دع الحزن يأخذ مجراه

شاركت جهات اتصالي في حالة الواتس اليوم تغريدة لمغردة اسمها أمجاد نصها: ” قالت جدتي يوما مواسية ابنتها: خلي الوجع ياخذ مداه، أخذت الجملة مكانا بداخلي لأيام، واقتنعت أن كل ألم زائل إذا ما أخذ وقته، فلا تكتسحه بأسلحة المتفائلين وأهل الطاقة، سيأخذ مداه ويرحل تاركا خلفه مناعة أقوى كما في حالة خالتي   “

فأعقب ذلك نقاش بيني وبين قريبة حبيبة إلى قلبي حول هذا المعنى، مما أجبرني على التأمل فيه أكثر، معنى أن نفسح المجال لأنفسنا ولمن حولنا بإطلاق مشاعر الحزن في المواقف المحزنة، وأن ذلك لا يتعارض مع الصبر والتجلد، حيث يسارع الكثيرون عند المصائب -صغيرها وكبيرها- للتذكير فورا بمعاني الصبر والتجلد وتهوين شأن المصيبة على صاحبها، مما يشكل ضغطا نفسيا يصادر رغبته الطبيعية في إظهار الحزن والرغبة في التعاطف.

نعم نحتاج معاني الصبر والتجلد والرضى واستحضار أن الخيرة فيما اختاره الله، لكن هذا لا يعني أن ننكر الفطرة البشرية في الشعور بالحزن، دعوا الحزن يأخذ مجراه في النفس، ويمر بدورته الطبيعية ليتعافى الإنسان، الحزن مثل الجرح الجسدي، لو لم نسمح له بفرصة التماثل للشفاء، فلن يندمل أبدا، إنكاره سيحوله لالتهاب مزمن لا يبرأ.

مهارة التعاطف مهارة نحتاج أن ننميها في أنفسنا، وهي مرتبطة بمهارة حسن الإنصات، حين ترى أخاك، قريبك، صديقك، ابنك حزينا، فأظهر تعاطفك أولا، وأجّل النصائح لوقت لاحق، حتى لو كنت ترى الأمر لا يستحق من وجهة نظرك، هو يستحق من ناحيته، وأنت تهتم لأمره، دع الحزن يأخذ مجراه، وهذا الإنصات والتفهم له أثر كبير في تعميق العلاقات.

في حادثة الإفك، دخلت امرأة من الأنصار على أمنا عائشة رضي الله عنها، فبكت معها دون أن تزيد على ذلك، لم تقل: تجلّدي، ما الذي يبكيك والأمر برمّته كذب، أنت بريئة، ولن يتركك الله، لا، بكت معها، فقالت عائشة رضي الله عنها: “لا أنساها لها”، لم تنسها لها لأنها شاركتها الحزن، وتعاطفت معها، ولم تنكر حقها في الشعور بالحزن والبكاء لهذه الحادثة.

لا تعارض مطلقا بين التعاطف، والنصح بالصبر، ولا تعارض بين الصبر والشعور بالحزن والتعبير عن ذلك، المنهي عنه هو التجزع أما الحزن فشعور طبيعي، دعوه يأخذ مجراه.

صفاء اللحظات الأخيرة

جربت وجرب غيري ممن يدرس أو يعمل ويُطلب منه تسليم بحث ما أو أداء اختبار، أن يتقاعس في بداية العمل ويتفنن في التفاصيل غير الهامة ويشعر أن معه الكثير من الوقت، وما إن يمضي الوقت وتأتي ساعة الصفر حتى يشعر بأهمية الساعة والدقيقة والثانية، ويغدو ذهنه حادّ التركيز، مرتبا للأولويات، سريع الفهم والحفظ، يترك كل المشتتات ويركز في المهمة المطلوبة فقط.

تمنيت دوما أن أمتلك حدة التركيز هذه منذ البداية، فقررت أن أخادع نفسي أحيانا، وأوهمها بأن الوقت أقصر مما هو عليه حقيقة، وأن أطلب من نفسي تسليم المهمة في وقت أحدده سلفا مهما كان الأمر، ونجحت هذه الخدعة كثيرا في حفظ الوقت (لكن ليس دائما).

هنا قاعدة سمعتها قديما هي أن “العمل يتمدد بحسب الوقت المخصص له” فإذا قلت: سأقرأ هذا الكتاب في شهر أنجزته في شهر أو أكثر، وإن قلت سأقرؤه في أسبوع فعلت ذلك أو تجاوزته بقليل، ولو واجهت اختبارا مصيريا يفرض عليك قراءته في يوم لأمكنك ذلك.

حقيقة نحن نهدر الكثير من الوقت، وأنا لا أطلب من نفسي ومنكم أن نتحول لآلات أو نرهق أنفسنا، لكن أن نحدد وقتا لإنجاز المهام، ونركز في هذا الوقت، التركيز مهارة عزيزة جدا في عالم الشتات الرقمي.

نعود لمبدأ الحديث وهو أن الإنسان يظن أن معه الكثير من الوقت، فيضيعه، فإذا اقترب موعد الإنجاز صار يجري كالأرنب مستثمرا كل دقيقة وثانية، متحسرا على ساعات أضاعها من قبل، هذه الفكرة حين أتأملها تخيفني حقيقة، لأنها تذكرني باختبار الحياة الذي سوّفنا فيه كثيرا، فإذا عاين أحدنا حقيقة الموت لاحت له ساعات عمره المهدرة وتمنى لو مدّ الله في عمره يوما واحدا يعمل فيه ما ينفعه، اللهم اجعل أوقاتنا في رضاك، وارزقنا حسن الختام.

تعلم كيف تصطاد

مرت سنة وثمانية أشهر تقريبا منذ أن كتبت آخر تدوينة هنا، واليوم أعود مع تحدي التدوين العربي بكتابة عشر مقالات في عشرة أيام متتابعة عن فكرة تمر في يومك فتلتقطها لتتأملها، حسنا، الفكرة التي مرت بي اليوم هي فكرة العلاقة بين العطاء والاتكالية، بمعنى هل الشخص المعطاء ينمّي الاتكالية لدى الآخرين؟

مع قناعتي الشديدة بأهمية العطاء ونشر ثقافته في المجتمع، وحث الدين عليه، إلا أنني أحيانا أرى أنواعا من العطاء في غير محلها، أو لنقل ضررها على المعطي والآخذ أكبر من نفعها، وتظهر عند العطاء الذي يقوم به الإنسان بدور الشخص الآخر دون حاجة، ويستمر على ذلك حتى يعتاد الآخِذ الأمر ولا يفكر كيف يقوم بالأمر بنفسه، مما يعيق نموه ويربي فيه حس الاتكالية والاعتماد على المعطي.

لعل المثال يوضح المقال: الأم التي تعتاد الطبخ لأسرتها دوما والقيام بكل أعباء المنزل لوحدها قد تبدو معطاءة، لكن هذا النوع من العطاء يحرم بناتها من تعلم مهارات كثيرة في عمل المنزل، ومن فرص البر وتحمل المسؤولية، وكذلك الأب الذي يكبر أبناؤه وهو لم يفوّض بعض مهامه لهم، ثم يكبرون ولم يتحملوا مسؤوليات الرجال.

من أمثلة العطاء الذي يربي الشعور بالاتكالية أن يرسل لك شخص طالبا خدمة يستطيع القيام بها بنفسه بسهولة بالغة فتقوم بها بدلا عنه، من العطاء الجيد عندي أن أدل شخصا على محل، لكنني لن أبحث له عن موقع المحل وهو يستطيع الحصول عليه بمجرد كتابة اسمه في google.

الأمر نفسه يصدق على المعلم الذي يلخص لطلابه المقرر، فهو يذاكره نيابة عنهم، ويفهمه ويلخصه، مع أن هذه عمليات عقلية عظيمة تمثل لب دور الطالب، فالتلخيص أحد أهم طرق التعلم، والمطلوب منه هو مساعدتهم على التعلم، وليس التعلم نيابة عنهم، وقد يوصف هذا المعلم بالمعطاء لأنه يبذل جهدا ويريح طلابه، لكن أثر التعلم لن يبقى طويلا في أذهانهم.

المثل الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو “لا تعطني سمكة، علمني كيف أصطاد”، والذي أقترحه تزامنا مع العالم المعرفي اليوم هو: “دعني أتذوق السمكة وأحبها، وسأتعلم أنا كيف أصطاد”، قد يكون إيقاد الرغبة بتحمل المسؤولية نوعا من العطاء غفلنا عنه كثيرا.

عولمة الجمال

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حب الجمال والتجمل أمر فطري عند كل البشر، ويكتسب أهمية عند المرأة خاصة، كل أنثى تحب أن تكون في أبهى صورة، راقب بنتا صغيرة حين تتأمل جمالها الرباني، وتتثنّى بفستانها أمام المرآة جذلى، حين تعبث بأدوات زينة الكبيرات، حين تنتشي فرحا بأظافرها المطلية وتحاذر لمسها قبل أن تجف، حين تستجيب أمها لضغوطها المتكررة  فتغمر شفاهها بلون ما، ثم تقتنص الصغيرة هذه الفرصة النادرة لتعيش كأميرة ولو لبضع لحظات!

الجمال أمر حيّر الفلاسفة في تعريفه ومحاولة إخضاعه للمنطق، وسلَب لُبَّ الشعراء حتى تفننوا في وصف محبوبة متخيّلة، أو حقيقية ألبسها الحب رداء جمال خلدته اللغة بعد فناء الجسد، فانبعث في صورة تتجدد مع خيال كل قارئ، هذا الجمال أسر الرسامين حتى حاولوا إبقاء شيء من أثره لمن بعدهم عبر لوحاتهم، فن البورتريه من عصر النهضة الأوروبية يحكي قصص الجميلات آنذاك.

هل يمكن تعريف الجمال؟ تميل نفسي إلى القول بأنه كل مايستحسنه الذوق، حسّا أو وجدانا، فقد يستحسن البصر وردة جميلة، ويستحسن الشم رائحة جميلة، وكذلك قد يستحسن الوجدان قصيدة جميلة أو معنى جميلا، والأذواق تتباين في اعتبار شيء ما جميلا أو سلب صفة الجمال منه، لكن الذوق يتأثر بالبيئة الخارجية وليس نابعا من داخل المرء فقط، فنحن اليوم نستقبح ما استحسناه بالأمس لاعتبارات قد تتعلق بتغير مانتلقاه من الخارج فيبدل أذواقنا.

أما العولمة، فهي جعل الشيء عالميا، ويورد قاموس المعاني (هنا) هذا التعريف لها:

“حرِّيَّة انتقال المعلومات وتدفُّق رءوس الأموال والسِّلع والتِّكنولوجيا والأفكار والمنتجات الإعلاميّة والثَّقافيّة والبشر أنفسهم بين جميع المجتمعات الإنسانيّة حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد أو قرية واحدة صغيرة ترفع الشركات العملاقة شعار العولمة لتستطيع التَّوغُّل داخل جميع الدُّول بلا قيد”

وهذه العولمة شيء نعيشه اليوم، فماكدونالدز مطعم عالمي، وستار بكس مقهى عالمي، وديور أو زارا ماركات عالمية، وتويتر تطبيق عالمي، وهكذا، يرتبط الإعلام والاقتصاد برباط وثيق بين جميع أنحاء العالم، وهذا بالضرورة ينقل معه الأفكار، فأفكار الناس في المجتمعات المختلفة تتجه للتشابه، فمن كان يصدق يوما أن تنتشر أفكار الإلحاد والشذوذ والنسوية بين عامة المسلمين؟  إن العولمة تخدم الثقافة الأقوى، وهي حاليا الثقافة الغربية وتحديدا الأمريكية.

تعني عولمة الجمال توحيد معنى الجمال ومعاييره لتتوافق مع الذوق الغربي المعاصر، فما استحسنه الغرب يستحسنه الجميع، وما استقبحه الغرب يستقبحه الجميع، وهذا أمر لايتم بالفرض والإكراه، بل بالإقناع عبر وسائل الإعلام والتسويق المختلفة، واستخدام أسلوب الصور والمؤثرات الحسية و التكرار حتى يقتنع المرء بفكرة ما، والأهم أنه يظن أنه اختارها بشكل عقلاني ونقدي، وأنها شيء يخصه ولم يُفرض عليه.

قبل زمن الانفتاح الإعلامي الذي سوَّد النموذج الغربي، كان لكل حضارة مقاييسها الخاصة بالجمال، فالعرب مثلا تغنّوا طويلا بالمرأة الممتلئة، ووصفوها بـ (خرساء الأساور) ! أي أن أساورها لاتصدر صوتا فهي لاتتحرك بسبب امتلاء الذراع 🙂 أما اليوم، فمع الانفتاح العولمي، أضحت معايير الجمال واحدة تقريبا، وسأستعرضها في السطور القادمة بحول الله، ولكن ينبغي استعراض تاريخ الجمال في الحضارة الغربية -ولو بصورة مختصرة- قبل مناقشة النموذج الغربي المعاصر للجمال، لأن فهم الماضي يعين على فهم الحاضر، ومن السذاجة النظر إلى اللحظة الحاضرة دون التمعّن في التحولات التي أوصلتها لما هي عليه.




تاريخ الجمال في الحضارة الغربية:

 الحضارة الغربية قديمة، ويمكن البدء من تاريخ اليونان والرومان، حيث يذكر جيل ليبوفستكي أن هاتين الحضارتين احتفتا بالجمال الذكوري أكثر من الأنثوي، وأن الجسد الرجالي الجميل كان رشيقا بارز العضلات، ولم يغب الاحتفاء بالجمال الأنثوي الذي ركزت التماثيل فيه على الجسد المتوسط البنية وتسريحات الشعر الرومانية، أما في العصور الوسطى فقد أصبحت النظرة لجمال المرأة مرتبطة بمكانة المرأة نفسها، فالدين المسيحي آنذاك يجعل المرأة بشكل عام رمزا للخطيئة، أما المرأة الجميلة خاصة فهي فخ الشيطان، فلم يكن يُنظَر لجمالها إلا بارتباطه بالخطيئة، وتذكر خبيرة التجميل Lisa Eldridge  في تأريخها لفن التزين والماكياج أن المرأة في العصور الوسطى كانت تجعل وجهها شاحبا دلالة على الطهر والتربية الفاضلة .

middle ages

النقطة الفاصلة دوما في قراءة الفكر الغربي هي عصر النهضة، و هو الذي تلا سقوط الأندلس مباشرة، أي في القرن الرابع عشر الميلادي، وبدأ من عاصمة النهضة الأوروبية: إيطاليا، فقد حاولت أوروبا استلهام الحضارة الغربية القديمة، والاستفادة من الحضارة الإسلامية، وتخلصت من كثير من موروث القرون الوسطى، فأصبح ينظر لجمال المرأة نظرة مغايرة، فهذا الجمال نعمة ربانية تتجلى فيها قدرة الله، ولم يكن الدين قد ابتعد تماما عن الحياة في أوروبا آنذاك، بل تم تحييده بطريقة أقرب للصوفية بحسب مايذكر جيل ليبوفستكي، فأصبح تأمل جمال المرأة نوعا من التواصل الروحي مع المقدس، وبرز تقدير الجمال الأنثوي من خلال ازدهار فن البورتريه آنذاك، والذي خلّد وجوه جميلات الطبقة الأرستقراطية، ولعل لوحة الموناليزا أبرز مثال على ذلك.

687px-Mona_Lisa,_by_Leonardo_da_Vinci,_from_C2RMF_retouched
الموناليزا، للإيطالي ليوناردو دافنتشي، 1503 م

كان الاحتفاء بالجمال، والتجمل، مقتصرا على الطبقة الأرستقراطية آنذاك، والمتمثلة بزوجات الملوك والنبلاء، كما حاولت نساء الطبقة الوسطى تقليد نساء الطبقة الراقية، وقد كان الاهتمام مقتصرا على الجزء الأعلى من الجسد، فجمال تقاسيم الوجه، وتورّد البشرة، ونظرة العينين، كان لها النصيب الأكبر من الاحتفاء، سواء من قبل الرسامين أو الأدباء أو المجتمع ككل، ويلحق بها جمال اليدين الناعمتين، أما الجزء السفلي من الجسد فلم يكن يُحتفى به؛ فهو مستتر تحت طيات الملابس المنتفخة، كما كان التجمل أيضا مقتصرا على الجزء الأعلى من الجسد، فقد ظهرت المساحيق البدائية لتبييض الوجه وتوريد الخدود، ولم تكن المساحيق تلقى قبولا اجتماعيا، باعتبارها نوعًا من الزيف والخداع، أما الملابس المنتفخة فقد كانت ضيقة جدا في منطقة الخصر، مما روّج تجارة المشدات التي تخفي الشحوم المترهلة وتظهر الخصر نحيلا، وظل هذا الحال مستقرا إلى نهايات القرن التاسع عشر، و قد توسع جورج فيغاريلو في سرد تاريخ الجمال منذ عصر النهضة  إلى نهايات القرن العشرين في كتاب (تاريخ الجمال)، وتبين الصورتان التاليتان ملابس النساء في بدايات عصر النهضة (الرسم الملون)، ونهايات القرن التاسع عشر (الصورة بالأبيض والأسود)، حيث بقيت ملابس النساء دون تغييير جذري على مدى أربعة قرون، ويمكن للقارئ استنتاج الميل لتخفيف انتفاخ الفستان مع السنوات، وتقصير الأكمام.




القرن العشرون: ثقافة الصورة ومجتمع الاستهلاك:

تشير خبيرة التجميل Lisa Eldrige في كتابها الذي أرّخت فيه لفن التجميل (Face Paint: The Story of Makeup ) في فصل (وسائل الإعلام وإثارة الدوافع) إلى أمر مهم هو أن انتشار ثقافة الصورة أحدث ثورة في عالم التجميل، ففي الماضي، لم تكن النساء تتصور من الجمال إلا ما تعاينه وجها لوجه، أو ما تراه من أيقونات في دور العبادة لم تمثل صورا حقيقية، أما مع انتشار الصور المطبوعة والمرئية، فقد حدثت نقلة نوعية في إثارة دوافع أي امرأة عادية لتصبح مثل النساء الحقيقيات المبهرات اللواتي تراهن في السينما والتلفزيون والمجلات.

إن ليزا هنا، تشير لأهم تحول جلبه القرن العشرون في عالم الجمال والتجميل، وهو جعله أمرا ديمقراطيا، أي مَشَاعًا بين كافة النساء بعد أن كان مقتصرا على الطبقة الأرستقراطية، فقد كانت نساء الطبقة العليا يتباهين بجمالهن وملابسهن وزينتهن دون أن تعلم بقية النساء شيئا عن هذا العالم المخملي القابع وراء أسوار القصور الشاهقة، أما بعد انتشار وسائل الإعلام، فقد أصبحت جميع النساء تطمح لأن تكون مثل نجمات السينما أو جميلات أغلفة المجلات.

ولعلي أوجز التغييرات التي حدثت في القرن العشرين في النقاط التالية:

  • موضة الملابس وتأثيرها على الأجساد:

ظلت الملابس منذ عصر النهضة تدور في فلك الفستان المتكلف، الضيق من الأعلى، والمنفوخ من الأسفل، وبهذا بقيت المرأة الغربية لقرون لا تهتم بقضية السمنة والنحافة، فالجزء الأعلى من الجسد مرتب بالمشد الذي يعتصره ليظهر الخصر نحيلا، أما الجزء الأسفل فقد كان مخفيا تحت طيات أمتار القماش المنتفخة، فلا داعي للاهتمام به، إلا أن تصميم الملابس بدأ يتغير منذ أواخر القرن التاسع عشر، فقد قلّ انتفاخ الملابس، مما أبرز الجزء الأسفل من الجسد، و تبين التصاميم في الصورة القادمة ذلك.

20

واتجهت الملابس مع صعود سنوات القرن العشرين، لتصبح أكثر ضيقا وعريا، وكشفا لأجزاء الجسد، مما جعل الاحتماء بالمشدات وسيلة غير كافية للظهور بمظهر مثالي، فبرزت ثقافة الحمية الغذائية والرياضة كأحد أهم التغييرات في ثقافة الجمال في القرن العشرين، وبدأت مجلات الجمال تقترح على النساء حميات غذائية، وراجت أشرطة التمارين الرياضية، مثل أشرطة جين فوندا في الثمانينات، وهي ممثلة أمريكية اشتهرت بترويجها لثقافة التمارين المنزلية.

  • صناعة السينما والتلفزيون والمجلات وترويج الموضة:

ظهرت صناعة السينما والتلفزيون، وبرزت نجمات مثل: جريتا جاربو، أودري هيبورن، صوفيا لورين، مارلين مونرو، مادونا، وغيرهن، ممن تحولن لأيقونات جمالية مثالية تسعى النساء لاحتذاء حذوها، فما إن ترتدي النجمة زيا، أو تتخذ تسريحة لشعرها، أو تستخدم شيئا من مستحضرات التجميل حتى يغدو موضة تجتاح العالم، وهذه الموضة تتجدد باستمرار من أجل ضمان الاستهلاك الدائم، وبعد أن كانت الموضة تستقر لقرون، أصبحت تتغير كل عقد، ثم يتقارب تغيرها أكثر فأكثر، فغدا مطلوبا من المرأة العادية التي تعتني بمظهرها أن تتابع مظهر النجمات، ومجلات الأزياء، وإعلانات التلفزيون، وتحرص على تحديث خزانتها وطريقة تزينها باستمرار، والصورة التالية تبين محتويات تلك المجلات في بدايات القرن العشرين.

تطور صناعة التجميل وإمكانيات التجمل الهائلة:

تطورت صناعة مستحضرات التجميل في القرن العشرين نتيجة تطور المصانع وارتفاع الإنتاج، بين ماركات باهظة كديور وشانيل وأخرى متوسطة كماكس فاكتور وريميل، لإرضاء كافة الأذواق والمستويات المادية، وساهمت مجلات الموضة والجمال، وإعلانات التلفزيون في إشاعة ثقافة المكياج والتجمل عند السيدات حول العالم، ثم قفزت صناعة التجميل قفزة هائلة بتطور جراحات التجميل بعد الحرب العالمية الثانية، حيث استخدمت في إصلاح التشوهات الشديدة التي تعرضت لها وجوه الجنود في الحرب، ثم استثمرت لاحقا في تجميل الوجوه السليمة وتغيير خِلقتها، فراجت جراحات شد الوجه، وتقويم الأنف وغيرها، وكان الأمر في البداية يتطلب الخضوع لعملية جراحية حقيقية، يتدخل فيها مبضع الجراح، وتستمر النقاهة بعدها فترة طويلة، وبمخاطر عالية، فلم يكن يقدم عليها إلا القلة، لكن الأمر أصبح أسهل مع نهايات القرن العشرين.

  • الحرب ضد السمنة والشيخوخة:

يذكر جورج فيغاريلو أن من أهم الأمور التي رسختها ثقافة التجميل في القرن العشرين وكرست جهودها لها: محاربة السمنة والشيخوخة، واعتبارهما العدوين اللدودين للإنسان، وأن المقاييس المثالية للوزن تتجه لتقديس النحافة أكثر فأكثر.

ولعل القارئ يلاحظ اليوم في مجتمعاتنا أيضا عدم التسامح مع الكيلوات الزائدة، واعتبارها عبئا يجب على المرأة التخلص منه فعليا، ولذلك حتى لو لم تتخلص المرأة من الوزن الزائد، فإن ضميرها يؤنبها، وتلجأ للاعتذار عن جسدها السمين بقول إنها تعتزم الدخول في حمية، أو أنها تعاني من مرض يصعب إنزال الوزن، وإن لم تعتبر هي الأمر مشكلة، فإن المجتمع يتبرع بتذكيرها تلميحا أو تصريحا بوجوب التخلص من سمنتها، وبتغذية هذا الخوف تروج سوق الحميات الغذائية ومنتجات التخسيس وغيرها، وكذلك الأمر بالنسبة لتجاعيد الوجه ومظاهر التقدم في السن، فإعلانات الكريمات المقاومة للتجاعيد تزرع عند المرأة هاجس الخوف من التقدم في السن وفقدان الجاذبية بسبب ذلك، فنجد التوصية باستخدام هذه الكريمات منذ سن 25 سنة، وقد تقدمت وسائل مكافحة السمنة والشيخوخة كثيرا بعد القرن العشرين.




الألفية: صناعة المحتوى وديمقراطية الإعلام:

إن كان القرن العشرون نشر ثقافة الصورة وأشاع الجمال الديمقراطي بين نساء العالم كافة، إلا أن التحكم بالإعلام الجمالي نفسه كان مقصورا على النخبة، لكن الألفية نشرت الانترنت، ثم مواقع التواصل الاجتماعي وأتاحت لكل امرأة فرصة استعراض جمالها، فظهرت في البداية المدونات الجمالية واشتهرت ظاهرة الـ Fashion Bloggers أو الفتيات المدونات المهتمات بالموضة والأناقة وهن من عامة الناس، لسن نجمات سينما ولا تلفزيون، كن يكتبن تدوينات جمالية أو يصورن Vlogs على اليوتيوب يستعرضن إطلالاتهن ومكياجهن واختياراتهن من المنتجات، ثم ظهرت مواقع مشهورة مثل Lookbook تستعرض فيها البنات المهتمات بالموضة إطلالاتهن اليومية، واعترفت مجلات الأزياء بسلطة الإعلام الجديد فأصبحت تخصص صفحات خاصة بإطلالات الـ  Street Style أو إطلالات الشارع، ثم صعدت ظاهرة الفاشينيستا مع انستغرام وسناب شات، وهذا لايلغي تأثير نجمات الأفلام والمسلسلات بل يعززها، ومن الملاحظ مع تقدم السنوات دخول النجمات غير الغربيات كالتركيات والكوريات على خط التأثير، ولكنهن واقعات تحت تأثير الجمال المعولم ذاته.

إذا أردنا دمج تأثير القرن العشرين مع الألفية فسنرى تصاعد ظاهرة التجميل بالتغيير الحقيقي بدلا من التجمل المؤقت، فمن استخدام المشد الضاغط لساعات تتظاهر فيها المرأة بنحافة مزيفة، إلى الاتجاه للحمية والرياضة أو الجراحة من أجل رشاقة حقيقية، ومن تجميل الوجه بمكياج مؤقت يختفي أثره عند غسله، إلى الإبر التجميلية التي تغير الملامح بشكل دائم، ومن تبييض الأسنان المؤقت بمعجون أسنان أو جلسات في العيادة، إلى عدسات الأسنان الصناعية، ومن معاودة إزالة الشعر بالطرق التقليدية مرة بعد مرة، إلى التخلص منه بجلسات الليزر، ومن محاولة الظهور بمظهرٍ شابٍّ باستخدام حِيَل الماكياج إلى إبر البوتكس التي تعطل التجاعيد فعليا، وهكذا، وهذا الأمر أسهم في تغيير الثقافة الجمالية في العالم أجمع، وفي تأسيس صناعة جمال تجعل العيادة والنادي مصنع الجمال بدلا من اقتصارها على صالون التجميل ومحلات الملابس ومستحضرات التجميل كما كان الأمر سابقا، وهذا يعني أن تكلفة الجمال ستقفز قفزات هائلة ماديا، وينبغي أن أنبه هنا إلى أن الممارسات الجمالية وتأثير الصورة والمظهر بدأت تغزو عالم الرجال أكثر فأكثر مع تقدم السنوات.




أبعاد الجمال المعولم:

حاولت في هذه الجزئية تحديد أبعاد الجمال المعولم، فوجدت أنه لا يقتصر على الأبعاد الجسدية، بل يمتد للمظهر وأسباب هذا المظهر، وقد حددتها في أربعة أبعاد، أما معايير الجمال المعولم فهي داخلة ضمن الأبعاد -خاصة الجسدية- وإليك تفصيلها:

1. الجسد المثالي:

فرض الجمال المعولم صورة محددة للجسد الجميل، فهو جسد فارع الطول، بارز الرشاقة، نسبة الدهون فيه محددة ولا يحبذ أن تزيد عن 23% من وزن الجسد، وهذا الجسد ينبغي ألا يكون نحيلا في جميع أجزائه، فالصدر والمؤخرة ينبغي أن يكونا بحجم أكبر، وإن لم يمكن الحصول على ذلك طبيعيا فيمكن تزييفه بالجراحة أو بنوعية الملابس الداخلية المحتوية على خاصية Push Up ، أما بالنسبة لبشرة هذا الجسد فينبغي أن تكون صافية كالمرمر: لاسيليولايت، ولاخطوط بيضاء أو حمراء، ولا دوالي، ولا تباين في اللون بين أعضاء الجسد المختلفة، ولا ترهل، ولا حتى نقط (جلد الإوزة) التي تظهر في منابت شعر الذراعين أحيانا، لون هذا الجسد غير مهم، فكل الألوان مقبولة ومعترف بها من باب التعددية شرط أن يبدو كل لون صافيا لامعا مثاليا.

2. الوجه المحدد الملامح:

الوجه في الجمال المعولم ذو بشرة صافية نضرة، لا أثر فيه للهالات السوداء، ولا الخطوط التعبيرية، ولا الترهل، الحواجب فيه مرتفعة، والأنف صغير ودقيق، والشفتان مكتنزتان، والوجنتان بارزتان، أما الفك والذقن فمحددين بوضوح بحيث يظهر الوجه مربعا، ويستحب أن يزين بغمازة، وكل هذه المواصفات يمكن الوصول إليها بإبر بسيطة عند طبيب التجميل لايستغرق الحصول عليها عدة دقائق، مما جعل ملامح النساء تتجه لأن تكون نسخا متطابقة من بعضها البعض، تماما كمنتجات تخرج من ذات المصنع، لافرق بينها إلا في الرقم التسلسلي، البوتكس جمّد ملامح الوجه وقيّد تعابيره، والفيلر نفخ الوجه، وضاعف حجم الملامح العادية، وكل هذه الإجراءات مؤقتة وباهظة الثمن، ناقشت مرة هذا الأمر مع مجموعة من البنات فقالت لي إحداهن: ” لم أعد أفرق بين فاشنيستا وأخرى إلا بالاسم، فملامحهن أصبحت واحدة”.

3. المظهر المترف:

لايمكن أن تكتمل إطلالة الجمال الأنثوي المعولم دون مظهر مُترَف يشي بثراء صاحبته، فالثراء في عالمنا المعاصر أصبح مرادفا للفضيلة والاستحقاق، والفقر غدا رمزا للعجز والكسل كما يقول آلان دوبوتان، والماركات العالمية هي رمز الثراء والقدرة، لذلك قد تتزين المرأة بقطعة عادية لكن ميزتها الجوهرية هي انتماؤها لدار أزياء عريقة، وتعبيرها عن الترف، والملاحظ في هذا البعد أن البحث عن الماركات لأجل اسمها لاجودتها فحسب، فلو خيرت فتاة بين حقيبتين من بيربري مثلا، إحداهما يتضح فيها شعار الدار، والأخرى لا يتبين لاختارت الأولى، ولو عرضت عليها حقيبة أخرى عالية الجودة والجمال لكن ماركتها غير معروفة في الوسط المحيط بها لرفضتها وقالت: لماذا أدفع مبلغا كبيرا مادام الناس لن يدركوا أنها “ماركة”؟! ولهذا السبب تروج صناعة تقليد الماركات، وتشبّع الإنسان بما لم يُعطَ، لأن قدرا كبيرا من القبول الاجتماعي مرتهن بشعار الماركة الذي ترفعه إعلانا عن قدرك وقيمتك!

4. الاستقلال الاقتصادي:

أثرت حركات استقلال المرأة والمطالبة بالمساواة، على النظر للدور الاقتصادي للمرأة، فهي كائن ينبغي أن يكون منتجا اقتصاديا، ومن غير المقبول أن تبقى في المنزل لتمارس أدوار الزوجية والأمومة المعتادة، بل لابد أن تكون قادرة على الكسب بنفسها، مهما كانت القدرة المادية لأسرتها، ومن الملاحظ أن عالم الجميلات نفسه تأثر بالأمر، فعلى حد وصف المفكر الفرنسي جيل ليبوفستكي في تحليله لتاريخ الترف، لم يعد التجمل بالماركات الثمينة رمزا للمرأة الأرستقراطية التي تنعم بثراء والدها وزوجها، بل أصبح رمزا للاعتماد على الذات في الكسب، حيث الجمال المعزز بالقوة.

و لا يمكن الحديث عن الجمال المعولم، بمعزل عن الرأسمالية والاقتصاد والإنتاج وسوق العرض والطلب، إن صناعة الجمال اليوم تديرها امبراطوريات اقتصادية تعمل في مجال الأزياء والعطور وأدوات التجميل وجراحات التجميل وشركات أغذية الحمية، وتتفرع فروعا لا يمكن إحصاؤها، ويهمها تغير الموضات وربط الجمال باليُسر المادي والقدرة على الشراء.




آثار الجمال المعولم:

  1. الآثار النفسية والاجتماعية:

تدني صورة الذات:

حينما يُطرح النموذج المثالي على النساء وكأنه هو الوضع الطبيعي لأي امرأة، فإنها ترى نفسها في الواقع أقل منه، فجسمها ليس مثاليا، قد تشعرها بضع كيلوات زائدة بأنها تعاني سمنة مفرطة، وقد تحول نحافتها بينها وبين امتلاك التقاسيم الأنثوية التي تراها في الصور، وقد تشكل الخطوط البيضاء التي يخلفها الحمل -والتي لايوجد لها علاج نهائي إلى اليوم- كابوسا في نظرها، وقد يؤرق مضجعها السيليولايت الذي جاهدت في مكافحته دون جدوى، أو الهالات السمراء التي استنفدت كل الحلول دون أن تتمكن من التخلص منها.

إن تدني صورة الذات Self Image  يكاد يكون أشد الأضرار النفسية الناجمة عن عولمة نموذج مثالي للجمال، يصعب الوصول إليه دون إنفاق أموال طائلة، وأوقات عظيمة في العناية المبالغ فيها، فضلا عن تقنيات تعديل الصور وخدع التصوير نفسها، مما يجعل النساء يزدرين نعمة الله عليهن، ويرين أنفسهن أقل بكثير مما هن عليه في الحقيقة، لأن سقف المعايير ارتفع جدا وأصبح أقسى يوما بعد يوم، ولهذا أثر في إضعاف ثقة المرأة بنفسها، وخجلها عند التعامل مع الآخرين، أو حضور المناسبات الاجتماعية، أو الزواج والارتباط بشريك الحياة.

على منصة TED وقفت خبيرة التجميل الإيطالية Eva DeVirgilis في حديث بعنوان In my Chair (هنا) لتقول إن معظم زبوناتها اعتذرن عن عيوب في وجوههن فور جلوسهن على كرسي التجميل أمامها، بغض النظر عن مستوى جمالهن الحقيقي، أو مكانتهن الاجتماعية، أو مستواهن الاقتصادي والتعليمي، بل إن بعضهن متحدثات على منصة TED نفسها! فهن يبادرن بكلمات مثل: عيناي صغيرتان، أنفي كبير..الخ، وأن قلة قليلة من النساء فقط هي التي تأتي لتحظى بتجربة ماكياج مميزة دون أن تجد نفسها مضطرة للاعتذار عن ملامحها، وأن هذه الفئة الأخيرة وإن كانت متفاوتة في جمالها الفطري، ومستواها الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي، إلا أن صفة واحدة تجمع  النسوة فيها: قوة الشخصية!

الأمراض النفسية المرتبطة بالأكل والمظهر:

يعد مرض فقدان الشهية العصبي Anorexia أحد أهم الأمراض النفسجسمية التي ظهرت في الغرب بسبب صناعة التجميل، فالمصابة بهذا المرض لديها خوف زائد من اكتساب الوزن، وترى نفسها أسمن من الواقع بكثير، مما يؤدي بها إلى الرفض التام للطعام، ومن ثم الدخول في مجاعة حقيقية قد تنتهي بالموت، وهو مرض ليس ظاهرا لدينا، لكن خطر الإصابة به مرتبط بهوس النحافة، ومن أشهر من عانين منه الممثلة الأمريكية أنجلينا جولي، وكذلك مرض البوليميا Bulimia وهو مرض معاكس تماما للأول، وإن اتفق السبب، فالبوليميا شره عصبي للأكل، ينتج من اضطراب هرمونات الجوع والشبع نتيجة اتباع أنظمة حمية قاسية، يتبعها إفراط في الأكل، ومن ثم رغبة في التقيؤ من أجل اجتناب زيادة الوزن، ومن أشهر من أصبن بهذا المرض: الأميرة ديانا والممثلة الأمريكية جين فوندا.

تدني مستوى الاهتمامات والطموحات:

 أصبح المظهر على رأس أولويات المرأة، فقدواتها أيقونات جمالية، وأهدافها جمالية، ورغبتها في المال تتزايد من أجل الوفاء بمتطلبات الجمال والمظهر المترف، مما يجعل الأهداف الأخرى في الحياة تنكمش وتتراجع، ومن الطبيعي أن تجد فتاة تكتب أنها حزينة لأن ظفرها انكسر مثلا، و تكمن المشكلة هنا في أن طاقة الإنسان في هذه الحياة محدودة، فإن بالغ في صرفها لأمر واحد، أهمل بقية أمور حياته، وقد عير أحد السلف عن هذا بقوله: “مارأيتُ سرفًا قط، إلا ومعه حقٌّ مضيَّع”!

تهديد المظهر للمكانة الاجتماعية:

تعد الحاجة للتقدير والمحبة والقبول الاجتماعي أحد أهم الحاجات النفسية للإنسان، فإذا كان المظهر المثالي شرطًا في القبول والمكانة، راج سوقه بين أفراد المجتمع، لا لذاته، وإنما للحاجة العميقة في نفس الإنسان للتقدير والقبول والحب، ويظهر ذلك في الخوف المبالغ فيه من التقدم في العمر خشية فقدان النضارة والجمال، فالمرأة في المجتمعات المترابطة تكتسب مكانة أكبر عندما يتقدم بها السن، أما في المجتمعات المعولمة  فالمظهر والقدرة على الكسب هما أساس المكانة، وبذلك تغدو خطوط التجاعيد ومظاهر التقدم في السن كابوسا يقوّض النظرة للذات والمكانة الاجتماعية.

و يرتبط بذلك أيضا، شيوع ثقافة الاستعراض المظهري المتكلف بين أفراد المجتمع، وفي مختلف المناسبات الاجتماعية، وتقييم الذات والآخرين بناء على المظهر والماديات، مما يضعف العلاقات الإنسانية الحقيقية وينشيء بدلا منها علاقات هشة وسطحية وتنافسية تفتقر للرحمة والأخلاق، وينتج عن هذا أيضا المشكلات الأسرية بين الفتاة وأهلها أو المرأة وزوجها، نتيجة المتطلبات الاقتصادية للمظهر الجمالي المعولم، والتي قد لايستطيعها الأب أو الزوج، فالنتيجة مشكلات أسرية واتهام بالتقصير، أو بحث عن مصدر كسب مالي بأي ثمن.

ازدراء الأدوار الفطرية للمرأة:

عولمة الجمال تؤدي لازدراء الدور الطبيعي للمرأة كمنجبة ومربية للأجيال، فجسدها سيتأثر بالولادة والرضاعة، وهي تريد الحفاظ عليه مثاليا، والانشغال بالأولاد وتربيتهم قد يأخذ من الوقت الذي تريد تخصيصه للعناية بنفسها، أو للكسب من أجل إرضاء الطموح الجمالي المثالي لديها، ولذلك نرى في العالم الغربي من تحجم عن الحمل والولادة والإرضاع لأسباب جمالية صرفة، فالمظهر أهم من الغريزة الفطرية في الإنجاب، وهذا الأمر يتسلل شيئا فشيئا للمجتمعات المعولمة.

قلة الرضى عن شريك الحياة:

أختم الأضرار الاجتماعية للجمال المعولم بتأثيرها على نظرة الرجل للمرأة عند اختيار الزوجة، وبعد الزواج، فالرجل المتأثر بماتعرضه وسائل الإعلام، والذي لايمتثل الأمر الرباني بغضّ البصر، سيرتفع سقف شرهه الجمالي إلى مدى أبعد من واقعه، فيحتقر مظهر امرأته، وقد يجهر بعدم رضاه عن شكلها ومطالبتها بأن تكون مثل النموذج الذي يحلم به صاحب السعادة هذا، وقد تفعل المرأة الشيء ذاته لنفس السبب، ومن شأن هذا الأمر تقويض السعادة الأسرية لحد كبير، ويرجع المسيري في حديثه عن الفردوس الأرضي في الولايات المتحدة هذا الأمر لأسباب اقتصادية بحتة فيقول:

“تساهم الشركات المنتجة لأدوات التجميل في تصعيد توقعات الذكور من الإناث، فتضطر الإناث للاستهلاك”

2. الآثار الصحية:

إن ترويج الجمال المعولم للنحافة الزائدة، يزيد معدلات الإصابة بمرض فقدان الشهية العصبي أو مرض الشره العصبي كما أسلفت في الأضرار النفسية، وأضيف لذلك الأضرار الصحية الناجمة عن اتباع حميات غذائية غير مدروسة، وغير متوازنة غذائيا، مما يؤدي لنقص بعض الفيتامينات والمعادن الهامة من الجسم، وبالتالي تساقط الشعر أو شحوب البشرة أو اضطرابات الدورة الشهرية نتيجة اضطراب الهرمونات.

هناك أيضا ضرر صحي شائع ناتج عن تكرار اتباع حميات غذائية غير متوازنة وتعتمد على الحرمان، وهو مايعرف بظاهرة تأثير  اليويو   Yoyo Effect  وهي ظاهرة يتم فيها فقدان الوزن بسرعة ومن ثم إعادة اكتسابه بسرعة، لأن الحرمان يؤدي للشره في الأكل والتعويض العاطفي، ومن ثم يعود الشخص للحمية من جديد، وهكذا يدخل الجسم في دورات متكررة من السمنة والنحافة، والحرمان والشره، مما يزيد الطين بلة.

الاهتمام المبالغ فيه في ملاحقة تقنيات التجميل أدى في كثير من الأحيان إلى التساهل في الإقدام على إجراءات تجميلية ذات مخاطر عالية، والتهاون بنوعية المواد في الإبر التجميلية أو خبرة الشخص الذي ينفذ الإجراء، ومدى حاجة الشخص له وانتفاعه به وآثاره عليه.

3. الآثار الاقتصادية:

تقوم فكرة الجمال المعولم على بذل الجهد والمال والوقت من أجل الوصول للجمال المعياري أو بعضه، والمحافظة عليه، وهذا يستنزف الموارد المالية، فمستحضرات التجميل، والماركات المترفة من ملابس وحقائب وأحذية، ومنتجات الحفاظ على الوزن، وأسعار اشتراك النوادي الرياضية، وكريمات العناية بالبشرة، وإجراءات التجميل من فيلر وبوتكس وتقشير وإبر نضارة وجلسات نحت جسم وغيرها، كلها تتطلب قدرة مادية كبيرة، مما يؤدي لاستنزاف ميزانية الفرد والأسرة، وكل هذه المصروفات متجددة، فموضة الملابس تتغير، ومستحضرات التجميل تنتهي صلاحيتها قبل أن تنفد من علبتها، وإجراءات التجميل في العيادات ذات نتائج مؤقتة، إذ لابد من تجديدها كل ستة أشهر، وهكذا، وصناعة التجميل اليوم تبلغ وارداتها أرقاما فلكية لايتصورها المستهلك العادي، ولكنه يلمس أثرها في عبارة: المال يصنع الجمال!




مزايا الجمال المعولم:

بعد عرض أضرار الجمال المعولم، لابد من عرض مزاياه، ليس من باب الحياد المصطنع، ولكن من باب الإنصاف، وتلمّس الحكمة والنفع، ففي نظري أن أبرز ميزتين في هذا الجمال هما:

1.تعزيز الاهتمام بالصحة:

من مزايا الجمال المعولم، أنه روّج للصحة كوسيلة للجمال، فالمظهر يعكس أسلوب الحياة Lifestyle ، فالنوم الجيد، والغذاء الصحي المتكامل، والرياضة المنتظمة، وشرب الماء باستمرار، كلها تنعكس على الجسد في نضارته ورشاقته، وعلى الشعر في صحته ولمعانه وكثافته، وعلى البشرة في صفائها وبريقها، وعلى الحالة النفسية للإنسان أيضا، فالنمط الصحي للحياة يخفف التوتر، وبالتالي ينعكس على المظهر أيضا، لذلك، نرى اليوم كثيرا من الناس يتبنى النمط الصحي للحياة من باب حب الجمال والمظهر الجيد، أكثر من كونه اهتماما حقيقيا بالصحة ووقاية من الأمراض، وهذا أمر لا بأس به.

2. توسيع فرص الجمال:

لم يعد الجمال اليوم ذلك الجمال الفطري الذي إما أن تولد به المرأة أو لا، فالجمال أصبح صناعة واهتماما أكثر من كونه جمالا في خِلقته الأصلية، فأساليب العناية بالجسد قد انتشرت ولم تعد حكرا على فئة معينة، كل فتاة بإمكانها التعلم والاستفادة من محتوى الانترنت في العناية بنفسها، هذا الأمر يجعل فرص الجمال شبه متساوية أمام البنات، فالمسألة تغدو مسألة جهد ذاتي وبذل أسباب أكثر من كونها أمرا قَدَريّا محضًا لايد للإنسان فيه، فالجمال الفطري الباهر فرصة نادرة في الحقيقة، لكن الجمال المكتسب يمكن الحصول عليه بجهد قلّ أو كثُر، وهذه فكرة ليست جديدة تماما، فجداتنا كان لديهن مثل يقول “شينٍ مجمّل، ولازينٍ مهمّل” أي أن الجمال المتواضع مع الاهتمام أفضل من الجمال الفائق مع الإهمال، ولكن مسألة الاهتمام هذه بلغت إمكانياتها اليوم آفاقا هائلة لم تتخيلها الجدات اللواتي كان أقصى تجملهن حناء وكحل وعطر !

وهاتان الميزتان، أجدهما نعمة على بنات آدم، ومدخلا للتعامل الذكي مع الجمال المعولم بالاستفادة من خيره واتقاء شره، ولكن بعد إعادة ضبط البوصلة.




إعادة ضبط بوصلة الجمال:

أول أمر يجب تأسيس الوعي الجمالي عليه، هو أن الإسلام منظومة ذات مرجعية ربانية، والثقافة الغربية منظومة ذات مرجعية مادية، وهذا الفرق يجب أن يبقى واضحا جليا عند أي اقتباس أو تفاعل بين الحضارتين، ولايكون التشرب الغبي للثقافة الغربية إلا من الانهماك في المشتركات، ونسيان الاختلافات الجذرية.

والنظرة للجمال -في أي حضارة- تنطلق من الأصول الثقافية لهذه الحضارة، ففي العصور الوسطى أهملت المرأة الغربية جمالها وتركت التزين لأن المسيحية الرهبانية آنذاك علمتها أن التزين خطيئة، أما حين تقدمت الحضارة المادية فقد بالغت المرأة في العناية بالجسد لكون قيمة الإنسان في الحضارة المادية تتجسد في كل ما يمكن رؤيته أو لمسه أو شمه أو سماعه، أي إدراكه ماديا بالحواس، أما ماوراء المادة فلا قيمة له، ومن هنا نفهم منطقية المبالغة في تقديس أو تسليع الجسد في الحضارة الغربية.

الأمر غير المنطقي أن تستورد المرأة المسلمة نفس المنطق الجمالي دون أن تسأل: ما الأساس العقدي أو الثقافي الذي سأؤسس عليه مفهومي للجمال؟ هل يمكن أن تكون نظرتي ومعاييري وطقوسي مطابقة لأخرى تؤمن بأننا نعيش للدنيا فحسب؟

يولي الإسلامُ الجمالَ عناية مميزة، لكن الإسلام بطبيعته عصيٌّ على الاختزال في مفهوم قاصر، فهو ليس دينا يهتم بالروح ويهمل الجسد، كما أنه ليس دينا يقدم الجسد على الروح، ولذلك نجد الروح فيه تحتل المقام الأول، ففي سورة الحجرات يتحدد معيار التفاضل وأنه (التقوى) أمرٌ باطني لا علاقة له بالمظهر:  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) 

والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا في الحديث الشريف أن مظاهرنا لاتعني شيئا، فيقول: إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم

لكن هل هذه الصرامة في تحديد معيار التفاضل الذي ينبغي أن ينصرف له جهد المسلم ووقته وطاقته، تعني تجاهل فطرة حب التجمل عند البشر؟ لا، فليس هناك مجال لأن يأتي شخص ويدخل في الإسلام مظاهر الرهبنة، فالله تعالى يقول في سورة الأعراف:  يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32).

  و عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال ذرَّة من كبر! فقال رجل: إنَّ الرَّجل يحبُّ أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ قال: إنَّ اللَه جميل يحبُّ الجمال، الكبر: بطر الحقِّ وغمط النَّاس، لنتخيل الموقف معا: قبل أكثر من 1400 سنة، يعبر الصحابي الجليل للنبي صلى الله عليه وسلم عن حبه للتجمل، وهو رجل ومعروف أن ميل الرجال للتزين أقل من النساء، أضف لذلك أنهم كانوا في بيئة صحراوية أقرب للتقشف والفقر، ومع ذلك يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، ويخشى على نفسه من الكبر بسبب هذا، ثم يطمئنه النبي صلى الله عليه وسلم أن حب التجمل لاعلاقة له بالكبر، بل يزيده طمأنينة بأن الله جميل يحب الجمال! أي طمأنينة تسري في النفس عند تذكر هذه المعاني؟ أي دين يقودك للآخرة ويبيح لك أن تتنعم في طريقك لها بما يوافق فطرتك ويشبع ذوقك؟ ثم لنتأمل الآية قبلها، لنجد الحث على التزين وإنكار من حرمها على الخلق، والتذكير بأنها نعمة للعباد في الدنيا، وأن المؤمن وإن تنعم بها في الدنيا مثل الكافر، فإنها خالصة له يوم القيامة.

ولذلك أستغرب ممن يربط بين التدين وإهمال المظهر، أو بين الجدية وإهمال الزينة، وطوال عملي معلمة للمرحلتين المتوسطة والثانوية، لم أنهَ أي طالبة عن اتخاذ الزينة في المدرسة، وأقول للمعلمات اتركوهن يمارسن فطرتهن في التزين فليس لدينا رهبانية، والمدرسة كلها نساء، وهذه ميزة فريدة لدينا ولله الحمد، حُرمت منها كثير من البنات في مدارس وجامعات العالم الإسلامي بسبب الاختلاط، فيضطررن للتحجب وترك الزينة طوال الوقت، و على مر العصور كان إهمال الزينة والتجمل أحد مظاهر الحزن والحداد وأعراض الاكتئاب، فلماذا نجعله الأصل؟

لكن لنتذكر أن الآية قيّدت الأمر بـ: “ولاتسرفوا”، وأن الصحابي في الحديث كان يخشى على أمر أهم من التجمل، وهو “القلب” الذي هو موضع نظر الرب، فلم يكن التجمل أكبر همه، ولا مبلغ علمه، وإن كان يحبه!

لذلك لابد من إعادة ضبط بوصلة الجمال، بما يلي:

1. النية الصالحة:

 النية الصالحة في الاهتمام بالجسد، فهو مطية الروح، والمسلم يهتم بصحته لهدف أرقى من مجرد المظهر، فهو يعبد ربه بهذا الجسد، والحفاظ عليه صحيحا يساعده في خدمة نفسه وأهله، وفي الصلاة والصيام والعمرة والحج وسائر العبادات، وأنا أشعر بالحسرة حين أرى كبار السن في أوروبا يهتمون بأجسادهم لعمر متقدم بالرياضة والغذاء الصحي ويركضون كالشباب، ثم أجد عددا كبيرا من المسلمين لا يصلي إلا على كرسي، ويعاني أمراضا كثيرة سبب معظمها قلة الحركة ورداءة النظام الغذائي، والمسلم يستشعر نعمة الله عليه عندما يهتم بجسده ونظافته وزينته، وجودة حياة أي مجتمع مرتبطة لحد كبير بالطب الوقائي الذي يعتني بالجسد وصحته قبل حاجته للطب العلاجي.

2. ترتيب الأولويات:

ترتيب أولويات الحياة بحسب ميزان الشرع، فالتقوى والعمل الصالح أولا، والمظهر تاليا، وترتيب الأولويات يمنع الإسراف ويساعد عند اتخاذ أي قرار جمالي، فإذا كانت التقوى مقدمة على المظهر، فلن تقع المرأة في محظور شرعي أو شبهة، ولا محظور طبي أيضا، ولن تقع في الإسراف المذموم بإضاعة الوقت والمال في الاهتمام الزائد بالجمال، وبملاحقة كل منتج جمالي تغريها دعايته لأنها تعلم أن أحد الأسئلة الكبرى يوم القيامة سيكون عن عمرها فيم أمضته؟ وعن مالها مم اكتسبته وفيم أنفقته؟ وتعلم أن لباسها ومظهرها جزء من عملها الذي ينبغي أن تراقب الله فيه قبل مراعاة الخلق.

وترتيب الأولويات يرتب العلاقة مع الناس، فلا يمكن لمسلم قد رتب أولوياته وفق كتاب الله وسنته، أن يحتقر إنسانا لمظهره، أو أن يُعظّم آخر لذات السبب، فالتقدير الاجتماعي يخضع للمعايير المعنوية من قرابة وأخوة وخُلُق وصلاح، أكثر مما يخضع لمعايير مادية قاسية، وهذا التعقل في التعامل صمام أمان للمجتمع ضد الانزلاق في النزعة الاستهلاكية والاستعراض المظهري، لأن جل هذه النزعة نابع من حاجة نفسية عميقة: الحاجة للتقدير والاحترام والقبول!

في كل مرة يرتفع فيها قدرُ إنسان عندك، وتعامله معاملة مختلفة، فقط لأن مظهره أعجبك، ويوحي بتميزه وثرائه، ثم تحتقر آخر لافتقاره لهذه المعايير فحسب، فأنت تعمّق مشكلة الاستعراض وتعززها وتسهم في إفساد القيم، فكل إنسان يتعطش للتقدير والقبول والاحترام، وويل لمجتمع يوجب على أفراده شراء ذلك بالمال !

وإن من ترتيب الأولويات معرفة قدر الدنيا وقدر الآخرة، فنحن وإن كنا في الدنيا نهتم بأجسادنا، ونعتني بها، إلا أن هذه الدنيا ليست سقف آمالنا، ففي الجنة جمال لاتشوبه شائبة، وخلود لا يعقبه هرم، والتوق للجمال والشباب والخلود أمر فطري، إلا أن تحققه التام في الجنة، لا في الدنيا، وحري بالمؤمن أن لايبالغ في اللهاث وراء السراب الدنيوي وأن يقتنع بالمعقول.

3- صيانة الجمال من الابتذال أو التسليع:

 المسلم يكرم جسده، ولا يجعل التمتع بالنظر لهذا الجسد حقا مشاعا لكل من هب ودب، فهناك حدود للعورات، وهناك حجاب فرضه الله على النساء، وأمرٌ بالستر، وهذا كله يصون نعمة الجمال من الابتذال، أما تسليع الجسد فهو التكسب به (التكسب بجماله، لا بكدّه وجهده)، وهو خُلُقٌ لايرضاه إلا وضيع، وأشد صور التكسب بالجسد أن تعمل المرأة في الدعارة، ولكن هناك طيفا واسعا من صور تسليع الجسد ليس بالضرورة أن تصل للدعارة، فعارضات الأزياء و (المودلز) اللواتي يُستخدَمن في جلسات المكياج كلهن يتعرضن لتسليع الجسد، فهذه الممارسات تتفق في كسب المال بسبب جمال الجسد، ومهما تفاوتت التنازلات، فإن التكسب بجمال الجسد أمر حقير ومهين،  والعرب من قبل الإسلام كانت لهم شيم تمنعهم من تسليع أجساد النساء مهما بلغت بهن الفاقة، فمن أقوالهم: “تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها”، وهذا مثل يظل يتردد في ذهني كلما رأيت فاشينستا مسلمة تكسب المال بسبب جمال جسدها وظهورها في الإعلانات، أو إذا رأيت أُمًّا تتاجر بصور جسد طفلتها الجميل وتكسب من ورائه أموالا، للجسد حُرمة، وتسليعه وابتذاله إهانة له ولصاحبه، اكسب من تعب جسدك، لا من جماله!

4. التركيز على البنية التحتية للجمال:

البناء الحقيقي لأي مدينة، يكمن في بنيتها التحتية، لا في أعلام الزينة التي تعلق على شوارعها، والجمال الحقيقي للمظهر كذلك، الاهتمام بالغذاء الصحي، وشرب كميات كافية من الماء، والنوم الجيد والرياضة، علاج أي مشكلة جلدية عند طبيب متخصص، الاهتمام بصحة الأسنان ونظافتها، الاهتمام بمظهر الأظافر الصحي وتقليمها وبردها، ترطيب الجلد باستمرار، الاهتمام بصحة الشعر ولونه ومظهره، أناقة الملابس وملاءمتها للجسد، استخدام المكياج الناعم باحتراف، الهندام والترتيب والنظافة الدائمة والرائحة الطيبة، المشية السليمة والابتسامة، هذه هي البنية الأساسية لجمال المظهر، التي تجعل أي امرأة مرتبة وأنيقة، مهما كانت ملامحها، ومهما كان مستواها المادي، تستطيع كل امرأة الحفاظ عليها، ولن تحتاج معها للوقوع في الشبهات أو الإسراف وإرهاق النفس، و الواقع أن كثيرا من النساء تهمل هذه الأساسيات المجانية لأنها تحتاج صبرا وعناية واستدامة للجهد وإن قلّ، وتظن أن ماينقصها هو إبرة فيلر أو جلسات إبر نضارة أو حقيبة بآلاف الريالات أو طقم ألماس أو كريمات باهظة، وتكتسب السلوك الاستهلاكي الشره دون أن تصل لنتيجة، وهذا خلل في التفكير يشبه من يكون لديه منزل خرب، ويهمل صيانته وتنظيفه ويصر على تزيينه بلوحة ثمينة أو قطعة أثاث نادرة!

في نهاية هذا المقال الذي أشكر للقارئ صبره ووصوله لسطوره الأخيرة، أود القول بأن الذائقة البشرية السليمة لا تنظر للجمال منفصلا عن شخصية الإنسان، فالدمية لها شكل مثالي لكنها تظل دمية جوفاء، فارغة من الداخل، وجمال المظهر يعزز الجوهر القيّم، ويبرزه، لكنه لايقوم لوحده ولا يصمد، ولذلك مهما بلغ اهتمامك بمظهرك، احذري أن تجعليه الشيء الوحيد الذي يعرفك به الناس، وصدقت غادة السمّان حين قالت: ” الكحل ليس مرادفا للتفاهة، التفاهة ألا يكون في عين المرأة إلا الكحل”.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ختام:

أصل هذا المقال لقاء تربوي فكري عن الجمال وعولمته قدمته يوم الأربعاء الموافق 7-11-1440 هـ في جمعية أسرة ضمن برنامج صيف رواء السادس، والذي كان (الجمال) موضوعا رئيسيا له.

 المراجع التي أشرت إليها في المقال:

1- تاريخ الجمال: الجسد وفن التزيين من عصر النهضة الأوروبية إلى أيامنا، جورج فيغاريلو، ترجمة: د. جمال شحيد. الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية.

2- الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية الحديثة، عبد الوهاب المسيري، الناشر: المنظمة العربية للدراسات والنشر.

3- المرأة الثالثة: ديمومة الأنثوي وثورته، ترجمة: دينا مندور، الناشر: المركز القومي للترجمة.

4- الترف الخالد: من عصر المقدس إلى زمن الماركات، جيل ليبوفستكي وإلييت رو، ترجمة: الشيماء مجدي. الناشر: مركز نماء للبحوث والدراسات.

5- قلق السعي إلى المكانة: الشعور بالرضى أو المهانة، آلان دوبوتان، ترجمة: محمد عبد النبي. الناشر: دار التنوير.

6- Face Paint: The Story of Makeup. By: Lisa Eldridge. Publisher: Abrams

7-  TEDEX RVA Women In  my chair: a makeup artists prospective on beauty

لمَ تغضبون من نتفلكس؟

 

 

addiction-1

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قرأت مؤخرا عدة تغريدات تستهجن ماتقدمه شركات إنتاج الأفلام مثل نتفلكس من ترويج للشذوذ أو الإباحية، ونفور الشباب المسلم من هذا أمر جيد ولاشك، ولكن مادمت تتسوّل التسلية على موائد الآخرين فكيف تطالبهم أن يحترموا مرجعيتك؟ من يصنع الأفلام سيروج لأفكاره هو، لا أنت، المشكلة ليست فيما يعرضه، بل في عدم قدرتك على الاستغناء عنه.

هذه شركات رأسمالية، يهمها الربح لا الأخلاق، وهي تابعة لمنظومة سياسية وفكرية تطالبها بإثبات احترامها لأفكار معولمة لا تمت لدينك بصلة، والأمر لم يبدأ من الشذوذ فقط، فمنذ نشأة صناعة الأفلام وهي تخدم فكر صانعها ومنتجها، فما الجديد؟!

هذه المنظومة هي التي روجت -من خلال الأفلام- للإباحية والعلاقات المحرمة والاستهلاك المادي والتفكك الأسري والإلحاد والتمرد على المجتمع بحثا عن الحرية، هي التي شوهت صورة المسلم والعربي، هي التي سعت خلال عشرات السنوات لتقديم فكر مخالف تماما لعقيدتك، وقيمك، وأخلاقك، لماذا تغضب عليها؟ إنها لم تناقض نفسها يوما، أنت الذي خدعت نفسك ورضيت أن تشاهد كل هذا وتستمرئه وتتسلى به لأنه قُدّم لك في قالب قصة مشوّقة وإخراج مُبهر.

القصة أسلوب من أساليب التربية، تستخدمه معك شركات إنتاج الأفلام، لأنها تعلم أنك لاتملك الجَلَد الكافي لتقرأ كتابا يقنعك بالداروينية أو الانحلال، فتقدمها لك عبر قصة مشوقة، الأمر يشبه أن يرفض الطفل شرب دواء، فتضعه الشركات له في هيئة حلوى، أرجوك لاتقل لي أنا أفهم وأستطيع فرز الأفكار، إن قلت هذا فأنت لاتفهم آلية عمل الدماغ، ولا كيف يغسل تكرار الفكرة وعرضها بطرق عدة هذا الدماغ، والواقع أمامك خير شاهد: كلما انفتحنا على الثقافة الغربية أكثر بطرق سلبية ليس فيها تفاعل حضاري جاد، قل التزامنا بديننا وزاد إعجابنا بهم، واعتناقنا لأفكارهم، ليس لأن أفكارهم جيدة، بل لأنهم يحسنون عرضها ونحن لانحسن الفرز، ونتلقى فقط، وهذا طبيعي، فأرجوك دع عنك التظاهر بدور الفلتر لما تشاهده، لأن الواقع يكذبك قبل أن تفكر في الرد أصلا.

هذه الشركات لاتهدف لإقناع عقلك فحسب، فهي تريد جيبك في المقام الأول، أرباح صناعة السينما خيالية، وأجور المخرجين والممثلين وعوائد شركات الإنتاج تفوق الخيال، والأمر الوحيد الذي يريدون ضمانه هو بقاؤك مدمنا مستهلكا، لذلك يبهرونك في كل مرة بقصة أقوى وإخراج أجمل، وأنت باقٍ تنتظر الجديد وتتسلى بالقديم حتى يأتي جديد آخر، ولست وحدك في هذا، فكثير من البشر على هذا الكوكب مثلك، لكنك مسلم ويفترض أنك تفهم أنك لم تُخلَق لحياة بهيمية، وأنك لاترضى أن يكون عقلك مكبّا لنفايات الأفكار التي تلِجُهُ عبر بوابة حواسك.

إدمان التسلية داء عصري بامتياز، فالتسلية ضرورة لاغنى للبشر عنها، لكن ضياع ساعات اليوم وسنوات العمر في التسلية أمر غير طبيعي، الإدمان يجعلك في توق شديد ويضعف مقاومتك، لذلك أرى أن الحل في كسر إدمان التسلية هذا أولا، و محاولة التعافي منه، لا في مجرد طرح بديل نظيف ينقلنا من إدمان مخدرات مغشوشة إلى إدمان مخدرات أصلية، فقد رأينا ماحدث حين طرحت إحدى القنوات (المحافظة) بديلها عن تلفزيون الواقع : ضياع وقت أكثر، وتعلق البنات بالشباب المشاركين في البرنامج، وكذلك مافعلته وسائل التواصل من إدمان تسلية متابعة المشاهير، وماتبعها من انتشار قيم وسلوكيات غير جيدة وضياع أوقات وتشتت لم نشهد له مثيلا، لا أحاول هنا أن أطرح حلولا جذرية، ولا أن أحارب البدائل، ولكن أحاول طرح فكرة بسيطة فحسب: الحياة أثمن من أن تبقى متفرجا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

13- تجربة تحدي الكتابة

 

1f22b484c608df85d3bf96e53b2b3d0e

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في اليوم الثاني من شهر أبريل رأيت وسما في تويتر بعنوان #تحدي_الكتابة، وهو تحدّ تخوضه مع نفسك لمعرفة مدى قدرتك على الالتزام بالكتابة اليومية لثلاثين يوما متتالية، فأعجبتني الفكرة لأن في ذهني عدة موضوعات أود الكتابة عنها لكنني أسوّف وأؤجّل، فرأيت الأمر فرصة لاعتياد الكتابة بوتيرة أسرع، وقد فصّلت الأمر في المقال الأول بعنوان استعن بالله ولاتعجز (هنا).

يقتضي التحدي أن تكتب ثلاثين موضوعا، في كل يوم موضوع، لايهم إن كان طويلا أو قصيرا، المهم هو الالتزام، وها أنا اليوم وصلت لليوم الثلاثين، ولكنني لم أكتب إلا ثلاثة عشر موضوعا، يعني نصف المطوب  تقريبا، فهل معنى هذا أنني فشلت؟ لا أظن، فقد كتبت ثلاثة عشر مقالا بواقع مقال كل يومين ونصف، في حين أنني كنت أمكث شهرا ونصف أو شهرين ولم أكتب شيئا، وهذا بحدّ ذاته إنجاز عظيم ولله الحمد، فماذا تعلمت من هذه التجربة؟ أو ما الذي كنت أعرفه سابقا وأثبتته لي هذه التجربة؟

  • ارفع سقف طموحك:

حين ترفع سقف أهدافك، ترتفع إنجازاتك تلقائيا حتى لو لم تحقق الهدف بالضبط، لكنك ترتفع عن أدائك السابق، وضعت في ذهني ثلاثين مقالا، ولكنني انشغلت أياما، وتكاسلت أياما أخرى، فحققت نصف الهدف، ولو قلت إنني سأكتب كل شهر لما كتبت إلا كل شهرين، وهكذا، وهذا مايسميه علماؤنا الأوائل (علوّ الهمّة) فمن علت همّته زاد استعداده وتحمله وإنجازه، حتى لو يبلغ ما يريد بالضبط، ومن درس علم التخطيط عرف إن إنجاز الهدف بنسبة 100% أمر شبه مستحيل، ولكن القوة في مقاربته قدر الإمكان.

  • استمر، حتى لو تعثّرت:

في الأيام الأولى من التحدي، التزمت فعلا بالكتابة اليومية، لكن بعد بضعة أيام، انشغلت قليلا، فمرّ يوم كامل والذي يليه دون تدوين، لكنني عدت مباشرة ولم أعبأ بأنني فوّت يومين، مما ساعدني على الاستمرار، لم أقل إن الأمر انتهى لأنني خرقت شرطا أساسيا، عدت ببساطة شديدة وكأن شيئا لم يكن، وهذا أحد أهم شروط الاستمرار في إنجاز الأهداف، كثير منا يبدأ حمية غذائية مثلا، ولنقل إنها تقتضي ألا يتناول أي وجبة مفتوحة خلال الثلاثة أسابيع الأولى، لكن يحدث ظرف طارئ يفسد الأمر ليوم فيأكل وجبة مفتوحة ويخرق النظام، بعضنا يشعر بأن الأمر كله انتهى، فيترك الحمية ويعود لسابق عهده، وهذا يفشل في الالتزام، التصرف الصحيح هو أن تعود بسرعة فحسب ولاتتطلب الكمال، فالرجوع عن الخطأ خير من التمادي فيه، والاستمرار في المضي نحو الهدف -ولو بتعثّر- أفضل من التوقف، وقد تحدث الأخ علي محمد علي عن هذا الأمر تحديدا في هذه الحلقة بعنوان: أكمل مابدأت! (هنا).

  • لابد من التعلم بالعمل:

ذكرتُ في المقال الذي بدأت به التحدي، أن الإنجاز يُكسبك الخبرة عن طريق التعلم بالعمل؛ لأن الممارسة المكثفة هي التي تقود للإتقان، حيث تكتشف المشكلات والأخطاء أثناء العمل وتعمل على إصلاحها، ومن الأمور التي لاحظتها أثناء هذا التحدي هي أنني أواجه انفلات قلمي أحيانا للاستطراد بعيدا عن فكرة المقال الأساسية، فأحاول كبح جماحه والعودة به، ولم أكن أشعر بهذه المشكلة سابقا لأنني كنت أكتب على فترات متباعدة.

في نهاية هذا التحدي، أشكر الرائعة أراك الشوشان، ومدوّنتها عليّة (هنا) حيث عرفت التحدي عن طريقها وإن لم تعلم هي بذلك، وأشكر زوار المدوّنة، ومن قرأ المقالات أو نشرها أو علّق عليها أو من أبدى مقترحا أو رأيا، وقد سعدت بهذه التجربة، فالكتابة تبهج النفس رغم الجهد الذي يُبذَل فيها، و سأعود من الغد للوضع الطبيعي بإذن الله بعد جرعة التدريب المكثفة على الالتزام، والتي كنت أحتاجها حتى مع حبي للكتابة، وفي ذهني أن أكتب أسبوعيا كل أربعاء بإذن الله، وأسأل الله أن يكون ما أكتبه نافعا وممتعا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

3- الرهان، حكاية روسية

يتميز الأدب الروسي باهتمامه بسبر أغوار النفس البشرية، وإثارته لتساؤلات حقيقية في نفس القارئ حول النفس والحياة والعلاقات، ومن القصص التي تلفت الانتباه فيه، قصة قصيرة كتبها أنطون تشيخوف عام 1889 بعنوان: “الرهان”، وهي قصة عميقة تجعلك تعيد التفكير في مسألة الوقت، وبماذا نقضيه؟

تبدأ القصة في حفلة أقامها مصرفيّ ثريّ ودعا لها المثقفين والوجهاء، ودار فيها النقاش حول أيهما أهون: عقوبة الإعدام، أم السجن المؤبد؟ وقد كان المصرفيّ مصرّا على أن الإعدام أهون لأنه ينهي حياة المحكوم في ثانية، أما السجن المؤبد فهو قتل بطيء وعذاب طويل، إلا أن محاميا شابا عارضه الرأي بشدة، قائلا إن السجن مهما طالت مدته أخف من الموت، فالحياة بحد ذاتها نعمة، وطال جدالهما ثم انتهى برهان تحدى فيه الصرفي الشاب بأن يسجنه خمس عشرة سنة، ويترك له حرية الخروج متى أراد، لكنه إن قضى المدة كلها فله مليوني روبل، تحمس المحامي الذي كان يبلغ الخامسة والعشرين وقبل التحدي، وكان المصرفي يستبعد استمرار المحامي في التحدي، فهو يرى قبوله له نزوة عابرة فحسب.

سجن المصرفي المحامي في كوخ داخل منزله، وأقام عليه حرسا، وبدأت رحلة السجن، احتار المحامي كيف يقضي هذه السنوات، خمسة عشر عاما، مئة وثمانون شهرًا، خمسة آلاف وأربعمئة وخمسة وسبعون يوما، أكثر من مئة وثلاثون ألف ساعة! كيف يمكنه أن يقضيها لوحده؟ في كوخ ذي غرفة واحدة وبلا أي اتصال مع البشر سوى ورقة يكتب فيها طلباته للسجّان.

يكمن جمال القصة في حيرة السجين في عشرات الآلاف من الساعات، والوقت الطويل الذي كان يمتد بلا نهاية، شعر في البداية بالملل، وصار يجرب العزف على الآلات الموسيقية، ثم وجد أمرا جليلا يقضي فيه وقته: القراءة والتعلم! قرأ في السنوات الأربع الأولى وحدها ستمائة كتاب، ثم تعلم أربع لغات عبر الكتب فقط، وظل يطلب الكتب بنهم ويقرأ بلا كلل، حتى مضت خمس عشرة سنة كاملة، ودخل السجين سن الأربعين، كان مكوثه في السجن بلاشكوى يثير استغراب المصرفي، ثم أثار قلقه حين اقترب الرهان من نهايته، وجاء موعد دفع المبلغ المتفق عليه، والمصرفي قد تغير حاله وأوشك على الإفلاس، وأضحى المبلغ الذي كان يرميه في رهان في الماضي، ثروة عظمى في عينيه اليوم ، صار يتمنى أن يخرج السجين من تلقاء نفسه فيخسر الرهان، أو أن يموت قبل إكمال المدة، إلا أن السجين غارق بين كتبه ومذكراته، فقرر المصرفي قبل يوم من اكتمال المدة أن يبعد الحرس، ويتسلل إلى الكوخ ويخنق السجين بهدوء، لئلا يضطر إلى دفع المبلغ الذي لايشك أن السجين ينتظر استلامه بفارغ الصبر، فقد أمضى في سبيل الحصول عليه خمسة عشر عاما!

 المفاجأة الحقيقية هي أنه عندما دخل عليه وجده قد خرج قبل الموعد بساعات قليلة وخسر الرهان بمحض إرادته، وترك رسالة عميقة يوضح فيها لسجانخ أن ما اكتسبه من العلم والمعرفة في هذه السنين أعظم في عينه من المال، وأنه رغم سجنه في غرفة صغيرة كل هذه المدة، إلا أنه زار بلدان الأرض قاطبة، وجالس الحكماء والعلماء وعرف أخبار الأمم وتعلم لغات عدة، قرأ حتى عاش حيوات عديدة لم يشعر فيها بمضي الوقت، وبالتالي فهو يرى أنه تحرر من النظرة الضيقة للعالم، بينما لايزال سجانه مقيدا في حبه للمال، ولم يتغير تفكيره طيلة هذه المدة!

 

هذه القصة القصيرة تجعلك تعيد التفكير في مسألة الزمن، وبطئه أو سرعة انقضائه، فقد مضى سريعا دون جدوى على السجان، لكنه مضى بطيئا نافعا على السجين، وإني أتساءل: هل كثرة الخيارات والملهيات في حياتنا كأحرار هي التي تجعلنا نضيع الوقت ويتسرب بين أيدينا دون جدوى؟

للراغبات في التدريس أو الوظيفة، أرجوك اقرئي هذا

 

uploads-1475429365793-it_challenges

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

تنشغل العديد من الخريجات هذه الأيام بالتقديم على الوظائف التعليمية، وكلهن أمل بالحصول على وظيفة آمنة، ومرتب ثابت، وعمل تقضي فيه وقتها، كل هذا جميل، لكن قرار الوظيفة -كأي قرار مصيري آخر-  ينبغي أن يدرس بعناية قبل الإقدام عليه، بمعنى أن تجلسي مع نفسك جلسة هادئة وصريحة وتسأليها هذه الأسئلة:

١- لماذا أريد الوظيفة؟ هل لدي هدف واضح؟

٢-ما متطلباتها؟ هل تتوفر لدي هذه المتطلبات؟

٣-ما صعوباتها؟ ما التحديات التي قد تواجهني؟

٤- هل لدي القدرة والاستعداد الكافيين لمواجهة هذه الصعوبات والتحديات؟

٥- ما التنازلات التي ينبغي علي تقديمها؟ وهل لدي الاستعداد لتقديم هذه التنازلات؟

٦- ما مزايا الوظيفة؟ هل سأستشعر هذه المزايا فيما بعد؟

٧- هل لدي تصور واقعي أم رومانسي عن الوظيفة؟

الهدف من هذه الأسئلة والإجابة عليها هو تكوين التصور الواضح عما أنتِ مقدمة عليه، حتى لاتتكرر المآسي التي نراها من بعض المعلمات حين تتحمس جدا للوظيفة وتركز على مميزاتها فقط وتسرف في الخيالات الإيجابية، ثم بمجرد حصولها عليها تصطدم بالواقع وتواجه عدة مشاكل لم تكن مستعدة لها، ومن ثمّ تبدأ في التضجر والشكوى والتظلم والإحباط ومايتبع ذلك من قلق ومشاكل نفسية وأسرية لاحصر لها، فطبيعة الإنسان أنه يسرف في تخيل مزايا مايفقده، لكن بمجرد حصوله عليه تنقشع الغشاوة وتتبدى له الأمور على حقيقتها فإذا هو كثير الشكوى وغير مستعد لدفع الثمن! بعكس من يحمل تصورا واقعيا فهو إما أن يحجم عما لايستطيعه أو يقدم بنفس راضية مستعدة، فالمعلمة التي كانت تحلم بوظيفة ولو على الحدود تكتشف مثلا:

١-أن مسألة الذهاب اليومي للقرية أمر في غاية الصعوبة.

٢-أن الجمع بين التدريس والقيام بحقوق الزوج والأبناء مسألة معقدة جدا.

٣-أن ترك الأبناء عند الخادمة يولد قلقا ومشاكل لاحصر لها.

٤- أن انتظار النقل وعدم حصوله لسنوات متتالية أمر ممكن الحدوث ومعتاد ولاغرابة فيه.

لكن عليها أن تتذكر جيدا الحقائق التالية:

أولا:أن أحدا لم يهددها بالسجن أو القتل والتعذيب إن لم تتوظف، فالوظيفة خيارها الشخصي البحت وعليها أن تتحمل نتائجه أو ببساطة: تتخلى عنه.

ثانيا:أن الزوج والأبناء والأسرة يريدونها زوجة وأما، وأن المدرسة ووزارة التعليم تريدها معلمة، وليس لدى أي طرف الاستعداد للتنازل عن حقه، فهي التي ورطت نفسها في الأمرين معا وادّعت أنها تستطيع القيام بالدورين في آنٍ واحد.

ثالثا: أن مسألة الكسب وجلب المال للأسرة ليست وظيفة المرأة، ولم تُكلّف بها، بل هي وظيفة الرجل، لأن الله عز وجل يعلم طاقة العبد ولايكلف نفسا إلا وسعها.

وهذه النقطة الأخيرة بالذات هي مربط الفرس، فالكثير من النساء تخرج للعمل بحجة أن الأمر بات ضرورة، مع أن باستطاعة زوجها أن يوفر لهم عيشا كريما وإن لم يكن مترفا ومرفها، لكن طموحاتها تجعل من الترف ضرورة ومن الكماليات ضروريات، فتخرج للوظيفة وهي كارهة، وغير مستعدة، وليس لديها الحماس الكافي فهي منهكة جدا، مقصرة في المنزل بحجة التعب في العمل، ومقصرة في العمل بحجة ظروف وأعباء المنزل، فتنتهي بكونها أما محبطة، وزوجة مرهقة، ومعلمة غير منتجة، لماذا؟ كي تتمكن من شراء حقيبة باهظة الثمن، أو بناء قصر منيف في نهاية العمر بعد أن تضيع أجمل سنواته، وهي تظن أنها مجبرة ومكرهة مع أنها من اختار هذا كله!

أنا هنا لا أقول لك لاتتوظفي، لكنني أطلب منك أن تقيمي الوضع جيدا، وتوازني بين المصالح والمفاسد،  وتعلمي أنك حين تختارين الوظيفة فأنت تقبلين ضمنيا مميزاتها وعيوبها وتبدين استعدادك لدفع الثمن، فإن رأيت في نفسك قدرة على قبول التحدي والصبر على المشاق، والاستعانة بالله، فأنا أشد على يدك وأشجعك وأهنئك مقدما وأهمس في أذنك أنك ستستمتعين بتجربة التدريس أيما استمتاع، أما إن كنت ستملئين الدنيا شكوى وضجيجا ونحيبا على ماجنته يداك، وما اختارته نفسك، وتظنين نفسك ضحية، فاتركي الأمر لأهله، فربما شغلت الوظيفة من هي أجدر منك وأكثر تفرغا وأقل انشغالا وأكثر استطاعة على حمل الأمانة وأداء الرسالة.

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ 30/9/2016

سؤال وجواب حول مستوى مخرجات التعليم!

‎باشرت عملي في التدريس عام ١٤٣١ هـ، ومنذ ذلك الحين وإلى الآن وأنا أعاني من نفس المشكلة في مدارس التعليم العام، وقد انتقلت المشكلة للجامعات أيضا، وهي السبب في ضعف المخرجات، وردني هذا السؤال قبل أكثر من سنة، وهذه إجابتي لم أغيّر منها حرفا، وقناعتي هذه لم تتحرك قيدَ  أنمُلة منذ التحاقي بسلك التعليم!

ما رأيك في مستوى الطالبات في السنوات التي قمتِ  بالتدريس بها هل ترين أن مستوى الطالبات بصفة عامة في كل سنه يتطور أم يكون في انحدار وما السبب في رأيك؟

‎بالنسبة لي لست من أنصار تفضيل الجيل القديم على الجديد، ففي كل منهما خير كثير وتقصير كثير أيضا، لكن أجد -بصفة عامة- أن مستوى الطالبات بدأ يهبط لهبوط مستوى التحديات التي تقدم لهن، فأغلب المواد تقدم بشكل سطحي يركز على حفظ المعلومة وليس ممارستها عمليا، ثم إن هناك حاليا (ثقافة سائدة) بين المعلمات وهي تخفيض مستوى التوقع من الطالبات فتقوم بتلخيص المادة العلمية والاقتصار على حفظ الأمثلة دون توسيع أفق الطالبة، فتسهم المعلمة في ضمور عقلية طالباتها لأقصى حد وهي تظن أنها تحسن إليها لأنها تريحها من التعب وتقدم لها الدرجات على طبق من ذهب! تماما كما كان نظام المدارس الأهلية الضعيفة المستوى التي لايلجأ إليها إلا طلاب الدرجات
نعم أعطيتها درجات ولكن هل علمتها حقا؟ هل اكتسبت مهارات تساعدها في المستقبل؟ أم غششتها بإيهامها بتفوق كاذب يفرحها ويريحك من عناء التقويم والمراجعة؟ هل الطبيب الناصح يقدم تحليلا سليما للمريض لمجرد أن يسعده؟ أم يقدم له تحليلا دقيقا ويساعده بمايلزم حالته للوصول للصحة بإذن الله؟ لدى الطالبات عقول نيرة تنتظر من يرتقي بها لا من ينزل إليها لكن ….من يعلق الجرس؟؟

‎أضيف للإجابة السابقة، أن اللوم لايقع على المعلمين والمعلمات فقط، فنظام التعليم حاليا يهدف لتحقيق نسب عالية من النجاح الكمي على حساب النوعي، والدليل مخرجات نظام التقويم المستمر في الابتدائية، بالإضافة إلى التغيرات الثقافية التي جعلت الطلاب وأولياء الأمور يريدون شهادة جاهزة فحسب دون الرغبة في بذل الجهد والسعي لتحقيق التعلم الحقيقي، لنتأمل ظاهرة الغياب المخيفة التي تنهش في شخصية الأبناء على سمع وبصر آبائهم! وهؤلاء الطلاب تتفجر جديتهم وبذلهم عندما يلتحقون بجامعات غربية أو محلية تفرض ثقافة الالتزام والكفاءة في المخرجات، ولا يعنيها كمية الخريجين بقدر مايعنيها نوعيتهم!

‎لكنني أعود لأقول: المعلم هو حجر الأساس، وهو قادر بعون الله على رفع نوعية طلابه والإسهام في تغيير ثقافة الهزال المنتشرة، أستاء عندما تصارحني معلمة بأنها كانت متحمسة في بداية مشوارها ثم صدمت واستسلمت للعرف السائد!

‎ماقيمة الحياة عندما نعيش بقناعات الآخرين؟

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ

افتتاح

السلام عليكم ورحمة الله

على الرغم من كون المدوّنات أقدم وسائل التواصل الاجتماعي على الانترنت وأقلها شيوعا بين الناس، إلا أنها الأحبّ لقلبي، أشعر أن المدونة كالبيت تماما، أكتب فيها المقالات وأرتبها وأصنفها، أستقبل تعليقات الزوار، أجد لحروفي ملاذا آمنا ورحبًا بعيدا عن الزحام، جربت أكثر من منصة تدوين، وفي كل منها مميزات وعيوب، ولعل ووردبرس الآن تكون مقرًّا لي بعد أصبح استخدامها أسهل.

ألِفت الكتابة منذ عمر مبكر، وعلاقتي بها لاتشبه علاقتي بأي شيء آخر، لا أعلم كيف ستكون حياتي لو أزلت منها ( الكتابة )، لطالما كان قلمي صديقي الوفي، ولساني المعبّر، وأثَري الباقي، أنا لا أكتب ليفهم الناس ما أريد قوله فحسب، أنا أكتب لأفهم نفسي أولا، لأرتب أفكاري، وليخرج الضجيج داخل رأسي إلى العالم فأهدأ، ويتسع المكان لضجيج آخر ولأفكار أخرى، الكتابة سجل يوثق ماكنا نفكر فيه ونعتقده في يوم من الأيام، حين أعود لكتاباتي السابقة قبل عدة سنوات أفهم أفكاري حينها، يصبح مادوّنته بمثابة الصورة الفوتوغرافية التي يلتقطها أحدهم للذكرى، وتزداد قيمتها المعنوية في نفسه مع السنوات، إنه يرى فيها نفسه في الماضي بجلاء شديد غير متكيء على ذاكرة قد تخونه وتشوه الصورة الحقيقية، أنا حين أكتب أفهم نفسي الآن، وأجعل لأفكاري صدى عند الآخرين، وتكون كتابتي بمثابة صورة أضمها لألبوم حياتي، كيف سيحدث هذا كله لو لم أكتب وأدون؟

إن من الإحسان العظيم لأي إنسان أن تعلمه هاتين المهارتين: ( القراءة والكتابة) تعلّمه أن يقرأ ويفك شِفرات العالم من حوله، ثم يكتب ليُصدر شفرته الخاصة، أنت تُحسِن له لأنك تجعل له فكرًا يفهم به العالم من خلال القراءة، وتجعل له منبرا يساهم من خلاله في إعادة تشكيل الواقع عبر الكتابة، القراءة والكتابة أمران معنويان، إن من يكتب لايصنع سيارة ولايبني ناطحة سحاب، ولكنه يُشكّل العقول ويغيّر في الأنفس، وهذا الجانب الثقافي أشد أثرا في الأمم والحضارات من الجانب الحضاري المادي، تستطيع أي أمة العيش بصورة بدائية مادامت تملك فكرا وعقيدة، ولكنها تنهار من الداخل إن كانت متطورة في البنيان وضعيفة في الجانب المعنوي.

سأنقل لهذه المدونة مقالاتي القديمة، وسأشير لتاريخ نشرها الأصلي أسفل كل مقال، ثم سأشرع في إضافة المقالات الجديدة وتصنيفها لفئات: تربوي، فكري، تأملات منوعة، ترجمة، كتب،  آمل حقا أن يجد القارئ في هذه المدوّنة ما ينفعه ويرتقي لذوقه، كما أرحّب أشد الترحيب بالتعليقات والملاحظات.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ليلى العصيلي