:

أمر آخر  أود لفت الانتباه للمبالغة فيه، وهو أن الهدايا والحفلات أصبحت تتجه -سنة بعد أخرى- للبذخ والمبالغة، حيث لم تعد الهدية المتواضعة أو الحفلة البسيطة مُقنعة، فالجميع يتوق لإعطاء واستقبال هدايا باهظة الثمن،  دون مراعاة الحالة المادية للأسرة أو الفرد، فتوقعات الجميع ارتفعت ولابد من تلبيتها، تصوروا كيف يمكن لأب بدخل متوسط لديه خمس بنات مثلا، أن يلبي رغباتهن في الاشتراك مع صديقاتهن بحفلات فخمة، وهدايا ثمينة، ثم هدايا رمضان أيضا ؟! والأمر لم يقف عند الإسراف في الهدية فحسب، بل في طريقة تغليفها المتكلفة جدا والتي لافائدة منها سوى التصوير.

أجزم أن كثيرا من العقلاء قد تأذّى من انتشار حُمّى السلوك الاستهلاكي في مجتمعنا، فآثاره وخيمة، أخطرها على الإطلاق تعظيم قدر الدنيا وزينتها في القلب، وهذا يصدّ عن الغاية الكبرى وهي الآخرة، وقد سمّى المسيري المادية في الفكر الغربي بــ(الفردوس الأرضي) حيث يقوم الحُلُم الأمريكي على فكرة تحقيق السعادة الفردية المطلقة في هذه الدنيا، فالحياة المثالية تقوم على تحقيق النجاح الشخصي والثروة الطائلة وكل مايتمناه المرء من ماديات، حيث تخلى الإنسان الغربي عن فكرة الفردوس السماوي (الجنة) وقرر السعي للفردوس الأرضي في الدنيا.

ومنها أيضا الإرهاق المادي الذي يُثقل كاهل الأفراد والأسر، ويجعلهم يشعرون بالحاجة أو الفقر رغم الغنى أو الكفاف، لأن التوقعات والمتطلبات تتزايد عاما بعد عام، مما يُشعر الفرد بعدم الاكتفاء، والحاجة لدخل إضافي، وقد يجرّ هذا لإرهاق المرأة أيضا بضرورة السعي لزيادة دخل أسرتها إضافة لأعبائها الأسرية، أو الرجل بضرورة البحث عن دخل إضافي لتلبية الحاجات المتزايدة، كما يجرّ السلوك الاستهلاكي لاستنفاد مدخرات الأسرة في الكماليات، وإهمال الضروريات كشراء مسكن أو ادخار مبلغ لقادم الأيام.

ولاتقف آثار حُمّى الاستهلاك هنا، بل تمتد لتغزو نفس الإنسان، وتشعره بالدونية عندما لايستطيع مجاراة غيره، مما قد يصيبه بأذى نفسي كبير، قد يتطور للاكتئاب والقلق والانطواء، وتمتد للعلاقات الاجتماعية فتجعل تقييم المرء في المجتمع ومكانته قائمة على مستوى معيشته، لا على أخلاقه وقرابته وسنّه وغيرها من الاعتبارات الصحيحة، والحاجة للتقدير أساسية وعميقة في نفس الإنسان، فإذا لم يجد التقدير إلا بالمادة فسيبحث عنها ليضمن مكانته، وماظنك بأخلاق مجتمع لا يبحث أفراده إلا عن المال، وما يمكن أن يجلبه المال من ماديات ومكانة مصاحبة؟ وما ظنّك بالقيم التي سيتربّى عليها جيلٌ ولد ونشأ وكبُر في ظل هذه الثقافة؟

آمل أن أكون قد وفقت في إلقاء نظرة على هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه، لكنني لن أختم المقال دون وصف طريقة الخروج من هذا النفق، و بيان دوري ودورك أيها القارئ في إنقاذ مجتمعنا منه، ولعلي أوجز هذا الدور في ثلاث مراحل هامة:

  • أولا: إرادة التغيير:

لابد أولا من إدراك أننا في مشكلة، وعدم التعامي عنها أو الرضى بها، فالاعتراف أول طرق العلاج، وأظن أن كثيرا منا تجاوزوا هذه الخطوة ولله الحمد، يأتي بعدها اليقين بالقدرة على التغيير بإذن الله، لا تستسلم وتظن أن ثقافة الاستهلاك والماديّات حتمٌ لازمٌ ليس أمامنا إلا الاستسلام له أو الاكتفاء بالنقد الخافت.

  • ثانيا: بناء الوعي:

لابد من التذكير المستمر بحقيقة الدنيا وأنها دار ممر لا مقرّ، وأن المسلم فيها مسؤول عن وقته وماله وتصرفاته، وأنه عبدُ لله، لا لهواه وشهواته ومايفرضه عليه الإعلام والمجتمع، ثم التثقيف بمسألة الرأسمالية والاستهلاك، وتأثير وسائل الإعلام على نفسية الإنسان، ومشاهدة الأفلام الوثائقية أو قراءة الكتب التي تُعمّق فهم الموضوع، ولاعذر لإنسان في عصر المعرفة هذا أن يبقى جاهلا بأساليب التلاعب بوعيه ويرضخ لها، ثم محاولة نشر هذه الثقافة في الأسرة والأبناء والمجتمع بحسب مستوى تأثير الإنسان، إن بناء الوعي مرحلة جوهرية، لأن إدراك جذور المشكلة ووسائلها يُشعر بالقوة تجاهها، وكما أن المجتمع الأمريكي سَبق العالم في دخول نفق الاستهلاك، فهو سبق العالم أيضا في التنبّه لآثاره الخطيرة ومحاولة الخروج منه، ويبدو ذلك في تنامي اتجاه التقليل أو مايسمى بـ minimalism   وهي ثقافة جديدة آخذة في النمو هدفها الخروج من دائرة الاستهلاك، وقد كتبت مقالا  عنها (هناولابد من تذكير النفس والآخرين بأهمية تقدير نعمة المال، وأن النعمة معرّضة للزوال، وأن شُكرها هو حفظها لا إضاعتها، فالفقر والجوع خطرٌ يهدد الأمم في كل زمان ومكان، نسأل الله العافية وأن يردّنا إليه ردّا جميلا.

ثالثا: سلوك التغيير:

وهذه هي الحلقة الأصعب، إذ يمكن أن نريد التغيير، ونثقف أنفسنا، لكننا نفوسنا تضعف عند التطبيق، ونستمر في السلوك الاستهلاكي، بل وننشره دون أن نعلم، وهنا لابد من المجاهدة والموازنة، لابد أولا من إغلاق الصنبور والتخفف من متابعة الحسابات التي تشجع على الاستهلاك وتزيد التعلق بالدنيا وزينتها، واستبدال ذلك بسلوكيات تعزز الجانب الإيماني، والعقلي، والصحي، كتلاوة القرآن وقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم القراءة، والدراسة، والرياضة، وممارسة الهوايات، إن وقتا طويلا يضيع مع وسائل التواصل التي تُضخّم جانب المادة في نفوسنا، مما يُضمر بقية الأبعاد في شخصية الفرد، ويضعف أهميتها في المجتمع.

لابد أيضا من تعويد النفس على الصبر، وتأجيل بعض الرغبات لحين التأكد من أهمية شراء السلعة المعينة، كما ينبغي ترك التبذير، والإنفاق بما يتلاءم مع الدخل فقط، وألا نكلف أنفسنا أو أهالينا مبالغ طائلة لمجرد اتباع الهوى ومجاراة الناس أو حب التفوق عليهم، ولنجعل شعارنا (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ )، لا تستهن بدورك، فأنت قدوة، إن تبسيطك لحياتك ورفضك لمجاراة السَّفَه الاستهلاكي، دليل وعيك، وسيجعل الكثيرين يقتدون بك، كما أن رفضك هذا تعبيرٌ عن قوتك واستقلالك أمام من يريد استعمار نفسك والاستيلاء على مافي جيبك.

كما أودّ أن ألفت الانتباه لسلوك قد يفعله المرء دون قصد إشاعة السلوك الاستهلاكي عند الناس، لكن تأثيره عظيم جدا، وهو التصوير والنشر، إن نشرك لصور الحفلات والهدايا والمشتريات الثمينة والماركات والسفر والمطاعم وكل ماشابه ذلك له أثر كبير على المتلقي، ولعلك توافقني في أن الصورة تخلق العدوى، وأن حسابات وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تطبيع المجتمع على عادات الاستهلاك كما لم يفعل أي شيء آخر، لذلك لا تستهن بدورك، أوقف تصوير أي سلوك استهلاكي ونشره، واجعل نيّتك في ذلك مساعدة المجتمع على التخلص من هذا الداء، واعلم أن الله لايضيع عنده شيء ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7).

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

12-عمل المرأة: لماذا أصبح ضرورة؟

busy mother

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتبت تغريدة في تويتر قبل عدة أيام أبديت فيها استغرابي من الغلو في أهمية عمل المرأة اليوم واعتبار وظيفتها ضرورية كالماء والهواء، حتى إن المرأة التي لم تتوظف بعد تُعدّ في أزمة تنتظر انفراجها، أما من ترفض الوظيفة وتفضّل المكوث في المنزل أو عدم السعي لها فتلك مجنونة، وختمت التغريدة بقولي: ما الذي حل بالناس؟

كانت الإجابة حاضرة في ذهني: الأمر الذي حلّ بالناس هو مجموعة من التغيرات الثقافية والاجتماعية بشأن المال والمرأة والأسرة، اختلفت المواقف التي تبناها الأشخاص الذين تفاعلوا مع التغريدة في الردود أو على الخاص أو في حسابي في صراحة، فمنهم من يؤيد استغرابي ويقول إن التكالب على الكماليات هو السبب، ومنهم من أرجع الأمر إلى احتقار دور ربة المنزل، أما المعارضون فقالوا إن الوظيفة أضحت ضرورة قصوى اليوم بسبب غلاء الأسعار وصعوبة المعيشة واستحالة قيام الأسرة المعاصرة بعائل واحد، ومنهم من قال إن الوظيفة أمان من نوائب الدهر و أن المرأة لا تضمن استمرار زواجها أو وفائه أو حياة والدها، فئة أخرى قالت إن جلوس المرأة في المنزل يعد سلوكا اتكاليا، وأنه من العيب عليها -مادامت قادرة على الكسب- أن تقبل أن ينفق عليها أحد!

هذه الردود -المؤيدة والمعارضة- كلها ردود تعبّر على الأقل عن فهم لطبيعة السؤال المطروح، لكنني واجهت أيضا ردودا غير منطقية، تنمّ عن استعجال شديد ورد قبل الفهم -كما هي العادة في تويتر للأسف- هذه الردود فهمت من استغرابي من تعاظم أهمية عمل المرأة أنني أطالب بإلغاء الوظائف النسائية وأطلب من جميع النساء التخلي عن جميع الوظائف،  مثل:

  • لماذا توظفتِ إذا مادمت ترين الوظيفة عيبا؟ (متى قلت إنها عيب؟!)
  • هل تريدين من المرأة المحتاجة أن تتسول في الشوارع بحثا عن لقمة عيش لها ولأبنائها؟ (كيف قفزتم لهذا الفهم؟)
  • ليس كل الناس مثلك أثرياء! (من قال إنني ثرية؟)

كثير من الردود المؤيدة لضرورة عمل المرأة انطلق أصحابها من أهمية الوظيفة على المدى القصير في كون أهميتها نبعت من الاحتياج المالي المعاصر وتعقيد الحياة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا، بدليل أننا نرى اليوم كثيرا من بنات وزوجات المقتدرين والأثرياء يسعين للوظائف سعيا محموما مماثلا لغيرهن، وأن النساء اليوم يقبلن بوظائف مُهينة أو مختلطة لم يكنّ ليقبلن بها قبل عدة سنوات ولو كُنّ أشد فقرا.

إن اختزال تعاظم أهمية عمل المرأة اليوم في مسألة الاحتياج المالي والتغيرات الاقتصادية نوع من التسطيح، يجعلنا لاندرك جذور الأمر ولا ثماره، ولايمكن أن يقول به إنسان يدرك أسباب التغير الثقافي والفكري للمجتمعات، ويدرك دور الآلة الإعلامية في محو ثقافة الشعوب وإحلال ثقافة أخرى بديلة محلها، من المهم أن نمارس مهارات التفكير العليا، أن ننظر للأمر من الأعلى لندرك جذور هذا التغير، ومظاهره وثماره، لأن المجتمعات الواعية فقط هي القادرة على الإصلاح والتغيير، أما المجتمعات التي تستسلم للتغيرات دون أن تعيها، أو تفكر في قدرتها على نقدها وتعديلها، فستبقى ضحية لها.

هناك أربع أفكار مترابطة يمكن أن نُرجع لتغلغلها في المجتمع كثير من التغيرات الثقافية ومنها اعتبار وظيفة المرأة ضرورة، وسأعرضها في هذا المقال بشكل مبسط بعيدا عن اللغة الأكاديمية أو الفلسفية، لأنني على قناعة بأهمية وعي جميع الناس لمظاهرها وتأثيراتها، ولعلها تقود القارئ للتوسع في البحث حولها فأنا لن أستطيع في مقال أن أفصّل جذورها وتأثيراتها، إنما أردت لفت الانتباه لعمق الموضوع وأهميته، هذه الأفكار منتشرة فعلا بيننا لكننا نظنها أحيانا مجرد تغير اجتماعي عفوي، ولا ندرك جذورها الفلسفية العميقة، وكما قال رتشارد تارناس، مؤلف كتاب آلام العقل الغربي: “لابد لكل جيل من أن يُعاين ويُقلّب مرة أخرى، من موقعه المميز الخاص، جملة الأفكار التي شكلت فهمه للعالم” لهذه الأفكار علماؤها ومنظّروها، ومروّجوها في العالم، وبالتالي ينبغي أن لا نتعامل معها على أنها قدر محتوم، بل أفكار لنا الحق في رفضها أو قبولها أو تعديلها:

1- المادية Materialism:

تقوم الفلسفة المادية على تعظيم أهمية المادة بدلا من العقل أو الروح، فلا يهم ذكاؤك وعلمك، أو تدينك وأخلاقك، قيمتك تتحدد في الماديات التي تتملكها: منزلك، سيارتك، أثاث بيتك، نوعية ملابسك، تتبين لك مظاهر الفلسفة المادية عندما تتابع مشاهير انستغرام وسناب شات مثلا، فقد بنوا شهرتهم على مايمتلكونه من ماديات: سفر، مطاعم، مجوهرات، قصور، ماركات عالمية، وكل مظاهر الحياة المترفة، عندما يتعرض عامة الناس ليوميات هؤلاء، فإنهم يتأثرون تدريجيا، ويزهدون في معيشتهم، وبالتالي تشعر المرأة أن نفقة والدها أو زوجها غير كافية، فطموحاتها ومعاييرها أكبر بكثير، فتصبح الوظيفة ضرورة قصوى لإشباع الحاجة للماديات.

إن الفلسفة المادية متجذرة في البشر، لكنها في الوقت المعاصر أصبح لها آلة إعلامية ضخمة تخدمها وتروّج لها، وشركات عالمية تستفيد اقتصاديا من بث النهم الاستهلاكي في الناس، وإبقائهم زبائن جائعين للسلع والكماليات باستمرار، ترتبط المادية بالرأسمالية والهوس الاستهلاكي، وهذه المادية أحد أهم أسباب توق النساء لدخل مادي خاص لم تكن معظمهن بحاجته قبل سنوات قليلة، كما أن النهم الاستهلاكي أثّر على الثقافة المالية للأسرة، فأصبحت بعض الأسر غير قادرة على الادخار للأمور الأساسية كبناء مسكن مثلا أو تسديد فواتير الخدمات الأساسية، ومضطرة للاستدانة نهاية الشهر رغم ارتفاع الدخل، لأنها تنساق مع الكماليات والمظاهر وتبذل فيها معظم دخلها، وبالتالي يظن أفرادها أن الحل في توظيف المزيد من أفراد الأسرة بدلا من معالجة الخلل الأساسي، مع أننا نرى اليوم أيضا أسرا تمتلك المسكن والحياة الكريمة -غير المسرفة- وليس لها عائل إلا الأب وبوظيفة عادية،  في كثير من الحالات يعود الأمر لحسن تدبير المال لا إلى مقداره، فالحل ليس في إضافة عبء جديد للمرأة وإشعارها بأن أسرتها مضطرة لوظيفتها، بل في تثقيف الأسرة وتوعيتها.

2-الليبرالية Liberalism:

يقوم الفكر الليبرالي في الأساس على الحرية والمساواة، لا على العدل والحق، فحرية الفرد مقدمة في الفكر الليبرالي على تماسك المجتمع، وتعطيل المرأة عن العمل عندهم يعني ظلم النساء وفقرهن وحصر المال في أيدي الرجال، إذ لابد من المساواة في ذلك، وليس هناك وظائف مخصصة للنساء وأخرى للرجال، فالمساواة تقتضي أن كل عمل يعمله الرجل، فإن من حق المرأة القيام به، والعكس صحيح، فلابد للرجل من أن يتقاسم عمل المنزل مع المرأة، ولابد من تمكين المرأة من مهن الرجال كأن تكون جنديا في حرب، أو لاعبا لكرة قدم، أو عاملة في محل إصلاح سيارات أو بائعة في سوبرماركت، أو حارسة أمن، وقِس على هذا عشرات المهن التي بدأت تُسوّق لبناتنا اليوم.

3- النسوية Feminism:

النسوية فكرة ولدت من رحم الليبرالية، ولكن مطامعها أعلى، فهي لاتطمح للمساواة فحسب، بل لاستقواء النساء في العالم، يمكن تلخيص فكرة النسوية بأنها محاولة لنبذ قوامة الرجل في الأسرة، وإقامة حياة المرأة على أساس الاستغناء عن الرجل، فربة البيت التي تحتاج النفقة من زوجها، ذليلة في نظرهم وخاضعة للنظام الذكوري أو السلطة الأبوية، وعليها فورا أن تبحث عن مصدر رزق يجعلها قادرة على الاستغناء عن ولي الأمر، فالاستقلال المادي بوابة الاستقلال الحقيقي عن سلطة الرجل، ولاتعترف النسويات -أو النسويون- بتكامل الأدوار في الأسرة، بل لابد من (تمكين المرأة) وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في مؤتمر السكان والتنمية عام 1994 ثم ألِفَتهُ الأسماع بعد ذلك دون الانتباه لدلالاته الحقيقية وآثاره، وقد ارتبط هذا المصطلح بالتنمية الاقتصادية، حيث تُقاس فاعلية الفرد في المجتمع بمدى قدرته على كسب الدخل المادي فحسب، فربة المنزل تسمى عاطلة لأنها لاتكسب كسبا ماديا، أما دورها المعنوي في بناء الأسرة ورعاية المنزل وتربية الأبناء فلايعد شيئا لأنه لايمكن قياسه بلغة الاقتصاد والمال.

ويمكن ملاحظة تأثر المجتمع بهذا الفكر من انتقال مركزية الزوج والأولاد في حياة المرأة المسلمة إلى مركزية الوظيفة، ففي السابق كانت مكانة المرأة يحددها من هو زوجها وكم عدد أولادها، أما اليوم فالمكانة تتجه لمنصبها الوظيفي أكثر، وبالتالي قلّ الحرص على تأمين مستقبل المرأة بزوج وعدد كبير من الأولاد يجنبونها غوائل الزمن، وانتقل شعور الأمان إلى الوظيفة ومستواها المادي، وأصبح الوالدان لايطمئنان على ابنتهما بزواجها وإنجابها كما كان الأمر سابقا، بل بتأمين وظيفة لها، كما انتقلت الأسئلة الفضولية في مجتمعات النساء من الاستفسار عن سبب تأخر الزواج أو الإنجاب، إلى الاستفسار عن سبب الجلوس بلا وظيفة، كما انتقل شعور الحسد من نوعية الزوج وعدد الأولاد إلى نوعية الوظيفة ودخلها المادي، أما الطلاق فقد قلّت الحساسية منه وانتقل التجريم إلى الاستقالة أو التقاعد المبكر، أنا لا أؤيد اعتبار الزوج والأولاد أمانًا، فالأمان من الله، لكنني أتأمل تغلغل الفكر الغربي إلى مجتمعنا المسلم المحافظ، واحتلال الوظيفة لمكانة الأسرة وقفزها لتكون أولوية في حياة المرأة.

4-التقدمية Progression:

التقدمية هي الفكرة الغبية الأم التي تسوق لكل الأفكار الثلاث المذكورة أعلاه، فملخص التقدمية هو الإيمان بأن الأفكار الجديدة هي الصحيحة، وأن الأفكار القديمة هي الخاطئة، وأن مايفعله الناس في عام 2019 أفضل وأعقل وأرشد مما كان يفعله الناس عام 1950 مثلا، ولذلك تروج الأفكار الثلاث الأخرى لأنها حديثة، ومن ثمّ لابد لك من استبدال قناعاتك القديمة البالية حول الأسرة والمرأة والمال بقناعات أخرى جديدة تلائم العصر، لأنها جديدة ولأن العالم يتقدم للأفضل بلا شك، وقد فصّلت الحديث عن الفكرة التقدمية في مقال سابق (هنا).

كثير من الناس في مجتمعات المسلمين قد تشرّب هذه الأفكار الأربع أو بعضها -بدرجات متفاوتة- تدريجيا و خلال سنوات طويلة، لقد تغلغلت في أذهاننا بطريقة ناعمة، عبر المسلسلات والأفلام ووسائل التواصل الاجتماعي والكتب والروايات والاختلاط بالمجتمعات الأخرى، ثم بمشاهدتها على أرض الواقع، والتسليم بهذا الواقع كأمر ينبغي مجاراته واللحاق بركبه بدلا من نقده وتمحيصه وامتلاك حرية رفضه أو تعديله، إننا مجتمعات تابعة -ولابد من الاعتراف بهذا- نستقبل مايرد إلينا دون أن نحاكمه بدقة إلى مرجعيتنا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أحيانا بسبب الجهل بأحكام الشريعة وإهمال تعلمها، وأحيانا أخرى بسبب الانبهار بالأفكار الجديدة وعدم الرغبة في نقدها؛ لأن نقدها يعني إمكانية رفضها، ورفضها يعني أن نوصم بالتخلف وهو وصف نحاول الفرار منه بسبب الشعور العميق بالنقص أمام المُنجَز المادي الغربي، وخضوعنا له حتى في تعريف التقدم والتخلف.

هذه المفاهيم المذكورة أعلاه تخالف أصول الإسلام وثوابته ولا يغرّك أن بعض تفاصيلها موجود في الإسلام، فالإيمان بالفكرة المادية يعني تقديم الدنيا على الآخرة، والمادة على الروح، كما أن الفكرة الليبرالية والنسوية تنسف نظام الأسرة والميراث والحقوق والواجبات الثابتة شرعا بين الزوجين، فأدوار الرجل والمرأة في الأسرة في الإسلام قائمة على العدل لا على المساواة، فكل منهما يسد ثغرا مختلفا عن الآخر، وكل منهما يكمّل دور الآخر ولايطابقه، أما الفكرة التقدمية فهي تفرض أن الحكم على الأفكار بالرفض والقبول عائد لزمنها لا إلى مصدرها، فإذا كان الإسلام يوجب النفقة على الرجل ويجعل له القوامة على الأسرة، فإن الفكرة التقدمية تقتضي أن نرفض هذا وأن نساير الفكرة الأكثر حداثة: فالمرأة مسؤولة عن نفسها، وليس للرجل عليها أي قوامة، لماذا؟ لأن الفكرة الأولى قديمة وقد انتهت صلاحيتها، والفكرة الجديدة طازجة وصالحة للاستخدام، هكذا ببساطة ! وهذا مايفسر لك الانفصام الذي يعانيه كثير منا، فهو مسلم يحب الله ورسوله، لكنه -شعر أم لم يشعر- يتبنى أفكارا مخالفة لثوابت الإسلام ويعتبرها من المسلّمات لمجرد أنها أكثر حداثة، ثم يحاول ببؤس شديد أن يُحدِث بينها وبين الإسلام تلفيقا مصطنعا ليرتاح من تأنيب الضمير.

أرجو أن يكون القارئ أعقل من أن يستنتج أنني أرفض سعي النساء للتوظيف، فالإسلام لم يحرم كسب المرأة للمال: إما بالعمل، أو الميراث، أو التجارة، أو الهبة، وترك لها حرية التصرف في مالها، وأوجب على زوجها النفقة عليها حتى لوكان فقيرا وهي غنية، كما أن حديثي لايشمل الأسر التي لا عائل لها إلا المرأة،  ما أريد لفت الانتباه إليه في هذا المقال هو أننا قبل الانفتاح الإعلامي الذي شجّع تدفق الأفكار السابقة إلى اذهاننا دون وعي، عشنا منسجمين مع ذواتنا، فلم تكن وظائف النساء ممنوعة: كان منا المعلمة، والطبيبة، وأستاذة الجامعة، وسيدة الأعمال، والبائعة في منزلها، لكن المنطق الفكري الكامن خلف وظائف النساء اختلف اليوم وتأثر بالأفكار المذكورة أعلاه: أصبحت الوظيفة اليوم وسيلة لإشباع النهم الاستهلاكي، فنفقة الرجل لم تعد كافية لإشباع الرغبات المتزايدة، كما أصبحنا نرى استسهال القبول بوظائف مُهينة ولاتناسب طبيعة المرأة وتفرض عليها الاختلاط بالرجال، وأصبحنا نرى من تسعى للوظيفة طلبا للاستقلال عن سلطة الأسرة وولي الأمر، وتعتبر إنفاق وليها عليها ذُلّا واتكالية مع أنه حق لها ليس لأحد فيه مِنّة، حقّ مشروع تماما كحق الموظفة في استلام راتبها من جهة عملها، والأهم من ذلك كله: أننا فقدنا الخيار المترف الذي كان يميزنا عن الرجال، كانت نساء الطبقة المتوسطة مثلي تختار أن تتوظف أو لا تتوظف، كنا نقيّم الوظيفة ثم نقرر رغبتنا في الالتحاق بها من عدمه، دون أن يلحقنا لوم أو تقريع، لأننا لم نكن تحت أي ضغط فكري وإعلامي يخبرنا أن الوظيفة أولى الأولويات، وأن الجلوس في المنزل يعني العطالة أو الذل أو الاتكالية، بعكس النساء في السنوات الأخيرة، فهن يشعرن بأن الوظيفة ضرورة قصوى، فيغرقن في متطلباتها ومتطلبات المنزل والأولاد الأخرى مما يسبب شقاء بالغًا كان بإمكانهن تجنبه لو عرفن أن الوظيفة اختيار لا اضطرار، وقد تناولت هذا  في مقال سابق (هنا).

إن السعي المحموم لتوظيف النساء وإقناعهن بضرورة الاستقلال المادي عن الأولياء، والتقليل من شأن دور المرأة في بيتها، وقبول أي وظيفة حتى لو لم تناسب طبيعة المرأة، له آثار سيئة على المجتمع، ومن المعروف أن سبيل هدم أي مجتمع هو هدم النظام الأسري فيه وتفكيكه، وهو ليس أمرا عفويا، إنه أمر عُقِدت له المؤتمرات والاتفاقيات لسنوات عديدة، وسُخّرت له وسائل الإعلام لعقود، نحن الآن أمام تغيرات فكرية واجتماعية كثيرة ينبغي أن نتوقف لنعيها وندرك جذورها وثمارها لنستطيع تعديلها بما يتفق مع مرجعيتنا الإسلامية، لا أن نستسلم لها وننقاد، لابد أن ندرك أننا نمتلك الخيار للتغيير وإعادة هندسة حياتنا كما نريد، لا كما يُراد لنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

10- إنما النصر مع الصبر!

الصبر

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تأملت يوما في سبب الفلاح في أمور الدنيا والآخرة، فوجدت أن له معادلة واضحة: حبس النفس عن لذّة عاجلة صغرى، من أجل تحصيل منفعة آجلة كبرى، وهذه المعادلة تصحّ على كل فلاح: الفوز بالجنة والنجاة من النار،  التقوى و الاستقامة، تزكية النفس، حسن التعامل مع الناس، الإنجاز العلمي، حسن تدبير المال واستثماره، حفظ الوقت، حسن التعامل مع المصائب، الحفاظ على صحة البدن…. وخلافها من مؤشرات الفلاح الدنيوي أو الأخروي، والتي نطمح جميعا لتحصيلها، ووجدت أن صفة جوهرية تمثّل أساس الفلاح وتحقيق هذه المعادلة، هذه الصفة هي: الصبر، والصبر في اللغة: الحبس والمنع، والعقل كل العقل في الصبر، فالعقل معناه الحبس والمنع أيضا!

إن الاستقامة على شرع الله تتطلب الصبر: الصبر على طلب العلم الذي تعرف به الأوامر والنواهي، ومنه تكرار تلاوة القرآن وسماعه وكذلك الحديث النبوي، والصبر على العمل بهذا العلم: من اتباع الأوامر واجتناب النواهي، ومنه الصبر على المصائب، فالنفس تكره التكليف، وتحب الشهوات، وتبغض المصائب، ولا يقيمها على مُراد الله إلا الصبر، الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر عند نزول المصائب،  إن الإسلام كله يتطلب الصبر على مقتضى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: في اعتناقها، والتمسك بها، والعمل بمقتضاها ومصارعة هوى النفس، وشياطين الجن والإنس الذين يصدون عن الصراط المستقيم.

والصحة النفسية التي هي أساس العَيش السعيد تتطلب صبرا على أكدار الدنيا، من فقد محبوب أو ابتلاء بمرضٍ أو ضياع مالٍ أو فوات مطلوب أو سوء حال، فالصبر يوطّن النفس على البلاء ويساعد على التعايش معه والتفكير السليم في الحلول الممكنة والخيارات والفرص المتاحة، ومواصلة الحياة، وهذا  ما لايمكن تحصيله مع الجزع والتسخّط، وقد تفطّن غير المسلمين أيضا لأهمية الصبر والرضى في هذا المقام، وعدّوه أحد وسائل العيش السليم ومنع الاكتئاب، بل إن اللغة الانجليزية تستخدم كلمة واحدة لتصف المريض والصابر Patient !

أما العلم فلا يُحصّل إلا بالصبر، هل تعرف شخصا ملولا قد نال علما حقيقيا؟ روي عن حَبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنه أنه سُئل: بمَ أدركت العلم؟ فقال: “بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول“، وقد ألف الشيخ عبدالفتاح أبو غدة كتابا قيّما عنوانه (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) جمع فيه الأخبار التي تبيّن لك بجلاء أن هؤلاء العلماء لم ينالوا العلم براحة الأبدان، ولا يمكنك أن تجِد حافظا للقرآن – وهو أساس العلم- إلا وقد صبر طويلا على الحفظ والتكرار والمعاهدة والمراجعة، وقد قرأت في مذكرات المسيري رحمه الله أنه عكف على تأليف موسوعة اليهودية والصهيونية خمسة وعشرين عاما! نعم، استغرق تأليفه للكتاب ربع قرن، أي ثلث حياته رحمه الله! وإذا تأملت سِيَر العلماء المسلمين وغير المسلمين -قديما وحديثا- وجدت الصبر والتركيز وحبس النفس عن الملهيات ديدنًا لهم، إنها سنة من سنن الله في الكون، لاتحابي أحدا، وكم سبّبت قلة الصبر على مذاكرة العلم من ضعفٍ علمي، وتأخّر دراسي، وخسائر جمّة.

ماذا عن حُسن الخُلُق؟ إن الحِلمَ يتطلب صبرا عن الانفعال والغضب، وقول الحق يتطلب صبرا على نتائجه، والصمت عن الكلام المحرم أو اللغو يتطلب صبرا عن الميل الفطري للثرثرة، والكرم  يتطلب صبرا عن شحّ النفس، والإحسان إلى الناس يتطلب صبرا عن الأنانية، والعفو يتطلب صبرا عن الانتقام، وحسن الإنصات يتطلب صبرا عن التشتت أو الرغبة في المقاطعة، وحسن الرد يتطلب صبرا عن الاندفاع في قول غير محسوب النتائج، والتغافل يتطلب صبرا عن شهوة التيقظ لزلات الناس، والرفق يتطلب صبرا عن التهوّر، وحفظ السر يتطلب صبرا على شهوة إفشائه…والقائمة تطول، حتى إنك لا تكاد تجد خلوقا -بالمعنى الحقيقي للأخلاق- إلا وهو صبور متأنٍّ هادئٌ في تعامله مع الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» رواه مسلم، هل يمكن أن يمتلك محاسن الأخلاق شخص لايصبر في ردود أفعاله وفي ما يتفوّه به من كلام؟! يقول علماء النفس إن التميز في العلاقات يتطلب منك أن تضع مساحة زمنية بين الفعل الذي تراه وردّة فعلك تجاهه، هذه المساحة هي (الأناة) التي يحبها الله، التروّي والصبر أساس حسن الخُلُق.

أما النجاح في بيئة العمل، فيتطلب صبرا عظيما، صبر على الانضباط والالتزام بأوقات العمل والحضور، صبر على تعلم المهارات اللازمة لتجويد العمل والمحاولة والخطأ، صبر على التعامل مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين والمستفيدين، صبر عند التعامل مع الضغوط والمشكلات، صبر على مشقة العمل وواجباته وتحمل مسؤوليته.

أما التربية، فيكاد يكون الصبر مفتاح النجاح فيها، الصبر على التعامل مع الأبناء والطلاب، والاستماع إليهم، وتعليمهم وإرشادهم، وتحمّل أخطائهم وبطء استجابتهم، معظم أخطاء التربية تنتج من نفاد صبر المربي،   مثلا: تضع الأم قانونا لأوقات استخدام الانترنت في المنزل، لكنها لاتصبر على إلحاح الأبناء أو بكائهم وإزعاجهم حين يُقفَل عنهم الانترنت، فتنقض قانونها وتفتح لهم المجال وتفشل في تعويدهم معظم العادات الحسنة لنفاد صبرها، سمعت مرة من د. ميسرة طاهر أن بكاء الرضيع من غير مرض سببه قلة صبر أمه، فالرضيع يتعلم منذ أيامه الأولى أن البكاء خير وسيلة لابتزاز الأم وحملها على فعل مايريد، إنه يريد منها أن تحمله باستمرار، فيستخدم البكاء وسيلة للضغط عليها وإجبارها على حمله، ولكن المفترض أن تعي الأم هذا النوع من البكاء الذي لايعبر عن مرض أو احتياج حقيقي وتتجاهله -مع مراقبتها للطفل- حتى يتعلم أن هذه الوسيلة لاتنفع فيكف عن استخدامها، وقد أضاف الدكتور أن سلوك الابتزاز يكبر مع الطفل ويتخذ أشكالا عدة، ولاعلاج له إلا بالتجاهل، لكن معظم الآباء ينفد صبرهم بسرعة ويستجيبون للابتزاز اللحظي طلبا للراحة، ولكنهم يعانون ثماره المرهقة على المدى البعيد.

كل ما يخطر على بالك من الفضائل وأسباب الفلاح التي نعلم يقينا أهميتها لكننا لانقوم بها، لايمنعنا منها إلا قلة صبرنا عليها، كلنا نعلم أهمية صحة الجسد، ولكننا نرتكب في حق أجسادنا أخطاء كارثية لنفاد صبرنا، فالأكل الضار في معظمه لذيذ ومُغرٍ، وقلة الحركة أمر مريح، والسهر عادة مسلية أحيانا، لكن الالتزام بالأكل الصحي، ومداومة الرياضة، والالتزام بالنوم المبكر عادات تتطلب صبرًا، ولكن ثمارها نافعة: صحة داخلية، ووقاية من كثير من الأمراض بإذن الله، وجمال خارجي، وإنتاجية أكبر، فكيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير إلا لافتقارنا للصبر! وتقلقني شخصيّا انتشار جراحات السمنة في السنوات الأخيرة، كقص المعدة والتكميم وغيرها، لا لخطرها المحتمل على الجسد فحسب، ولكن لتعبيرها عن افتقار أفراد المجتمع مؤخرا إلى الصبر، حيث لايمكنهم فقدان الوزن إلا بتدخل جراحي يجبرهم إجبارا على عدم الأكل، وهذا مؤشر غير جيد لقوة الشباب الذين هم ذُخر المجتمع.

هناك قصة شهيرة تُروى عن عنتره -ولا أعلم صحتها لكن معناها صحيح- بأن رجلا سأله عن سر نيله لهذه المكانة فقال: بالشجاعة، قال له: وما الشجاعة؟ قال: الصبر!  فاستغرب السائل، ما علاقة الشجاعة بالصبر؟ قال عنتره: عُضّ اصبعي وأعضّ اصبعك فأينا صرخ أولا هُزم، فصبر الرجل قليلا ثم صرخ، قال عنتره: لو لم تصرخ لصرختُ أنا، ولكني صبرتُ فكنتُ أشجع! إنني أتخيل عنترة في تلك اللحظة وكأنه بطل أولمبي يدرك أن فرق جزء من الثانية يُكسِبه شرف كسر الرقم القياسي، وأن الصبر والمصابرة هي التي ستقوده لمراده.

إن الصبر عقلُ وحبس للنفس عن شهواتها، وهذا مطلب جوهري في كسب المال وحسن تدبيره، كيف ينجح مشروع تجاري لم يصبر صاحبه على المثابرة فيه؟ وكيف يحفظ المرء ماله من الضياع مالم يصبر على المغريات والرغبة في التتسوق؟ من أهم العادات النافعة اقتصاديا عادة الادخار، والاعتياد على تحديد الاحتياجات الفعلية عند الشراء، لكن صبرنا ينفد أمام إغراء السلع، فنشتري مالانحتاج، ثم تضيع أموالنا وتضيق مساحات منازلنا، إن العقل -الذي يحمل معنى المنع والحبس والصبر- يمنع المرء من تبذير المال، لذلك اقترن سوء تدبير المال في القرآن بالسّفَه وترك النفس على هواها: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) لأن المال عصب الحياة وقوامها، والسفيه يضيّعه في التوافه، وبنقيض ذلك فإن العقل في حسن تدبير المال، وفي وسط الآيات التي تتناول المال في سورة البقرة جاءت هذه الآية: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269). 

تطول قائمة أمثلة اقتران الصبر بفلاح الدين والدنيا، و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جملة وصيته لابن عباس رضي الله عنه “واعلم أن النصر مع الصبر” والنصر هنا كلمة معرّفة بأل، لتفيد العموم، كل نصر لابد له من صبر، نصرك على نفسك، وعلى أعدائك من شياطين الجن والإنس، وارتقاؤك لكل فضيلة وسموّ لابد له من الصبر، ولكن إذا كانت الوسيلة معروفة وواضحة إلى هذا الحد، فما بالنا لاننتصر ولا نرتقي كما نريد؟ لأن الصبر أمرٌ شاقٌّ على النفوس، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “والصبر ضياء” رواه مسلم، ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث وسبب اختيار كلمة ضياء لوصف الصبر: ” لأن الضياء فيه حرارة كما قال الله عز وجل :جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والصبر فيه حرارة ومرارة، لأنه شاقٌّ على الإنسان”، ولأن الصبر شاق، فإن ندرة من الناس يتميزون في مجال ما، أو في عدة مجالات، وقد قال المتنبي:

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ        الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ !

وقال غيره:

والصَّبرُ مثلُ اسمِه مرٌّ مذاقَتُه    لكن عواقِبَه أحلى من العَسَلِ

لكل إنسان نصيب من النصر مرتبط بنصيبه من الصبر، وكلما زاد صبر المرء وتنوعت مجالاته ارتقى في جوانب حياته المختلفة، و الصبر صفة تتطلب تمرينا ومجاهدة؛ لأن طبيعة الإنسان الفطرية هي الميل مع شهوات النفس، فالصبر لايولد مع الإنسان لكنه يتعلمه ويكتسبه، ولتقوية صفة الصبر عند الإنسان فإن عليه أن يُلزم نفسه بما يجب عليه ويستمر وإن كان الأمر قليلا جدا، ثم يزيده شيئا فشيئا، لكن المهم الصبر والاستمرار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله: أدومها وإن قل” رواه البخاري، هذه المداومة تتطلب صبرا، ولابد للمربي أن ينتبه لدوره في تقوية صبر المتربي فلا يضعف صبره بالتدليل وتلبية كل مايريد، بل يعوّده التغلب على هوى النفس ومجاهدتها، يعلمه الصبر على ماينفعه وإن كان مُرّا، والصبر عن المُلهيات وإن كانت حلوة مغرية، والمربي نفسه في تربيته هذه يحتاج صبرا كما ذكرتُ آنفا، فما أسهل تقديم كل شيء للنشء والارتياح من تذمرهم وإلحاحهم!

إن الصبر قوة للفرد والمجتمع، ولذلك فإن أسهل وسيلة لتدمير أي إنسان وهزيمة أي مجتمع، هي إغراقه بالشهوات والمُلهيات حتى يفقد الصبر عنها ويُصبح عبدًا لهواه، ويقعُدَ عن كل فلاح ويستصعبه، فلايعود قادرا على العمل الجاد أو مقاومة المغريات، ولذلك لابد من تربية النفس وتوطينها على الصبر، وتعزيز هذا الخُلُق لدى النشء، وبثّه في الكبار والصغار، والله تعالى يقول في ختام سورة آل عمران التي هُزِم فيها المسلمون نتيجة عدم صبر فئة منهم على البقاء على الجبل، ونزولهم السريع رغبة في الغنائم، وتمكّن عدوّهم منهم بسبب هذه الثغرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

4-هل يتقدم العالم؟

259px-The_Scream

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أحد أهم ملامح الفكر المعاصر، الاحتفاء بالجديد لجِدّته، وازدراء القديم لمجرد قِدَمه، وقد يكون لهذا النمط من التفكير مبرره عند الغرب وهو سيطرة فكرة التقدمية ( progression ) والتي نبعت من الفلسفة التاريخية القائلة بأن كل عصر لابد أن يكون أفضل من سابقه، فالبشرية تسير في خط تصاعدي منذ القدم وإلى الآن وستستمر في ذلك، ومن رواد هذه الفلسفة في الفكر الغربي: هيجل وماركس.

تصب نظرية النشوء والارتقاء لدارون في ذات الفكرة، فدارون يرى أن الإنسان بشكله الحالي تطور عبرالنشوء والارتقاء وانتخاب الطبيعة للأفضل، وأنه كان في البداية قردا ثم تحول عبر الاف السنين ليكون إنسانا، وتقتضي النظرية – التي يؤسس عليها الفكر الإلحادي اليوم- أن الإنسان في تطور مستمر، وإذا كان التركيز اليوم على التطور المادي والتقني وتجاهل الجانب الروحي والأخلاقي، فإن الواقع يعزز هذه الفكرة، فالبشر في كل يوم يتقدمون تقنيا عن اليوم الذي قبله، مما يجعل البعض يستخدم نفس المبدأ للحكم على عالم الأفكار، فيرى أن فكرة التعلم النشط في التدريس أفضل وأرقى من فكرة التلقين لمجرد أنها أحدث منها، تماما كما أن أيفون 8 أفضل من نوكيا الدمعة بلا مناقشة.

 يشيع اليوم بين الناس أن يعيب أحدهم فكرة ما لأنه ولى زمنها، ولأن الناس أضحوا يفكرون بطريقة مختلفة، وكأنه ينبغي أن نبقي أعيننا على التقويم حين نريد تبني أي فكرة في أي مجال خشية أن تكون صلاحيتها قد انتهت ونحن لاندري، ولكن، هل هذا صحيح؟ هل يصحّ أن نعتبر (الجِدّة) معيارًا للحكم على صحة الأفكار؟ وهل يصح أن نقول إن تفكير الناس اليوم وعقولهم أفضل من القرون السابقة لمجرد التقدم الزمني؟

نحن في الإسلام لانحكم على أمور الدين والأخلاقيات بنفس المعيار الذي نحكم به على الماديات، فنحن وإن كنا نقرّ بأننا نعيش اليوم عصرا متقدما ماديا، إلا أنه متأخر بل متخلف روحيا وأخلاقيا، ولدينا يقين جازم بأن الأفضل مضى ولن يعود، وهو عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وأن أفضل مايمكن أن نبلغه من تقدم ورقي هو محاولة القُرب من ذلك النموذج المثالي، ولن نكون مثله، لكنه معيار قربُنا وبعدُنا منه يحدد مقدارَ تقدمنا أو تأخرنا، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ )، يشير الحديث إلى أن عصورا من ( التخلف ) قادمة، وإن كان هيجل وماركس وملايين الناس اليوم يعدونها أكثر تقدّما.

قلت في الفقرة السابفة إننا -نحن المسلمين- لا نحكم على الماديات بنفس المعيار الذي نحكم به على المعنويات، فإن كنا اليوم نعيش عصرا متقدما ماديا، فإنه متخلف روحيا، ولكن مهلا، حتى هذا التقدم المادي يعد تخلفا في نظرنا أيضا إذا انحرف عن مُراد الله، وأدى إلى جفاف الروح والتعلق بالدنيا – وهذا هو الحاصل اليوم- فالبشرية تستخدم العلم المادي التجريبي بطريقة منحرفة عن مُراد الله وحكمته في تسخير الكون للإنسان، فهي تصنع المزيد من القنابل والأسلحة المدمرة، والتي لن يروج سوقها إلا بتذكية الحروب وإشعالها وضمان استمرارها، كما أن صناعة الأدوية والتجهيزات الطبية تروج بشكل مخيف وغير أخلاقي في كثير من الأحيان، فالأدوية تطيل متوسط الأعمار وتبقي الناس في حاجة ماسة للدواء  والفحوصات بالأجهزة، وهذا يخدم الهدف الأساسي: تدفق المزيد من المال لشركات الأدوية والتجهيزات الطبية، فالميت والصحيح كلاهما لايحتاج الدواء ولا الفحص المستمر، المستهلك المثالي هو إنسان صحيح موسوس، أو مريض مزمن، فضلا عن شركات تصنيع الأطعمة التي تستخدم أحدث ماتوصل له علم الكيمياء لصناعة طعام غير طبيعي، وملئ بالزيوت المهدرجة، يدمنه الناس ويزهدون في الطعام الطبيعي الذي لا يتوفر فيه نفس المقدار من الملح والسكر والدهون والنكهات الصناعية، وماينتج عنها من سمنة وأمراض قلب وسكري، وكأن كل تقدم واحد يجلب معه آلاف المشكلات التي لم يعانِ منها الناس سابقا.

ماذا عن شركات تصنيع السلع المختلفة، من ملابس وهواتف محمولة وأجهزة، والتي تدمر البيئة، وتشغّل الفقراء والأطفال والنساء في ظروف قاسية وظالمة وغير أخلاقية لضمان إغراق السوق بمزيد من السلع، ماذا عن صناعة المواد الإباحية وتجارتها المتزايدة والتي كانت السبب الأساسي في تطور الكاميرات الرقمية الاحترافية وزيادة دقتها لإتقان إنتاج المواد الإباحية ورواجها؟

هذه مجرد أمثلة لانحراف التقدم المادي عن مُراد الله، وإسهامه في إضرار الناس بدلا من نفعهم، أما الخلل الثاني فيكمن في أن التقدم المادي يجرنا إلى تخلف لايريده لنا الإسلام، وهو الركون للدنيا والاطمئنان بها، وما يجره هذا من شقاء بسبب جفاف الروح، لأنها لم تُخلق للأرض، خُلقت لتسكن الجنة، وما وجودها هنا إلا مرور عابر لايمكنها أن تجعله غاية تقنع بها، إن الركون للدنيا ليس ارتفاعا ولا تقدما ولا طموحا، بل انحدار وتثاقل وتواضع في الطموح، ألم يعاتب الله عز وجل بعض المؤمنين على قناعتهم بالأدنى في سورة التوبة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38).

هناك الكثير من النقاش حول آفات الحداثة اليوم، ومعظم من يناقش الأمر هم الغربيون أنفسهم، يشككون اليوم في جدوى المغالاة في أهمية العلم التجريبي، وينتقدون الانحرافات الأخلاقية لاستخدامه، ويسهبون الحديث عن غربة الإنسان في عصر الحداثة، عن شعوره بالتفاهة واللاجدوى، عن تفكك العلاقات الاجتماعية وانتشار الاكتئاب، عن الشك في أن العالم يتقدم للأفضل، عن القلق الوجودي في عالم اليوم، بعد أن بلغ الإنسان مابلغ من تقدم مادي تزايد معه القلق والاكتئاب، والذي تمثله اللوحة التي أرفقت صورتها في هذا المقال وهي لوحة (الصرخة) للنرويجي ادفارت مونك، ثاني أشهر لوحة بعد الموناليزا، وقد اكتسبت أهميتها في تعبيرها عن القلق والهلع وغياب المعنى في حياة الإنسان المعاصر، عن حيرته في جدوى التقدم، وقد زادت شعبية هذه اللوحة بعد أن أهلكت الحربين العالميتين ملايين البشر في القرن العشرين، الذي كان يمثل ذروة التقدم المادي.

إن التطور المادي إذا انحرف في أصله وقام على غير مُراد الله، وانحرف في غايته فجعل الدنيا هي غاية المُنى، فقد أضحى تخلفا لاتقدما، وإن علينا أن نعيد التفكير في تقييم الأشياء والأفكار بمرجعيتنا نحن: الكتاب والسنة؛ لأن كثرة المِساس مع الحضارة الغربية أذهبت إحساسنا، وأضاعت وجهتنا، فأصبحنا نرى الأمور على غير حقيقتها، ونسميها بغير أسمائها، ونتبنى -دون أن نشعر- قيَمًا ومعايير تخالف أصول ديننا، والأمة التي لا تراجع أفكارها تنجرف وتغرق وتتلاشى، لنتقدم في الوجهة الصحيحة، نقترب من خير القرون،  ونجعل تقدمنا المادي قائما على مراد الله، خادما لغايتنا الكبرى في نشر الحق وإرادة الله والدار الآخرة، فقد ضيّعنا كثيرا من الوقت في محاولة التقدم الزائفة حين أضعنا بوصلة الطريق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

النجاح الرديء

 

challenge

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هناك فكرة تدور حولها كثير من الأفلام السينمائية الأمريكية خاصة وهي فكرة (الإصرار) أو (التحدي لبلوغ هدفٍ ما)، ويبدأ الفيلم عادة بأن يكون البطل في وضع لايرغبه، ويأمل بمستقبل أفضل يحقق فيه ماتشتهيه نفسه، وتبدو جميع الظروف معاكسة له، وكل الأشخاص من حوله يقفون في وجهه، ثم يصل الفيلم لـ (العقدة) وهي الوضع الذي يُقارب فيه اليأس، وتستمر الأحداث لتنفرج العقدة عن نهاية سعيدة وهي أن يتحقق حلمه ويقتنع الجميع بمشروعية هدفه لأنه (أصرّ) على بلوغه و (تحدّى) الجميع وفارق القطيع، وآمن بـ (شَغَفه) وشق طريقا صعبا فيتوج في نهاية الفيلم بطلا جبارا.

يُعرَض الفيلم بإخراج احترافي يجعلك تؤمن بشغف هذا البطل من أول لحظة وتؤيده في السعي له: تتوتر عندما تصادفه الصعوبات، وتنفرج أساريرك عندما يُوفّق، ويبدو لك الأشخاص الذين يعارضونه وكأنهم مجموعة من الحمقى والبُلهاء.

ماهو الشيء الذي يسعى له هذا البطل؟ لايهم، يظل المشاهد متحمسا دون أن يسائل نفسه عن مشروعية هذا الحلم الذي يُناضل البطل لأجله، فقد يناضل البطل من أجل مكافحة الجهل مثلا، أو من أجل فتح متجر لتزيين القطط، أو من أجل الهروب مع حبيبته أو مناصرة حقوق الشواذّ أو أي أمر آخر، قد يكون هذا الهدف ساميا أو سخيفا أو ضارّا، الفكرة الأساسية هي الإيمان بشغف ما، وتحدي الجميع لأجله والانتصار في النهاية، ولايملك المشاهد إلا التعاطف مع هذا البطل، والإعجاب برحلة النجاح دون تمحيص الغاية منها بعرضها على قناعات المشاهد ومرجعيته الفكرية.

ليست لدي مشكلة مع فكرة الإصرار من أجل بلوغ هدف ما، بل يكاد يكون هذا الأمر أحد أهم أساسيات النجاح، وقراءة سِيَر العظماء وصبرهم من أشد مايحفّز الهمم، بل إن أحد أسباب إيراد قَصص الأنبياء وصبرهم وماواجهوه من مصاعب: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتصبيره على مايلاقيه في سبيل الدعوة، وتصبير أمّته كذلك، مشكلتي مع الفكرة المذكورة أعلاه هي أنه يتم تناولها على أنها قيمة بحد ذاتها، وإغفال أمرين هامين:

1- مدى مشروعية الهدف الذي تسعى من أجله

2- تأثير الإصرار على هذا الهدف على توازن حياتك

 لايمكنني التعاطف -بمرجعيتي الفكرية الإسلامية- مع شخص يفعل المستحيل من أجل مناصرة حقوق الشواذ، أو مع هاوية للرقص تحدّت أهلها ومجتمعها لتبلغ ذروة النجاح في الرقص الاستعراضي، أو مع بطل كمال أجسام يتناول المواد الضارّة لينفخ عضلاته ويستعرض جسده في مسرح أمام لجنة تحكيم.

ولن أُعجب أيضا برجل أو امرأة بلغ ذروة النجاح في ريادة الأعمال أو العلم، لكن ذلك على حساب أسرته أو مبادئه، فلابد من التركيز على غاية النجاح ومدى أهميته قبل الانبهار بمسألة التحدي والإصرار والشغف، لأن من السنن التي أودعها الله هذا الكون أن من سعى لأمر وبذل جميع أسبابه فإنه غالبا يوفق له في الدنيا ولكن الجزاء الحقيقي في الآخرة، فأعظم اللصوص في العالم وأكبر رجالات المافيا لم يصلوا لما وصلوا إليه إلا بالعزيمة والإصرار والبذل، لكن ماقيمة هذا في ظل خِسّة الغاية؟

الطرح الإعلامي المعاصر يريدك أن تُعجب بفكرة النجاح الشخصي فحسب، فنحن في عالم فرداني، يعيش الفرد فيه ليسعد نفسه ويثبت ذاته، ونحن في عالم التعددية الفكرية أيضا، فجميع الأفكار مقبولة وتستحق أن يُناضل المرء من أجلها مادام مقتنعا بها، ووجود هذه الفكرة في الإعلام الغربي أمر عادي لأن الإعلام ينتج من ثقافة المجتمع ويُروّج لقيَمه، لكن تسويقها لدينا أمر دخيل، لأننا مسلمون نؤمن بمرجعية الشرع أولا، نعرض أهدافنا على الشرع فلا نسعى لها لمجرد رغبة ذاتية، وندرك أن الفرد جزء من الأسرة والمجتمع فلا يمكن التنصّل من المسؤوليات الاجتماعية والأسرية لمجرد الشغف.

بدأت ألاحظ مؤخرا تزايدا مطّردا لهذه الفكرة في الإعلانات التي تظهر لي أثناء تشغيل مقاطع اليوتيوب، وفي الطرح الإعلامي بشكل عام، ويوجّه هذا الطرح للمرأة السعودية على وجه الخصوص باعتبارها كائنا مسجونا ينبغي تحريره من ربقة المجتمع الظالم، وينبغي تشجيع الرائدات المتحديات المصرّات الشغوفات الناجحات المكافحات…. وتقديمهن بصورة ( البطل الناجح ) و (القدوة المثلى) للنساء والبنات، في هذه الإعلانات تقدم (المرأة السعودية الناجحة) بصفات محددة منها:

1- تمتلك غاية تود بلوغها، وهذه الغاية تتصادم مع قيم المجتمع: الرغبة في التمثيل، دخول الأولمبياد، عرض الأزياء…الخ، وتشعر بالفخر لريادتها في هذا الأمر

2- تمتلك العزيمة والإصرار والتحدي وتعرف مسبقًا أن طريقها شاق ولكنها مستعدة لقبول المخاطرة.

3- يظهر في التصوير ثقتها العالية بنفسها، ونظرة التصميم في عينيها.

 الأم المربّية، والمعلمة الناجحة، والطبيبة المخلصة، وأستاذة الجامعة المثقفة، والكاتبة المبدعة، وسيدة الأعمال المحافِظة، كلها نماذج نجاح يتجاوزها هذا النوع من الطرح ولاتبدو مغرية له لأنها تقليدية، فهي لاتصادم قيم المجتمع ولا تملك الإثارة المطلوبة، إذ يبدو أمرًا مملا وباهتا أن تعرض قصة نجاح أستاذة جامعية يدعو لها والداها بالتوفيق ويشد مجتمعها من أزرها لتنفع هذا المجتمع وتسهم في بنائه، بعكس الممثلة وعارضة الأزياء، وما ستواجهه من تزمّت المجتمع (المنغلق!).

في هذا السياق، تخطط إحدى القنوات لعرض مسلسل يحكي قصة نجاح (ملاكِمة) سعودية، وتبدو قصة المسلسل كله مفضوحة من إعلان لم يتجاوز الدقيقتين: فتاة تجد شغفها في الملاكمة، تعارضها أسرتها والمجتمع، تصرّ على بلوغ الهدف وتؤمن بشغفها، تنجح في النهاية و … خلصت الحدوتة، ولا أعرف ماهو الحوار الذي سيدور خلال ثلاثين حلقة بين الممثلين ليكرر فكرة سينمائية مُستهلكة، وحبكة معروفة سلفا تبدو قصة ليلى والذئب أكثر تشويقا منها.

إحدى مشهورات (سنابشات) التي لايخرج محتوى ماتقدمه عن التفاهة المستفزة، حكت مرة لمتابعاتها قصة نجاحها وكفاحها من أجل الوصول لما وصلت إليه من شهرة، وتحديها لكل من يحبطها ويقف في طريقها، ثم طلبت في النهاية منهن أن يستفدن من تجربتها في الإصرار والصبر والكفاح لبلوغ أحلامهن، أنا لا أقول إن هذه المشهورة تخطط لإفساد المجتمع، فهي شخص أبسط من هذا، لكنها تشرّبت فكرة النجاح الرديء وأصبحت تُسوّق لها تلقائيا وبصدق وبلاهة.

هذه النوعية الرديئة والضارة من الأحلام والطموحات يتم عرضها على الناشئة اليوم بأساليب جذابة تسهم في تشكيل عقولهم بطريقة سيئة، عبّرت إحدى الصغيرات عنها عندما سُئلت: ما الذي تطمحين لتحقيقه عندما تكبرين؟ فأجابت بلاتردد: “أبي أصير مشهورة!” بأي أمر ستشتهرين ياصغيرتي؟ وما الذي ستدفعينه ثمنًا لشهرتك؟ لايهم، وليس ببعيد عن القاريء احتفاء وسائل الإعلام الغربية بالفتاة الهاربة التي أعلنت إلحادها بوصفها: تحدّت مجتمعها وأصرّت على عَيش الحياة التي تريدها!

النجاح فكرة مغرية، ورؤية نماذج حية للناجحين من أعظم مايؤجج الهمم ويذكي الطموحات، ولكن هذا الأمر ينبغي أن يوزن بميزانين هامّين أعيد ذكرهما للأهمية:

1- مشروعية الهدف وتوافقه مع الشرع

2- ألا تتم التضحية بأولويات أهم من هذا الهدف لأجل بلوغه

إن مناقشة هذا الأمر مع النشء وتطبيقاته في وسائل الإعلام واجب تربوي، ليكون لديهم تصوّر صحيح لمبدأ النجاح الدنيوي المرتبط بفلاح الآخرة، والذي يحقق فيه الفرد ذاته وينهض بمجتمعه في آنٍ معًا، النجاح الذي لايتطلب بالضرورة شهرة ولاتحديا بقدر مايتطلب تزكية مستمرة للنفس وأداء لاختبار الحياة كما ينبغي، إن إهمال تصحيح هذا التصور في ظل الزخم الإعلامي المروّج للنجاح الرديء، قد يُظهر من مجتمعنا وبناتنا راقصات يرددن أن (الفن رسالة) ويظهرن في وسائل الإعلام ليحكين قصص النجاح والكفاح الملهمة في هذا !!

 

الهروب من الكمّ إلى القيمة

في العالم الغربي اليوم مللٌ من القيم المادية الفارغة من المعنى، والتي تعامل الإنسان كالبهيمة، لاتخاطب أعلى مافيه: الروح، بل تركز على الجسد حتى تشقى الروح وتبحث عن نعيمها هنا وهناك، ومن هذه القيم المادية: الجوعُ الاستهلاكي، والنهم للشراء وتكديس الأشياء، ماسمّاه المسيري رحمه الله (الفردوس الأرضي) ذلك النعيم الذي وعد به الحلم الأمريكي: أن تحصل على كل ماترغب به، فقط اعمل بجد، واكسب مزيدا من المال لتحقيق ذلك.
يمكننا مُلاحظة الوحش الاستهلاكي متمثّلا في الشركات الكبرى التي تبتلع حياة الأفراد وتسحقهم تحت عجلاتها، والمصانع التي تنتج سلعا أكبر مما تحتاجه البشرية وتستعمل التسويق الخادع وتجدد الموضة لإيهام المستهلك بضرورة (شراء) السلع التي تم (إنتاجها) مؤخرا، وكما عبّر المسيري رحمه الله: ” قديما كانت الحاجة أم الاختراع، واليوم أصبح الاختراع أبو الحاجة”.
يشعر المستهلك بتوقٍ شديد للحصول على السلعة الجديدة (ملابس، أجهزة، أثاث، سيارة…..الخ) وتُمارَس عليه حربٌ إعلامية ضَروس، ترسم له الحياة في قالب محدد قائم على الاستهلاك والتجديد المستمر، فيتجه للشراء ويشعر بفرحة غامرة تشبه شعور المدمن حين يحصل على جرعة المُخدّر، ثم يكتشف بعد فترة أنه بحاجة لشراء أخرى لأنها أفضل،  وهكذا تدور عجلة الإدمان الاستهلاكي لتخنق الأشياءُ الناسَ في منازلهم، وتجبرهم على البحث عن وظائف ومصادر دخل أعلى للوفاء بكل هذه (الاحتياجات) الجديدة، دوامة تضغط الفرد المسكين ليعمل بجد ويصب عُصارة جهده وكدّه في خزائن الشركات الكبرى؛ استجابة لمعايير مجتمع معوج أقنعه أن قيمته بمايملك، لا بما هو عليه حقا، وأنه لايوجد أسلوب آخر للعَيش.
حركة الـ Minimalism، أو كما أترجمها شخصيا: الزُّهد، حركة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، صحوةٌ من سَكرة إدمان الاستهلاك والتشيؤ، والزاهد Minimalist يقلّص حاجياته إلى الحد الضروري الأدنى ويتخلص من كل ماليس ضروريا أو مهمّا أو ذا قيمة حقيقية، بحثا عن حياة ذاتِ معنى وخروجا من دوّامة الاستهلاك وإدمان التسوق، المشاركون في هذه الحركة يؤكدون أنهم الآن أكثر تحررا وسعادة وقوة، وأن الأشياء التي أبقَوها معهم اكتسبت قيمة أعمق في حياتهم.
شابان أمريكيان أنتجا فيلما عن الـ Minimalism، يقدمان فيه منظورهما للحياة بأبسط وأعمق الأشياء، ورحلتهما في الدعوة لهذه الفكرة، شاهدتُ الفيلم، ولم يفاجئني تشابهه الشديد مع مفهوم الزهد في الإسلام، والتقلل من متاع الدنيا، وكنت ألاحظ هذه المفاهيم في الثقافات الشرقية، لكنني رأيته هنا ينطلق ثائرا على المادية والرأسمالية والاستهلاك من أكبر مروجٍ وراعٍ هذه المفاهيم: الولايات المتحدة الأمريكية.
من الجمل التي استوقفتني في الفيلم -والتي تلخص فكرته- جملة قالتها إحدى المتبنيات لهذه الفلسفة في العيش:
“We all need basics: having house, food in a table, being safe, that is really important to recognize, because not everyone has these things”
“كلنا نحتاج الأساسيات: المسكن والطعام والأمن، وهذه هي الأمور التي ينبغي تقديرها حقا، فليس كل إنسان يمتلكها”
لابد لمن سمع جملتها العميقة هذه أن يقفز لذهنه قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنا في سِربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)
طوال مشاهدتي للفيلم، تتداعى في ذهني النصوص التي أحفظها عن الزهد والتقلل من متاع العاجلة، عندما رأيت البيوت الصغيرة جدا والتي اختاروا أن يسكنوها لأنهم فعليا لايحتاجون سوى الأساسيات، تذكرت حُجُرات النبي صلى الله عليه وسلم، وحياتَه التي كانت تقوم على الأساسيات فقط، المشكلة اليوم أن من يذكر نفسه والناس بهذه القيم الأصيلة في الإسلام والتي تنسجم مع رؤية المسلم لهذه الدنيا بأنها دار ممر لا مقر، يُهاجم بأن هذا لايناسب حياتنا اليوم فـ “الدنيا تغيرت” وكأن القالب الاستهلاكي سجنٌ لايمكن الفكاك منه والتحرر، مع أن غيرنا فعلها وهو لايرجو بعثا ولانشورا.

هذه تشويقة الفيلم في اليوتيوب، ومن أراد مشاهدته كاملا، فيمكنه شراؤه من هذا الموقع، ويمكن البحث في اليوتيوب عن تجارب المنضمّين لهذه الفلسفة في الحياة، بالبحث عبر كلمتي Minimalism و Mininmalist.

كتبت هذا المقال في العام الماضي في قناتي في التليغرام عند مشاهدتي للفيلم بعد توصية من صديقة، ومؤخرًا نَشر الأخ المبدع ( علي محمد ) في قناته المميزة في اليوتيوب اثنين من الفيديوهات عن هذا الموضوع: Minimalism أو تبسيط الحياة  ( 12) وقد تناول في المقطعين تبسيط الحياة من عدة جوانب (ترشيد الاستهلاك، تبسيط البيئة والأغراض الشخصية، تبسيط العلاقات، تبسيط الحياة العمليّة)، ومن الكتب التي انتشرت في الآونة الأخيرة كتاب اليابانية ماري كوندو (سحر الترتيب) وهو كتاب يصف منظورها لترتيب المنازل من وجهة نظر شخص يتبع فلسفة التقليل أو التبسيط أو Minimalism .

بالنسبة لي، أحببت هذه الفلسفة لأن التعقيد وكثرة الأشياء أمورُ تصعّب الحياة، ولأن سِيَر العلماء والعظماء تحكي أنه كلما ازداد الثراء المعنوي للإنسان جنحَ للبساطة والتخفّف من أثقال الحياة المادية، ولأن تبسيط الحياة يحل مشكلات مجتمعية عويصة لاحدّ لها، وقد جاء الإسلام بكل هذا ولكننا قومٌ نزهد بما لدينا حتى يأتي به الأجانب فنفغرُ أفواهنا دهشة وإعجابا… !