13- تجربة تحدي الكتابة

 

1f22b484c608df85d3bf96e53b2b3d0e

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في اليوم الثاني من شهر أبريل رأيت وسما في تويتر بعنوان #تحدي_الكتابة، وهو تحدّ تخوضه مع نفسك لمعرفة مدى قدرتك على الالتزام بالكتابة اليومية لثلاثين يوما متتالية، فأعجبتني الفكرة لأن في ذهني عدة موضوعات أود الكتابة عنها لكنني أسوّف وأؤجّل، فرأيت الأمر فرصة لاعتياد الكتابة بوتيرة أسرع، وقد فصّلت الأمر في المقال الأول بعنوان استعن بالله ولاتعجز (هنا).

يقتضي التحدي أن تكتب ثلاثين موضوعا، في كل يوم موضوع، لايهم إن كان طويلا أو قصيرا، المهم هو الالتزام، وها أنا اليوم وصلت لليوم الثلاثين، ولكنني لم أكتب إلا ثلاثة عشر موضوعا، يعني نصف المطوب  تقريبا، فهل معنى هذا أنني فشلت؟ لا أظن، فقد كتبت ثلاثة عشر مقالا بواقع مقال كل يومين ونصف، في حين أنني كنت أمكث شهرا ونصف أو شهرين ولم أكتب شيئا، وهذا بحدّ ذاته إنجاز عظيم ولله الحمد، فماذا تعلمت من هذه التجربة؟ أو ما الذي كنت أعرفه سابقا وأثبتته لي هذه التجربة؟

  • ارفع سقف طموحك:

حين ترفع سقف أهدافك، ترتفع إنجازاتك تلقائيا حتى لو لم تحقق الهدف بالضبط، لكنك ترتفع عن أدائك السابق، وضعت في ذهني ثلاثين مقالا، ولكنني انشغلت أياما، وتكاسلت أياما أخرى، فحققت نصف الهدف، ولو قلت إنني سأكتب كل شهر لما كتبت إلا كل شهرين، وهكذا، وهذا مايسميه علماؤنا الأوائل (علوّ الهمّة) فمن علت همّته زاد استعداده وتحمله وإنجازه، حتى لو يبلغ ما يريد بالضبط، ومن درس علم التخطيط عرف إن إنجاز الهدف بنسبة 100% أمر شبه مستحيل، ولكن القوة في مقاربته قدر الإمكان.

  • استمر، حتى لو تعثّرت:

في الأيام الأولى من التحدي، التزمت فعلا بالكتابة اليومية، لكن بعد بضعة أيام، انشغلت قليلا، فمرّ يوم كامل والذي يليه دون تدوين، لكنني عدت مباشرة ولم أعبأ بأنني فوّت يومين، مما ساعدني على الاستمرار، لم أقل إن الأمر انتهى لأنني خرقت شرطا أساسيا، عدت ببساطة شديدة وكأن شيئا لم يكن، وهذا أحد أهم شروط الاستمرار في إنجاز الأهداف، كثير منا يبدأ حمية غذائية مثلا، ولنقل إنها تقتضي ألا يتناول أي وجبة مفتوحة خلال الثلاثة أسابيع الأولى، لكن يحدث ظرف طارئ يفسد الأمر ليوم فيأكل وجبة مفتوحة ويخرق النظام، بعضنا يشعر بأن الأمر كله انتهى، فيترك الحمية ويعود لسابق عهده، وهذا يفشل في الالتزام، التصرف الصحيح هو أن تعود بسرعة فحسب ولاتتطلب الكمال، فالرجوع عن الخطأ خير من التمادي فيه، والاستمرار في المضي نحو الهدف -ولو بتعثّر- أفضل من التوقف، وقد تحدث الأخ علي محمد علي عن هذا الأمر تحديدا في هذه الحلقة بعنوان: أكمل مابدأت! (هنا).

  • لابد من التعلم بالعمل:

ذكرتُ في المقال الذي بدأت به التحدي، أن الإنجاز يُكسبك الخبرة عن طريق التعلم بالعمل؛ لأن الممارسة المكثفة هي التي تقود للإتقان، حيث تكتشف المشكلات والأخطاء أثناء العمل وتعمل على إصلاحها، ومن الأمور التي لاحظتها أثناء هذا التحدي هي أنني أواجه انفلات قلمي أحيانا للاستطراد بعيدا عن فكرة المقال الأساسية، فأحاول كبح جماحه والعودة به، ولم أكن أشعر بهذه المشكلة سابقا لأنني كنت أكتب على فترات متباعدة.

في نهاية هذا التحدي، أشكر الرائعة أراك الشوشان، ومدوّنتها عليّة (هنا) حيث عرفت التحدي عن طريقها وإن لم تعلم هي بذلك، وأشكر زوار المدوّنة، ومن قرأ المقالات أو نشرها أو علّق عليها أو من أبدى مقترحا أو رأيا، وقد سعدت بهذه التجربة، فالكتابة تبهج النفس رغم الجهد الذي يُبذَل فيها، و سأعود من الغد للوضع الطبيعي بإذن الله بعد جرعة التدريب المكثفة على الالتزام، والتي كنت أحتاجها حتى مع حبي للكتابة، وفي ذهني أن أكتب أسبوعيا كل أربعاء بإذن الله، وأسأل الله أن يكون ما أكتبه نافعا وممتعا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

12-عمل المرأة: لماذا أصبح ضرورة؟

busy mother

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتبت تغريدة في تويتر قبل عدة أيام أبديت فيها استغرابي من الغلو في أهمية عمل المرأة اليوم واعتبار وظيفتها ضرورية كالماء والهواء، حتى إن المرأة التي لم تتوظف بعد تُعدّ في أزمة تنتظر انفراجها، أما من ترفض الوظيفة وتفضّل المكوث في المنزل أو عدم السعي لها فتلك مجنونة، وختمت التغريدة بقولي: ما الذي حل بالناس؟

كانت الإجابة حاضرة في ذهني: الأمر الذي حلّ بالناس هو مجموعة من التغيرات الثقافية والاجتماعية بشأن المال والمرأة والأسرة، اختلفت المواقف التي تبناها الأشخاص الذين تفاعلوا مع التغريدة في الردود أو على الخاص أو في حسابي في صراحة، فمنهم من يؤيد استغرابي ويقول إن التكالب على الكماليات هو السبب، ومنهم من أرجع الأمر إلى احتقار دور ربة المنزل، أما المعارضون فقالوا إن الوظيفة أضحت ضرورة قصوى اليوم بسبب غلاء الأسعار وصعوبة المعيشة واستحالة قيام الأسرة المعاصرة بعائل واحد، ومنهم من قال إن الوظيفة أمان من نوائب الدهر و أن المرأة لا تضمن استمرار زواجها أو وفائه أو حياة والدها، فئة أخرى قالت إن جلوس المرأة في المنزل يعد سلوكا اتكاليا، وأنه من العيب عليها -مادامت قادرة على الكسب- أن تقبل أن ينفق عليها أحد!

هذه الردود -المؤيدة والمعارضة- كلها ردود تعبّر على الأقل عن فهم لطبيعة السؤال المطروح، لكنني واجهت أيضا ردودا غير منطقية، تنمّ عن استعجال شديد ورد قبل الفهم -كما هي العادة في تويتر للأسف- هذه الردود فهمت من استغرابي من تعاظم أهمية عمل المرأة أنني أطالب بإلغاء الوظائف النسائية وأطلب من جميع النساء التخلي عن جميع الوظائف،  مثل:

  • لماذا توظفتِ إذا مادمت ترين الوظيفة عيبا؟ (متى قلت إنها عيب؟!)
  • هل تريدين من المرأة المحتاجة أن تتسول في الشوارع بحثا عن لقمة عيش لها ولأبنائها؟ (كيف قفزتم لهذا الفهم؟)
  • ليس كل الناس مثلك أثرياء! (من قال إنني ثرية؟)

كثير من الردود المؤيدة لضرورة عمل المرأة انطلق أصحابها من أهمية الوظيفة على المدى القصير في كون أهميتها نبعت من الاحتياج المالي المعاصر وتعقيد الحياة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا، بدليل أننا نرى اليوم كثيرا من بنات وزوجات المقتدرين والأثرياء يسعين للوظائف سعيا محموما مماثلا لغيرهن، وأن النساء اليوم يقبلن بوظائف مُهينة أو مختلطة لم يكنّ ليقبلن بها قبل عدة سنوات ولو كُنّ أشد فقرا.

إن اختزال تعاظم أهمية عمل المرأة اليوم في مسألة الاحتياج المالي والتغيرات الاقتصادية نوع من التسطيح، يجعلنا لاندرك جذور الأمر ولا ثماره، ولايمكن أن يقول به إنسان يدرك أسباب التغير الثقافي والفكري للمجتمعات، ويدرك دور الآلة الإعلامية في محو ثقافة الشعوب وإحلال ثقافة أخرى بديلة محلها، من المهم أن نمارس مهارات التفكير العليا، أن ننظر للأمر من الأعلى لندرك جذور هذا التغير، ومظاهره وثماره، لأن المجتمعات الواعية فقط هي القادرة على الإصلاح والتغيير، أما المجتمعات التي تستسلم للتغيرات دون أن تعيها، أو تفكر في قدرتها على نقدها وتعديلها، فستبقى ضحية لها.

هناك أربع أفكار مترابطة يمكن أن نُرجع لتغلغلها في المجتمع كثير من التغيرات الثقافية ومنها اعتبار وظيفة المرأة ضرورة، وسأعرضها في هذا المقال بشكل مبسط بعيدا عن اللغة الأكاديمية أو الفلسفية، لأنني على قناعة بأهمية وعي جميع الناس لمظاهرها وتأثيراتها، ولعلها تقود القارئ للتوسع في البحث حولها فأنا لن أستطيع في مقال أن أفصّل جذورها وتأثيراتها، إنما أردت لفت الانتباه لعمق الموضوع وأهميته، هذه الأفكار منتشرة فعلا بيننا لكننا نظنها أحيانا مجرد تغير اجتماعي عفوي، ولا ندرك جذورها الفلسفية العميقة، وكما قال رتشارد تارناس، مؤلف كتاب آلام العقل الغربي: “لابد لكل جيل من أن يُعاين ويُقلّب مرة أخرى، من موقعه المميز الخاص، جملة الأفكار التي شكلت فهمه للعالم” لهذه الأفكار علماؤها ومنظّروها، ومروّجوها في العالم، وبالتالي ينبغي أن لا نتعامل معها على أنها قدر محتوم، بل أفكار لنا الحق في رفضها أو قبولها أو تعديلها:

1- المادية Materialism:

تقوم الفلسفة المادية على تعظيم أهمية المادة بدلا من العقل أو الروح، فلا يهم ذكاؤك وعلمك، أو تدينك وأخلاقك، قيمتك تتحدد في الماديات التي تتملكها: منزلك، سيارتك، أثاث بيتك، نوعية ملابسك، تتبين لك مظاهر الفلسفة المادية عندما تتابع مشاهير انستغرام وسناب شات مثلا، فقد بنوا شهرتهم على مايمتلكونه من ماديات: سفر، مطاعم، مجوهرات، قصور، ماركات عالمية، وكل مظاهر الحياة المترفة، عندما يتعرض عامة الناس ليوميات هؤلاء، فإنهم يتأثرون تدريجيا، ويزهدون في معيشتهم، وبالتالي تشعر المرأة أن نفقة والدها أو زوجها غير كافية، فطموحاتها ومعاييرها أكبر بكثير، فتصبح الوظيفة ضرورة قصوى لإشباع الحاجة للماديات.

إن الفلسفة المادية متجذرة في البشر، لكنها في الوقت المعاصر أصبح لها آلة إعلامية ضخمة تخدمها وتروّج لها، وشركات عالمية تستفيد اقتصاديا من بث النهم الاستهلاكي في الناس، وإبقائهم زبائن جائعين للسلع والكماليات باستمرار، ترتبط المادية بالرأسمالية والهوس الاستهلاكي، وهذه المادية أحد أهم أسباب توق النساء لدخل مادي خاص لم تكن معظمهن بحاجته قبل سنوات قليلة، كما أن النهم الاستهلاكي أثّر على الثقافة المالية للأسرة، فأصبحت بعض الأسر غير قادرة على الادخار للأمور الأساسية كبناء مسكن مثلا أو تسديد فواتير الخدمات الأساسية، ومضطرة للاستدانة نهاية الشهر رغم ارتفاع الدخل، لأنها تنساق مع الكماليات والمظاهر وتبذل فيها معظم دخلها، وبالتالي يظن أفرادها أن الحل في توظيف المزيد من أفراد الأسرة بدلا من معالجة الخلل الأساسي، مع أننا نرى اليوم أيضا أسرا تمتلك المسكن والحياة الكريمة -غير المسرفة- وليس لها عائل إلا الأب وبوظيفة عادية،  في كثير من الحالات يعود الأمر لحسن تدبير المال لا إلى مقداره، فالحل ليس في إضافة عبء جديد للمرأة وإشعارها بأن أسرتها مضطرة لوظيفتها، بل في تثقيف الأسرة وتوعيتها.

2-الليبرالية Liberalism:

يقوم الفكر الليبرالي في الأساس على الحرية والمساواة، لا على العدل والحق، فحرية الفرد مقدمة في الفكر الليبرالي على تماسك المجتمع، وتعطيل المرأة عن العمل عندهم يعني ظلم النساء وفقرهن وحصر المال في أيدي الرجال، إذ لابد من المساواة في ذلك، وليس هناك وظائف مخصصة للنساء وأخرى للرجال، فالمساواة تقتضي أن كل عمل يعمله الرجل، فإن من حق المرأة القيام به، والعكس صحيح، فلابد للرجل من أن يتقاسم عمل المنزل مع المرأة، ولابد من تمكين المرأة من مهن الرجال كأن تكون جنديا في حرب، أو لاعبا لكرة قدم، أو عاملة في محل إصلاح سيارات أو بائعة في سوبرماركت، أو حارسة أمن، وقِس على هذا عشرات المهن التي بدأت تُسوّق لبناتنا اليوم.

3- النسوية Feminism:

النسوية فكرة ولدت من رحم الليبرالية، ولكن مطامعها أعلى، فهي لاتطمح للمساواة فحسب، بل لاستقواء النساء في العالم، يمكن تلخيص فكرة النسوية بأنها محاولة لنبذ قوامة الرجل في الأسرة، وإقامة حياة المرأة على أساس الاستغناء عن الرجل، فربة البيت التي تحتاج النفقة من زوجها، ذليلة في نظرهم وخاضعة للنظام الذكوري أو السلطة الأبوية، وعليها فورا أن تبحث عن مصدر رزق يجعلها قادرة على الاستغناء عن ولي الأمر، فالاستقلال المادي بوابة الاستقلال الحقيقي عن سلطة الرجل، ولاتعترف النسويات -أو النسويون- بتكامل الأدوار في الأسرة، بل لابد من (تمكين المرأة) وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في مؤتمر السكان والتنمية عام 1994 ثم ألِفَتهُ الأسماع بعد ذلك دون الانتباه لدلالاته الحقيقية وآثاره، وقد ارتبط هذا المصطلح بالتنمية الاقتصادية، حيث تُقاس فاعلية الفرد في المجتمع بمدى قدرته على كسب الدخل المادي فحسب، فربة المنزل تسمى عاطلة لأنها لاتكسب كسبا ماديا، أما دورها المعنوي في بناء الأسرة ورعاية المنزل وتربية الأبناء فلايعد شيئا لأنه لايمكن قياسه بلغة الاقتصاد والمال.

ويمكن ملاحظة تأثر المجتمع بهذا الفكر من انتقال مركزية الزوج والأولاد في حياة المرأة المسلمة إلى مركزية الوظيفة، ففي السابق كانت مكانة المرأة يحددها من هو زوجها وكم عدد أولادها، أما اليوم فالمكانة تتجه لمنصبها الوظيفي أكثر، وبالتالي قلّ الحرص على تأمين مستقبل المرأة بزوج وعدد كبير من الأولاد يجنبونها غوائل الزمن، وانتقل شعور الأمان إلى الوظيفة ومستواها المادي، وأصبح الوالدان لايطمئنان على ابنتهما بزواجها وإنجابها كما كان الأمر سابقا، بل بتأمين وظيفة لها، كما انتقلت الأسئلة الفضولية في مجتمعات النساء من الاستفسار عن سبب تأخر الزواج أو الإنجاب، إلى الاستفسار عن سبب الجلوس بلا وظيفة، كما انتقل شعور الحسد من نوعية الزوج وعدد الأولاد إلى نوعية الوظيفة ودخلها المادي، أما الطلاق فقد قلّت الحساسية منه وانتقل التجريم إلى الاستقالة أو التقاعد المبكر، أنا لا أؤيد اعتبار الزوج والأولاد أمانًا، فالأمان من الله، لكنني أتأمل تغلغل الفكر الغربي إلى مجتمعنا المسلم المحافظ، واحتلال الوظيفة لمكانة الأسرة وقفزها لتكون أولوية في حياة المرأة.

4-التقدمية Progression:

التقدمية هي الفكرة الغبية الأم التي تسوق لكل الأفكار الثلاث المذكورة أعلاه، فملخص التقدمية هو الإيمان بأن الأفكار الجديدة هي الصحيحة، وأن الأفكار القديمة هي الخاطئة، وأن مايفعله الناس في عام 2019 أفضل وأعقل وأرشد مما كان يفعله الناس عام 1950 مثلا، ولذلك تروج الأفكار الثلاث الأخرى لأنها حديثة، ومن ثمّ لابد لك من استبدال قناعاتك القديمة البالية حول الأسرة والمرأة والمال بقناعات أخرى جديدة تلائم العصر، لأنها جديدة ولأن العالم يتقدم للأفضل بلا شك، وقد فصّلت الحديث عن الفكرة التقدمية في مقال سابق (هنا).

كثير من الناس في مجتمعات المسلمين قد تشرّب هذه الأفكار الأربع أو بعضها -بدرجات متفاوتة- تدريجيا و خلال سنوات طويلة، لقد تغلغلت في أذهاننا بطريقة ناعمة، عبر المسلسلات والأفلام ووسائل التواصل الاجتماعي والكتب والروايات والاختلاط بالمجتمعات الأخرى، ثم بمشاهدتها على أرض الواقع، والتسليم بهذا الواقع كأمر ينبغي مجاراته واللحاق بركبه بدلا من نقده وتمحيصه وامتلاك حرية رفضه أو تعديله، إننا مجتمعات تابعة -ولابد من الاعتراف بهذا- نستقبل مايرد إلينا دون أن نحاكمه بدقة إلى مرجعيتنا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أحيانا بسبب الجهل بأحكام الشريعة وإهمال تعلمها، وأحيانا أخرى بسبب الانبهار بالأفكار الجديدة وعدم الرغبة في نقدها؛ لأن نقدها يعني إمكانية رفضها، ورفضها يعني أن نوصم بالتخلف وهو وصف نحاول الفرار منه بسبب الشعور العميق بالنقص أمام المُنجَز المادي الغربي، وخضوعنا له حتى في تعريف التقدم والتخلف.

هذه المفاهيم المذكورة أعلاه تخالف أصول الإسلام وثوابته ولا يغرّك أن بعض تفاصيلها موجود في الإسلام، فالإيمان بالفكرة المادية يعني تقديم الدنيا على الآخرة، والمادة على الروح، كما أن الفكرة الليبرالية والنسوية تنسف نظام الأسرة والميراث والحقوق والواجبات الثابتة شرعا بين الزوجين، فأدوار الرجل والمرأة في الأسرة في الإسلام قائمة على العدل لا على المساواة، فكل منهما يسد ثغرا مختلفا عن الآخر، وكل منهما يكمّل دور الآخر ولايطابقه، أما الفكرة التقدمية فهي تفرض أن الحكم على الأفكار بالرفض والقبول عائد لزمنها لا إلى مصدرها، فإذا كان الإسلام يوجب النفقة على الرجل ويجعل له القوامة على الأسرة، فإن الفكرة التقدمية تقتضي أن نرفض هذا وأن نساير الفكرة الأكثر حداثة: فالمرأة مسؤولة عن نفسها، وليس للرجل عليها أي قوامة، لماذا؟ لأن الفكرة الأولى قديمة وقد انتهت صلاحيتها، والفكرة الجديدة طازجة وصالحة للاستخدام، هكذا ببساطة ! وهذا مايفسر لك الانفصام الذي يعانيه كثير منا، فهو مسلم يحب الله ورسوله، لكنه -شعر أم لم يشعر- يتبنى أفكارا مخالفة لثوابت الإسلام ويعتبرها من المسلّمات لمجرد أنها أكثر حداثة، ثم يحاول ببؤس شديد أن يُحدِث بينها وبين الإسلام تلفيقا مصطنعا ليرتاح من تأنيب الضمير.

أرجو أن يكون القارئ أعقل من أن يستنتج أنني أرفض سعي النساء للتوظيف، فالإسلام لم يحرم كسب المرأة للمال: إما بالعمل، أو الميراث، أو التجارة، أو الهبة، وترك لها حرية التصرف في مالها، وأوجب على زوجها النفقة عليها حتى لوكان فقيرا وهي غنية، كما أن حديثي لايشمل الأسر التي لا عائل لها إلا المرأة،  ما أريد لفت الانتباه إليه في هذا المقال هو أننا قبل الانفتاح الإعلامي الذي شجّع تدفق الأفكار السابقة إلى اذهاننا دون وعي، عشنا منسجمين مع ذواتنا، فلم تكن وظائف النساء ممنوعة: كان منا المعلمة، والطبيبة، وأستاذة الجامعة، وسيدة الأعمال، والبائعة في منزلها، لكن المنطق الفكري الكامن خلف وظائف النساء اختلف اليوم وتأثر بالأفكار المذكورة أعلاه: أصبحت الوظيفة اليوم وسيلة لإشباع النهم الاستهلاكي، فنفقة الرجل لم تعد كافية لإشباع الرغبات المتزايدة، كما أصبحنا نرى استسهال القبول بوظائف مُهينة ولاتناسب طبيعة المرأة وتفرض عليها الاختلاط بالرجال، وأصبحنا نرى من تسعى للوظيفة طلبا للاستقلال عن سلطة الأسرة وولي الأمر، وتعتبر إنفاق وليها عليها ذُلّا واتكالية مع أنه حق لها ليس لأحد فيه مِنّة، حقّ مشروع تماما كحق الموظفة في استلام راتبها من جهة عملها، والأهم من ذلك كله: أننا فقدنا الخيار المترف الذي كان يميزنا عن الرجال، كانت نساء الطبقة المتوسطة مثلي تختار أن تتوظف أو لا تتوظف، كنا نقيّم الوظيفة ثم نقرر رغبتنا في الالتحاق بها من عدمه، دون أن يلحقنا لوم أو تقريع، لأننا لم نكن تحت أي ضغط فكري وإعلامي يخبرنا أن الوظيفة أولى الأولويات، وأن الجلوس في المنزل يعني العطالة أو الذل أو الاتكالية، بعكس النساء في السنوات الأخيرة، فهن يشعرن بأن الوظيفة ضرورة قصوى، فيغرقن في متطلباتها ومتطلبات المنزل والأولاد الأخرى مما يسبب شقاء بالغًا كان بإمكانهن تجنبه لو عرفن أن الوظيفة اختيار لا اضطرار، وقد تناولت هذا  في مقال سابق (هنا).

إن السعي المحموم لتوظيف النساء وإقناعهن بضرورة الاستقلال المادي عن الأولياء، والتقليل من شأن دور المرأة في بيتها، وقبول أي وظيفة حتى لو لم تناسب طبيعة المرأة، له آثار سيئة على المجتمع، ومن المعروف أن سبيل هدم أي مجتمع هو هدم النظام الأسري فيه وتفكيكه، وهو ليس أمرا عفويا، إنه أمر عُقِدت له المؤتمرات والاتفاقيات لسنوات عديدة، وسُخّرت له وسائل الإعلام لعقود، نحن الآن أمام تغيرات فكرية واجتماعية كثيرة ينبغي أن نتوقف لنعيها وندرك جذورها وثمارها لنستطيع تعديلها بما يتفق مع مرجعيتنا الإسلامية، لا أن نستسلم لها وننقاد، لابد أن ندرك أننا نمتلك الخيار للتغيير وإعادة هندسة حياتنا كما نريد، لا كما يُراد لنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

11- يريد الله بكم اليُسر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يكثر اليوم الحديث عن أن الإسلام “دين اليُسر”، ويمتطي هذا القول أقوام لشرعنة الشهوات والشبهات وتطويع الشريعة لهوى النفوس، لكن اليُسر في الإسلام ليس مقصوده تطويع الشرع لهوى النفوس، بل مقصوده الأعظم: تيسير الاستقامة على الصراط المستقيم، بمراعاة طبيعة البشر مراعاة دقيقة، وهذا معنى ينبغي أن ننتبه له لنفهم يُسرَ الشريعة فهما صحيحا، ولعلي أوضّح ذلك في السطور التالية.

من رحمة الله بالخلق أن جعل فطرة التوحيد هي الأصل في نفوسهم، ثم أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن الحق أشدّ بيان، وختم الرسل والكتب بخير الأنبياء وأكمل الكتب، وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: “تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك”، كل ذلك لنسنتبين الصراط المستقيم، فلا ينحرف عنه إلا ضالّ، وجعل الله الشريعة مُيسّرة لنا ملائمة لطبيعتنا البشرية، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟

والشريعة في مجملها: أمرٌ ونهي، فإما طاعات نؤمَر بأدائها، أو معاصٍ نُنهى عن فعلها، فكيف جعل الله الشريعة ميسرة في ذاتها، مُراعية للطبيعة البشرية، مُساعدة للإنسان ليأتمر بالأمر وينتهي عن النهي بيسر وسهولة؟

في جانب الأوامر، يسّر الله علينا القيام بها، فلم يكلفنا ما لانطيق، فالصلاة مثلا، يؤديها كل مسلم بحسب وِسعِه: قائما أو قاعدا أو مضطجعًا، والوضوء كذلك: فقد يشق الوضوء بالماء لعدمه أو ضرره، فشرع الله التيمم تيسيرا للعباد، وكذلك شرع الفطر والقضاء للمريض الذي يُرجى برؤه والحامل والمرضع،  وربط تكليف الحج بالاستطاعة، وتكليف الزكاة ببلوغ النصاب، وأسقط فرض الجهاد عن العاجز والأعمى ومن هو في مثل حالهم، وشرع الجمع والقصر في حال السفر، وجمع الصلوات في حال المطر الشديد، والقائمة تطول في أمثلة تيسير الله للطاعات على عباده كلٌّ بحسب حاله: والمراد من ذلك كله ليس اتباع هوى النفوس في الرغبة في التخفيف، بل تمكين المسلم من طاعة ربه بحسب حاله، فيبقى مطيعا لربه، مستقيما على الصراط المستقيم، بحسب استطاعته، وهذا تيسير عظيم لسبيل الجنة، ومراعاة لظروف البشر على اختلافها، لايمكن أن تصدر إلا من حكيم خبير.

أما في جانب النواهي، فقد يسّر الله علينا تجنب المعاصي بسُبُلٍ شتى، وقد راعى في ذلك طبيعة النفس البشرية مراعاة دقيقة تعجز عنها أرقى مدارس الطب النفسي، أو مؤسسات الإصلاح المجتمعي ومكافحة الجريمة، فلأن الله يعلم أن طبيعتنا البشرية تميل للشهوات، ونفوسنا ضعيفة، لايكفيها الإيمان القلبي وحده للكفّ عن المعاصي، فقد يسّر لنا اجتناب المعاصي بسدّ ذرائعها الموصلة إليها، فحين حرّم الزنا، حرّم  سُبُلَهُ المفضية إليه: من إطلاق البصر، وخلوة المرأة بالرجل الأجنبي عنها، والخضوع بالقول، وفرض الحجاب، وكل هذه أوامر قد يراها الإنسان قيودًا، لكن في حقيقتها تيسير ورحمة، ففي مجتمع يسوده الحجاب، وتُغَضُّ فيه الأبصار عن النساء أو الصور المحرمة، سيكون اجتناب الزنا يسيرا لايحتاج عزيمة قوية، أما في مجتمع لايقوم بشرع الله، ويتعرض فيه الناس للفتن طوال الوقت فلن يصمدوا طويلا، ستنهار دفاعاتهم الإيمانية ويقعون في الحرام مع كثرة الأسباب الداعية إليه، ويكون عسيرا عليهم اجتنابه، وبذلك يكون التيسير في هذا الجانب بالتحريم لابالتحليل، لأن الله أعلم بطبيعة النفس البشرية، هنا يعلم الإنسان أن المؤسسات الإعلامية التي تتفنن في إثارة الشهوات بزعم تسلية الناس، إنما تُمعِن في إفساد المجتمع، وتعسير الاستقامة على الصراط المستقيم، والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28).

إن الله حين أباح الحلال، يسّر سُبُلَه، وحين حرم الحرام، سدّ ذرائعه، كل ذلك تخفيفا منه ورحمة وتيسيرا، لكننا نخالف أمر الله تعالى ونعكس الحال، فيصبح من العسير اجتناب المحرم، وقِس على المثال أعلاه أمورا شتى: فالتهاون في الالتزام بالشرع -والذي يُفعل بزعم تيسير الدين-  يجعل من العسير اجتناب المعاصي، فالتهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشيوع الفساد الإعلامي، والتهاون في ارتكاب المنكرات بدءً بصغيرها وانتهاءً بكبيرها، ينشر المعاصي في المجتمع فيعسُرُ اجتنابها، وتعسُر تربية الأبناء على القيم الإسلامية الصحيحة.

ما أريد قوله هنا هو أن يُسر الشريعة أمر لايقاس بمدى مطابقتها لهوى النفوس، فقد علِمنا من رسولنا الكريم أن الجنة حُفّت بالمكاره، وأن النار حُفّت بالشهوات، ولو كان معنى اليسر موافقة هوى النفوس لانقلبت الشريعة رأسا على عقِب، قال القرطبي رحمه الله: “وحاصل الأمر: أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سُنَّته، ولا على منهاج شريعته”.

إن اليسر في الإسلام يهدف لتيسير سبيل الاستقامة على الصراط المستقيم، وبذلك نفهم التيسير في التحريم، كما نفهمه في الإباحة، وندرك أن كثيرا من قيود الشريعة  تيسير لنا لا تعسير، حتى وإن كان فيها مخالفة لهوى نفوسنا، لأن الرجوع في بداية مشوار الخطأ أيسر من الرجوع عند التمادي فيه وامتلاء النفس به، والله تعالى يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ  الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).

ألم يقل لك أخصائي التغذية يوما إن مما يساعدك على الالتزام بالحمية الغذائية أن تُخرِجَ أكياس البطاطا المقلية من منزلك، وأن تحذف حسابات المطاعم من قائمة متابعتك، لأن وجودها يغريك ويضعف إرادتك؟!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

10- إنما النصر مع الصبر!

الصبر

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تأملت يوما في سبب الفلاح في أمور الدنيا والآخرة، فوجدت أن له معادلة واضحة: حبس النفس عن لذّة عاجلة صغرى، من أجل تحصيل منفعة آجلة كبرى، وهذه المعادلة تصحّ على كل فلاح: الفوز بالجنة والنجاة من النار،  التقوى و الاستقامة، تزكية النفس، حسن التعامل مع الناس، الإنجاز العلمي، حسن تدبير المال واستثماره، حفظ الوقت، حسن التعامل مع المصائب، الحفاظ على صحة البدن…. وخلافها من مؤشرات الفلاح الدنيوي أو الأخروي، والتي نطمح جميعا لتحصيلها، ووجدت أن صفة جوهرية تمثّل أساس الفلاح وتحقيق هذه المعادلة، هذه الصفة هي: الصبر، والصبر في اللغة: الحبس والمنع، والعقل كل العقل في الصبر، فالعقل معناه الحبس والمنع أيضا!

إن الاستقامة على شرع الله تتطلب الصبر: الصبر على طلب العلم الذي تعرف به الأوامر والنواهي، ومنه تكرار تلاوة القرآن وسماعه وكذلك الحديث النبوي، والصبر على العمل بهذا العلم: من اتباع الأوامر واجتناب النواهي، ومنه الصبر على المصائب، فالنفس تكره التكليف، وتحب الشهوات، وتبغض المصائب، ولا يقيمها على مُراد الله إلا الصبر، الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر عند نزول المصائب،  إن الإسلام كله يتطلب الصبر على مقتضى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: في اعتناقها، والتمسك بها، والعمل بمقتضاها ومصارعة هوى النفس، وشياطين الجن والإنس الذين يصدون عن الصراط المستقيم.

والصحة النفسية التي هي أساس العَيش السعيد تتطلب صبرا على أكدار الدنيا، من فقد محبوب أو ابتلاء بمرضٍ أو ضياع مالٍ أو فوات مطلوب أو سوء حال، فالصبر يوطّن النفس على البلاء ويساعد على التعايش معه والتفكير السليم في الحلول الممكنة والخيارات والفرص المتاحة، ومواصلة الحياة، وهذا  ما لايمكن تحصيله مع الجزع والتسخّط، وقد تفطّن غير المسلمين أيضا لأهمية الصبر والرضى في هذا المقام، وعدّوه أحد وسائل العيش السليم ومنع الاكتئاب، بل إن اللغة الانجليزية تستخدم كلمة واحدة لتصف المريض والصابر Patient !

أما العلم فلا يُحصّل إلا بالصبر، هل تعرف شخصا ملولا قد نال علما حقيقيا؟ روي عن حَبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنه أنه سُئل: بمَ أدركت العلم؟ فقال: “بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول“، وقد ألف الشيخ عبدالفتاح أبو غدة كتابا قيّما عنوانه (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) جمع فيه الأخبار التي تبيّن لك بجلاء أن هؤلاء العلماء لم ينالوا العلم براحة الأبدان، ولا يمكنك أن تجِد حافظا للقرآن – وهو أساس العلم- إلا وقد صبر طويلا على الحفظ والتكرار والمعاهدة والمراجعة، وقد قرأت في مذكرات المسيري رحمه الله أنه عكف على تأليف موسوعة اليهودية والصهيونية خمسة وعشرين عاما! نعم، استغرق تأليفه للكتاب ربع قرن، أي ثلث حياته رحمه الله! وإذا تأملت سِيَر العلماء المسلمين وغير المسلمين -قديما وحديثا- وجدت الصبر والتركيز وحبس النفس عن الملهيات ديدنًا لهم، إنها سنة من سنن الله في الكون، لاتحابي أحدا، وكم سبّبت قلة الصبر على مذاكرة العلم من ضعفٍ علمي، وتأخّر دراسي، وخسائر جمّة.

ماذا عن حُسن الخُلُق؟ إن الحِلمَ يتطلب صبرا عن الانفعال والغضب، وقول الحق يتطلب صبرا على نتائجه، والصمت عن الكلام المحرم أو اللغو يتطلب صبرا عن الميل الفطري للثرثرة، والكرم  يتطلب صبرا عن شحّ النفس، والإحسان إلى الناس يتطلب صبرا عن الأنانية، والعفو يتطلب صبرا عن الانتقام، وحسن الإنصات يتطلب صبرا عن التشتت أو الرغبة في المقاطعة، وحسن الرد يتطلب صبرا عن الاندفاع في قول غير محسوب النتائج، والتغافل يتطلب صبرا عن شهوة التيقظ لزلات الناس، والرفق يتطلب صبرا عن التهوّر، وحفظ السر يتطلب صبرا على شهوة إفشائه…والقائمة تطول، حتى إنك لا تكاد تجد خلوقا -بالمعنى الحقيقي للأخلاق- إلا وهو صبور متأنٍّ هادئٌ في تعامله مع الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» رواه مسلم، هل يمكن أن يمتلك محاسن الأخلاق شخص لايصبر في ردود أفعاله وفي ما يتفوّه به من كلام؟! يقول علماء النفس إن التميز في العلاقات يتطلب منك أن تضع مساحة زمنية بين الفعل الذي تراه وردّة فعلك تجاهه، هذه المساحة هي (الأناة) التي يحبها الله، التروّي والصبر أساس حسن الخُلُق.

أما النجاح في بيئة العمل، فيتطلب صبرا عظيما، صبر على الانضباط والالتزام بأوقات العمل والحضور، صبر على تعلم المهارات اللازمة لتجويد العمل والمحاولة والخطأ، صبر على التعامل مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين والمستفيدين، صبر عند التعامل مع الضغوط والمشكلات، صبر على مشقة العمل وواجباته وتحمل مسؤوليته.

أما التربية، فيكاد يكون الصبر مفتاح النجاح فيها، الصبر على التعامل مع الأبناء والطلاب، والاستماع إليهم، وتعليمهم وإرشادهم، وتحمّل أخطائهم وبطء استجابتهم، معظم أخطاء التربية تنتج من نفاد صبر المربي،   مثلا: تضع الأم قانونا لأوقات استخدام الانترنت في المنزل، لكنها لاتصبر على إلحاح الأبناء أو بكائهم وإزعاجهم حين يُقفَل عنهم الانترنت، فتنقض قانونها وتفتح لهم المجال وتفشل في تعويدهم معظم العادات الحسنة لنفاد صبرها، سمعت مرة من د. ميسرة طاهر أن بكاء الرضيع من غير مرض سببه قلة صبر أمه، فالرضيع يتعلم منذ أيامه الأولى أن البكاء خير وسيلة لابتزاز الأم وحملها على فعل مايريد، إنه يريد منها أن تحمله باستمرار، فيستخدم البكاء وسيلة للضغط عليها وإجبارها على حمله، ولكن المفترض أن تعي الأم هذا النوع من البكاء الذي لايعبر عن مرض أو احتياج حقيقي وتتجاهله -مع مراقبتها للطفل- حتى يتعلم أن هذه الوسيلة لاتنفع فيكف عن استخدامها، وقد أضاف الدكتور أن سلوك الابتزاز يكبر مع الطفل ويتخذ أشكالا عدة، ولاعلاج له إلا بالتجاهل، لكن معظم الآباء ينفد صبرهم بسرعة ويستجيبون للابتزاز اللحظي طلبا للراحة، ولكنهم يعانون ثماره المرهقة على المدى البعيد.

كل ما يخطر على بالك من الفضائل وأسباب الفلاح التي نعلم يقينا أهميتها لكننا لانقوم بها، لايمنعنا منها إلا قلة صبرنا عليها، كلنا نعلم أهمية صحة الجسد، ولكننا نرتكب في حق أجسادنا أخطاء كارثية لنفاد صبرنا، فالأكل الضار في معظمه لذيذ ومُغرٍ، وقلة الحركة أمر مريح، والسهر عادة مسلية أحيانا، لكن الالتزام بالأكل الصحي، ومداومة الرياضة، والالتزام بالنوم المبكر عادات تتطلب صبرًا، ولكن ثمارها نافعة: صحة داخلية، ووقاية من كثير من الأمراض بإذن الله، وجمال خارجي، وإنتاجية أكبر، فكيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير إلا لافتقارنا للصبر! وتقلقني شخصيّا انتشار جراحات السمنة في السنوات الأخيرة، كقص المعدة والتكميم وغيرها، لا لخطرها المحتمل على الجسد فحسب، ولكن لتعبيرها عن افتقار أفراد المجتمع مؤخرا إلى الصبر، حيث لايمكنهم فقدان الوزن إلا بتدخل جراحي يجبرهم إجبارا على عدم الأكل، وهذا مؤشر غير جيد لقوة الشباب الذين هم ذُخر المجتمع.

هناك قصة شهيرة تُروى عن عنتره -ولا أعلم صحتها لكن معناها صحيح- بأن رجلا سأله عن سر نيله لهذه المكانة فقال: بالشجاعة، قال له: وما الشجاعة؟ قال: الصبر!  فاستغرب السائل، ما علاقة الشجاعة بالصبر؟ قال عنتره: عُضّ اصبعي وأعضّ اصبعك فأينا صرخ أولا هُزم، فصبر الرجل قليلا ثم صرخ، قال عنتره: لو لم تصرخ لصرختُ أنا، ولكني صبرتُ فكنتُ أشجع! إنني أتخيل عنترة في تلك اللحظة وكأنه بطل أولمبي يدرك أن فرق جزء من الثانية يُكسِبه شرف كسر الرقم القياسي، وأن الصبر والمصابرة هي التي ستقوده لمراده.

إن الصبر عقلُ وحبس للنفس عن شهواتها، وهذا مطلب جوهري في كسب المال وحسن تدبيره، كيف ينجح مشروع تجاري لم يصبر صاحبه على المثابرة فيه؟ وكيف يحفظ المرء ماله من الضياع مالم يصبر على المغريات والرغبة في التتسوق؟ من أهم العادات النافعة اقتصاديا عادة الادخار، والاعتياد على تحديد الاحتياجات الفعلية عند الشراء، لكن صبرنا ينفد أمام إغراء السلع، فنشتري مالانحتاج، ثم تضيع أموالنا وتضيق مساحات منازلنا، إن العقل -الذي يحمل معنى المنع والحبس والصبر- يمنع المرء من تبذير المال، لذلك اقترن سوء تدبير المال في القرآن بالسّفَه وترك النفس على هواها: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) لأن المال عصب الحياة وقوامها، والسفيه يضيّعه في التوافه، وبنقيض ذلك فإن العقل في حسن تدبير المال، وفي وسط الآيات التي تتناول المال في سورة البقرة جاءت هذه الآية: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269). 

تطول قائمة أمثلة اقتران الصبر بفلاح الدين والدنيا، و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جملة وصيته لابن عباس رضي الله عنه “واعلم أن النصر مع الصبر” والنصر هنا كلمة معرّفة بأل، لتفيد العموم، كل نصر لابد له من صبر، نصرك على نفسك، وعلى أعدائك من شياطين الجن والإنس، وارتقاؤك لكل فضيلة وسموّ لابد له من الصبر، ولكن إذا كانت الوسيلة معروفة وواضحة إلى هذا الحد، فما بالنا لاننتصر ولا نرتقي كما نريد؟ لأن الصبر أمرٌ شاقٌّ على النفوس، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “والصبر ضياء” رواه مسلم، ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث وسبب اختيار كلمة ضياء لوصف الصبر: ” لأن الضياء فيه حرارة كما قال الله عز وجل :جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والصبر فيه حرارة ومرارة، لأنه شاقٌّ على الإنسان”، ولأن الصبر شاق، فإن ندرة من الناس يتميزون في مجال ما، أو في عدة مجالات، وقد قال المتنبي:

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ        الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ !

وقال غيره:

والصَّبرُ مثلُ اسمِه مرٌّ مذاقَتُه    لكن عواقِبَه أحلى من العَسَلِ

لكل إنسان نصيب من النصر مرتبط بنصيبه من الصبر، وكلما زاد صبر المرء وتنوعت مجالاته ارتقى في جوانب حياته المختلفة، و الصبر صفة تتطلب تمرينا ومجاهدة؛ لأن طبيعة الإنسان الفطرية هي الميل مع شهوات النفس، فالصبر لايولد مع الإنسان لكنه يتعلمه ويكتسبه، ولتقوية صفة الصبر عند الإنسان فإن عليه أن يُلزم نفسه بما يجب عليه ويستمر وإن كان الأمر قليلا جدا، ثم يزيده شيئا فشيئا، لكن المهم الصبر والاستمرار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله: أدومها وإن قل” رواه البخاري، هذه المداومة تتطلب صبرا، ولابد للمربي أن ينتبه لدوره في تقوية صبر المتربي فلا يضعف صبره بالتدليل وتلبية كل مايريد، بل يعوّده التغلب على هوى النفس ومجاهدتها، يعلمه الصبر على ماينفعه وإن كان مُرّا، والصبر عن المُلهيات وإن كانت حلوة مغرية، والمربي نفسه في تربيته هذه يحتاج صبرا كما ذكرتُ آنفا، فما أسهل تقديم كل شيء للنشء والارتياح من تذمرهم وإلحاحهم!

إن الصبر قوة للفرد والمجتمع، ولذلك فإن أسهل وسيلة لتدمير أي إنسان وهزيمة أي مجتمع، هي إغراقه بالشهوات والمُلهيات حتى يفقد الصبر عنها ويُصبح عبدًا لهواه، ويقعُدَ عن كل فلاح ويستصعبه، فلايعود قادرا على العمل الجاد أو مقاومة المغريات، ولذلك لابد من تربية النفس وتوطينها على الصبر، وتعزيز هذا الخُلُق لدى النشء، وبثّه في الكبار والصغار، والله تعالى يقول في ختام سورة آل عمران التي هُزِم فيها المسلمون نتيجة عدم صبر فئة منهم على البقاء على الجبل، ونزولهم السريع رغبة في الغنائم، وتمكّن عدوّهم منهم بسبب هذه الثغرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

9- للمقبلين على الدراسات العليا

graduation cap diploma isolated on a white background

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تراودني منذ فترة فكرة كتابة موضوع يرشد المستجد في الدراسات العليا، ويساعده في تلمّس الطريق وبناء الرحلة على أساس سليم، ثم صممت على الكتابة فيه بعد أن وردني أكثر من اقتراح لأكتب حوله، ولعل القارئ -سواء كان من طلاب الدراسات العليا الآن أو لاحقا بإذن الله – سيستفيد منها، وقد جعلت الحديث مقسّما لثمانية عناوين رئيسية، آمل أن تنير الطريق للمستجد، وأن يستفيد منها كما استفدت في بداية رحلتي ممن كتبوا خلاصة تجربتهم ونصيحتهم قبلي.

1- النية:

بداية، لعلي أتناول أهم أمر يتناوله العلماء في أي عمل، وهو النيّة، فقد روى البخاري رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:  سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيه، ينبغي أن تسأل نفسك: ماهي نيّتي من التحاقي بالدراسات العليا؟ هل أريد طلب علم نافع، واكتساب مهارة البحث العلمي، والتخصص الدقيق في مجال ما لأسدّ ثغرا فيه؟ هل أريد نفع نفسي وأمتي؟ أم أريد الوجاهة الاجتماعية بنيل شهادة الماجستير أو الدكتوراه؟  يجب أن تقف مع نفسك وقفة جادة في هذا الأمر، ولابأس أن تكون لك نية شخصية للترقي الوظيفي أو الحصول على وظيفة ترغبها، فطلب الرزق ليس عيبا، لكن هناك نوايا أكبر يمكنك أن تحملها في صدرك، إياك أن تكون نيتك الرياء والمفاخرة بهذه الشهادة، فإنه بئس الثمن الذي تقايض به جهدك وسهرك وتعبك! الطموح الحقيقي هو أن تتخذ جهدك في الدنيا سُلّمًا لرضى الله، ومعراجا للجنة، جدد نيتك باستمرار، واسأل الله الإخلاص، فإنك ربما تكون مخلصا في البداية، لكن تتشوّه نيتك أثناء الطريق فتحرف مسارك.

 2-الوعي بطبيعة المرحلة:

إن مرحلة الدراسات العليا مختلفة عن البكالوريوس، تماما كما تختلف مرحلة البكالوريوس عن المرحلة الثانوية، فكلما ارتقى المرء في مراحل التعليم قلّ اعتماده على معلميه، وزاد اعتماده على نفسه في التعلم، ستسفيد من أساتذة مميزين في مرحلة الدراسات العليا، لكن الجزء الأكبر من تعلمك سيكون ذاتيّا، ليس لأنهم مقصّرون، بل لأن طبيعة المرحلة تقتضي ذلك، أنت طالب دراسات عليا:  أي باحث، وأستاذ مصغّر، لا يجدر بك أن تكون (عالة)، تنتظر الإطعام بالملعقة، لاتنتظر أن يرشدك أساتذتك لتفاصيل المادة العلمية، أو أن يدربوك على جميع المهارات، هناك الكثير مما ينبغي لك أن تقوم به بنفسك، دورهم الأساسي في هذه المرحلة هو: وضع الخطوط العريضة لك، وتوفير النقد أو التغذية الراجعة، بمعنى قراءة تكليفاتك وبحوثك بدقة وأمانة وتبصيرك بنقاط قوتك وضعفك واقتراح بعض الحلول لتطور من مستواك، والأخذ بيدك شيئا فشيئا لتستحق أن تكون باحثا.

إن وعيك لطبيعة دورك في هذه المرحلة يرتقي بك في مدارج التميز، أذكر أنني قابلت طالبة ماجستير من أحد الأقسام التربوية في بداية دراستي، ودار الحديث حول ما إذا كانت كل منا قد وجدت فكرة بحثية يمكنها بناء خطة عليها، ففوجئتُ أنها ترى أن إيجاد الأفكار البحثية مهمة الأساتذة لا الطلاب، وقالت لي: لماذا أصبحوا أساتذة إذا كنا نحن من يطرح الأفكار البحثية؟ ما دورهم إذا؟ يمكنني تفسير موقفها بأنه ناتج عن أمرين: ضعف الوعي بدور الطالب في هذه المرحلة، وضعف الشغف العلمي والاطلاع الكافي الذي يجعلها قادرة على توليد أفكار بحثية، لا بأس باستشارة الأساتذة في الأفكار البحثية وتلقي مقترحاتهم، لكن سلبية الطالب المطلقة واتكاليته أمر غير ملائم.

3- القدرة على تقبل النقد وسرعة التعلم:

قلت في الفقرة السابقة، إن من أهم مايقدمه لك أساتذتك في مرحلة الدراسات العليا: نقد أبحاثك، وتبصيرك بنقاط قوتك وضعفك واقتراح بعض الحلول لتطور من مستواك، إن النقد -بمعناه الحقيقي- هو رأي الخبير في شيء ما ببيان مزاياه وعيوبه، هو أسلوب التقويم الملائم لمرحلة الدراسات العليا، ويجب عليك توطين النفس عليه واعتياد سماعه برحابة صدر كما تعتاد سماع تشخيص الطبيب لحالتك، ليس شرطا أن تعمل بكل رأي، لكن تقبل النقد بحد ذاته أمر لازم، مرحلة الدراسات العليا لاتناسبها عقلية الطفل غير الناضج الذي يتعطش للمديح ممن هم أكبر منه لمجرد الشعور بالأمان والمكافأة على بذل الجهد، لقد تجاوزت هذه المرحلة، قد تكون أعظم مكافأة على جهدك في هذه المرحلة هي أن يفرّغ هذا الأستاذ الخبير نفسه ليقرأ عملك بعمق، ويعطيك النقد الذي يبيّن نقاط قوتك لتعززها، ونقاط ضعفك لتعالجها، النقد الذي فيه إخلاصٌ لك وسعي جاد لمصلحتك وتطويرك، وعليك أن تستفيد منه وتتعلم ليصبح عملك أجود في كل مرة.

4- مفتاح التميز : القراءة، القراءة، القراءة:

إن كانت القراءة مهمة لجميع الناس، ومؤثرة في رفع المستوى التحصيلي للطلاب في كافة المراحل، فإن أهميتها تتأكد في مرحلة الدراسات العليا، إذ لايمكن للإنسان في هذه المرحلة أن يكون ضحل الثقافة، سطحي الفكر، لابد أن يكون لك قراءة جادة في الثقافة العامة، وفي تخصصك الدقيق، احذر أن تقتصر قراءاتك على المراجع التي تحتاجها لإنجاز تكليفات المواد، أو لإنجاز رسالتك، الاقتصار على قراءة المراجع الضرورية سيجعلك ضيق الأفق، محدود المعرفة، سطحي التفكير، وهذا آخر أمر تتمناه في هذه المرحلة بالذات، إن القراءة تنفعك في عدة نواحٍ:

  • سعة الأفق المعرفي، فاتساع قراءتك يزودك بمعلومات تثري خلفيتك وتعمّق من تناولك لأي موضوع.
  • امتلاك مهارات التفكير العليا، كالنقد والتحليل والتركيب، مما يجعل شخصيتك واضحة في بحثك بلاعناء ولاتكلف، فالقارئ الجاد يعالج المعلومات بطريقة مختلفة عن الطالب العادي، فهو يمحّص ما يقرأ ويستطيع النفاد إلى عمق النص ومعالجته معالجة نوعية.
  • تطوير مهارة الكتابة، فالقارئ النّهم، يمتلك قلما سيّالا، ولغة فصيحة، وبيانا ساطعا، وهذه أمور جوهرية في تجويد البحث العلمي، فحسن التعبير عن الأفكار وإيصالها للقاريء بلاتكلف، وخلو البحث من الأخطاء اللغوية أمور فارقة في جودة البحث العلمي.

بقي أن أنوّه هنا إلى أنه بالإضافة للقراءة العامة، والقراءة في مجال التخصص، لابد أن تكون مطلعا على أنظمة جامعتك من أدلتها الرسمية، عارفا لحقوقك وواجباتك، لاتكتفِ بمعرفة الأنظمة من زملائك أو بأخذها شفهيا من أساتذة الجامعة، اقرأ اللوائح والأنظمة وعد إليها كلما لزم الأمر.

5- التعلم الذاتي:

لابد أن تطور مهارة التعلم الذاتي لأي معرفة أو مهارة تحتاجها وتنقصك، هناك مهارات عامة لابد لها أي طالب دراسات عليا مهما كان تخصصه، مثل مهارات استخدام برنامج Word ، مهارات البحث في Google، مهارة تنظيم الوقت، مهارات القراءة المختلفة كالتلخيص وتدوين الملاحظات وأنواع القراءة المختلفة، مهارات البحث في المكتبات، وقواعد البيانات و المعلومات الالكترونية، مهارة الحوار والكتابة العلمية، وهناك مهارات خاصة بتخصصك، مثل مهارة البحث في المكتبة الشاملة للتخصصات الشرعية، مهارة استخدام برنامج التحليل الإحصائي SPSS  للتخصصات التي تتطلب استخدامه.. وهكذا، كلما تعلمت مهارات أكثر زاد تجويدك لبحثك وأصبحت أكثر قدرة على تنفيذ تفاصيله بنفسك، لاتجعل مصدر معلوماتك الوحيد: جامعتك وأساتذتك، تابع المهتمين بالبحث العلمي في وسائل التواصل، واعرف مستجدات تخصصك، سواء في محتواه أو في مناهج البحث فيه، ولاتخف من التعلم والتجربة.

6- أخلاق الباحث:

كان علماؤنا الأوائل يطلبون الأدب قبل العلم، ويعدون الأدب ثُلُثي العلم، مهما تعلمت وتعمقت في تخصصك، فلاغنى لك عن حُسن الخُلق، بل قد يتأكد في حقك أكثر ممن هو أقل منك علما.

كن ودودا بشوشا بارّا لوالديك واصلا لأرحامك نافعا للناس وليّن الجانب معهم، لا تتكبر على أحد فالإنسان جاهلٌ مهما تعلم، والعلم لايقتصر على أسوار المدارس والجامعات ولايُختزل في الشهادات، ثم إنه نعمة من رب العالمين فله الفضل لا لك، وهو قادر على سلب عقلك وعلمك وذكائك في أي لحظة، فما الداعي للتكبّر؟ تذكّر قول الله تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)  

لاتنعزل عن مجتمعك وأهلك وأسرتك وأقاربك بحجة الانشغال ببحثك، نظّم وقتك جيدا، واعلم أن الحياة ليست بحثا فقط، ولا دراسة فحسب، فأعطِ كل ذي حق حقه، لا أقصد أن تتتبع كل لقاءات الناس فهي لن تنتهي، وقد يتخذونها وسيلة لتزجية الفراغ فحسب، لكن سدّد وقارِب ولا تنعزل واحضر المناسبات والاجتماعات والأعياد الأسرية، إن التواصل الأسري كنز يثري روحك ويعظّم أجرك ويجدد نشاطك، ومن يدري؟ قد يفارقك أحدهم فتندم على بخس علاقتك معه بسبب هذه العزلة.

أخلاقك مع أساتذتك وزملائك أمر لايقل أهمية عن سابقه، فاحترام أساتذتك وحفظ مكانتهم، أمر هام، كما أن علاقتك مع زملائك الباحثين من دفعتك وغيرها جوهرية أيضا، ويمكن إيجاز التميز فيها بالقول: أحبّ لزملائك الخير كما تحبه لنفسك، وإذا رأيت من هو دونك فلا تتكبر عليه ولاتتوانَ عن مساعدته، إما إن رأيت من هو أفضل منك، فإياك وحسده أو كراهية تميزه أو تبرير ذلك الحسد بحيل نفسية ملتوية، افرح به، وتعلم منه، واجعل قربك منه منحة لا محنة، وقد يكون التفاضل بينكم في أمور دون أمور، فاتخذ ذات الأسلوب: انفعه فيما ينقصه، وتعلم منه فيما ينقصك، تعامل مع زملائك بمبدأ التعاون لا التنافس، واجعل احتكاكك بهم شاهدا لك لاعليك، ونافعا لك في مسيرتك.

بقي أن أنوّه لخلق هام هو خُلُق الشكر لمن يساعدك، ستحتاج مساعدة الكثيرين، بتوفير بيانات أو خدمات، أو تحكيم أداة بحث، أو الإجابة عليها، أو إجابة على استشارة بحثية، كن مهذبا في طلبك، عاذرا للناس إن قصروا في خدمتك، شاكرا لهم إن قدموا لك شيئا، ستقول إن هذا أمر بدهي؟ يؤسفني القول إنه ليس كذلك، لأن بعض الباحثين ينسى الشكر أو يتجاهله، يتعامل مع البشر وكأنه يتعامل مع محرك Google  أو قاعدة بيانات جامدة، يأخذ منها ما يريد، ثم يمضي بلا شكر، وهذا خلق سيء حذّرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:  “مَنْ لا يشْكُرُ الناسَ لا يشْكُرُ الله ويشرح العلامة ابن باز هذا الحديث بقوله: “أن من كان من طبيعته وخلقه عدم شكر الناس على معروفهم وإحسانهم إليه ، فإنه لا يشكر الله لسوء تصرفه ولجفائه، فإنه يغلب عليه في مثل هذه الحال أن لا يشكر الله…وإنه كما يجب عليه شكر الله على ما أحسن إليه، فعليه أن يشكر الناس أيضاً على معروفهم إليه وإحسانهم إليه، والله جل وعلا يحب من عباده أن يشكروا من أحسن إليهم”.

7-أخلاقيات البحث العلمي:

فضّلت فصل أخلاقيات البحث العلمي، عن الأخلاق بوجه عام، لأن أخلاقيات البحث العلمي لاتتعلق بتعاملك مع البشر مباشرة، لكنها جزء خاص من الأخلاق يختص بتصرفك مع البيانات والمعلومات في بحثك بصدق وأمانة، ولابد لك من الاطلاع على أخلاقيات البحث العلمي بشكل مفصّل، لكن هذه أمور أساسية:

  • السرقة العلمية ممنوعة منعا باتّا في مرحلة الدراسات العليا، وقد تعرضك للفصل مباشرة، فانسب كل معلومة لمرجعها بصدق وأمانة ولا تسرق جهد غيرك، وإذا دوّنت أي معلومة فاحرص على ربطها بمرجعها في نفس الوقت، لأنك ربما تنسى ذلك، فتعود لها لاحقا وتظنها من بنات أفكارك، وتنسبها لنفسك، فتكون أوقعت نفسك في السرقة العلمية من حيث لاتدري.
  • إذا وجدت اقتباسا لمرجع لم تحصل عليه، وأردت إيرداه في بحثك، فابحث عن المرجع الأصلي وانقل منه مباشرة، فإن تعذّر ذلك، فانسب المعلومة للمصدر الثانوي الذي وجدت فيه الاقتباس، وإياك أن تدعي الرجوع لمرجع لم ترجع له حقيقة، فإن هذا كذب، وبخس لجهد صاحب المرجع الثانوي، وإن لم يردعك خُلُقك، فقد يُكشف فعلك لأن صاحب المرجع الثانوي يكون قد تصرّف في المعلومة فيُعلم أنك نقلتها منه، لا من المرجع الأصلي ( وهذه النقطة بالذات يغفل الكثيرون عنها، أو عن تبيّن خطئها أخلاقيا).
  • حافظ على سرية بيانات المستجيبين لبحثك، من تجري معهم مقابلات أو استبانات أو تستقبل منهم بيانات، لاتفشِ أرقام هواتفهم، ولا تحرّف أقوالهم، ولا تنشر من بياناتهم إلا مايسمحون لك به.

8- منعطفات الرحلة:

رحلة البحث العلمي كثيرة المنعطفات، مهما قرأت في كتب مناهج البحث من خطوات، أو رأيتها في منشور انفوجرافيك، فإنها ليست بهذه السهولة على أرض الواقع، سيصيبك في الواقع الحماس والإحباط، والاستمتاع والملل، وسيعتريك الإقبال والإدبار، وستواجه عقبات لم تكن في الحسبان، فلا تستسلم بسهولة، أكاد أجزم أن من أهم الأمور التي تعلمتها من إعداد رسالة الماجستير: المثابرة والصبر، ولكن نصيحتي لك هي أن تسرع بالنهوض بعد كل كبوة أو فتور، لاتسوّف، عد لبحثك بمجهود بسيط، ثم ستتيسر لك الأمور بإذن الله، وقد كتبت في مقال سابق (هنا) أمورا ستنفعك بإذن الله عن الإنجاز والتسويف، كما أن قناة علي وكتاب (هنا) تقدم لك أفكارا تساعدك في تنظيم الوقت والجهد، والتعامل مع الإحباط و المشتتات واستعادة الشغف، الرسم  الطريف التالي يبيّن رحلة البحث العلمي كما نتخيلها قبل البدء، وطبيعة الرحلة على أرض الواقع 🙂

PhD-journey

إن رحلة البحث العلمي رحلة شاقة ممتعة، ستغيّر فيك الكثير إن أحسنت إدارتها، فاستمتع بها، ولا تتعامل معها على أنها أزمة، تسلّح بالدعاء والاستعانة بالله في كل حياتك، ومنها دراستك، فإننا -لولا معونة الله- ما استطعنا رفع طَرْفٍ أو رَدّ نَفَس، فأظهِر إلى الله افتقارك، وتبرأ من حولك وقوتك، وتوكّل عليه، وألحّ على ربك بالتيسير والتوفيق والسداد، اجعل الافتقار إلى الله والإلحاح في الدعاء ديدنًا لك، فإن هذا لُبّ العبودية، ومفتاح التوفيق.

وفقكم الله جميعا

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

8- لاتثق بنفسك

images

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ازدهرت دورات التنمية البشرية في العقود الأخيرة، ولاجدال أن في محتواها خير عظيم مهما قُلّل من شأنها، لكنها لم تخلُ من الضرر والمبالغة، ومن القيم التي غالت دورات التنمية البشرية في الإشادة بها، قيمة: الثقة بالنفس، فقد كان الناس في فترة سابقة غارقون في التفكير الجمعي لدرجة نسيان كل منهم لذاته، وتقييمه لها بناء على آراء الآخرين، وخوفه من الإقدام على إنجازات فردية، خاصة لو لم يملك سجل إنجازات منذ سن مبكر يجعل العالم يعترف به، فكان من الضروري إعادة ثقة الفرد بنفسه بعيدا عن التأثر بما يحمله الآخرون من انطباع عنه، أو مايحمله هو من انطباع عن نفسه.

لكن -كعادة أي مفهوم- فإنه يبدأ غريبا مستهجنا، ثم يتقبله الناس، ثم يبالغون فيه حتى التطرف فينقلب لأمر ضار، وهذا ما حصل مع مفهوم الثقة بالنفس، حيث تحوّل مع الوقت إلى انتفاخ أجوف، وغرور مستهجن، فالكل واثق بنفسه، في كل شيء، والجميع يرى نفسه فوق السحاب، يتجاهل عيوبه باسم الثقة بالنفس، ويصمّ أذنيه عن سماع الآراء باسم الثقة بالنفس، حتى أصبحت هذه الثقة عائقا عن التعلم والتطور، فالتعلم فعل يتطلب التواضع، والاعتراف بالجهل والتقصير، ومعرفة العيوب والمزايا بدقة، والعاقل يثق بنفسه في الأمور التي يمتكلها حقا، لكنه يتواضع عند الأمور التي يفتقدها ويعترف بقصوره، وهذا  ماعرفه علماؤنا الأوائل باسم الصدق مع النفس.

وقد قرأت مقالا لـ Simon Borg بروفيسور التنمية المهنية لمعلمي اللغة الانجليزية، يؤكد فيه من خلال احتكاكه بالمعلمين حول العالم أن الثقة  المطلقة بالنفس قد تعيق المعلم عن تطوير عمله، لأنه راضٍ تماما عما يقوم به، ولايشعر بالحاجة للتعلم، وقد لاحظ أن المعلمين الذين يخوضون تجربة تنمية مهنية جادة تهتز ثقتهم بأنفسهم وتتراجع شيئا ما حين يدركون أن أمامهم الكثير ليتعلموه، لكن هذا هو الذي يطوّرهم حقا، ويكسبهم ثقة مستحقة بالنفس، ثقة مصدرها العلم والإنجاز الحقيقي لا مجرد الادعاء الفارغ، ثم يؤكد على أهمية الصدق مع النفس، ومعرفة المعلم لنقاط قوته وضعفه بدقة، كي يتطور فعلا، هنا رابط المقال.

ذكرني مقاله بظاهرة أواجهها كثيرا في مجال التعليم، وهي ادعاء بعض المعلمات أنها واثقة من نفسها ولذلك فهي لاتهتم لأي نقد لتدريسها من أي زائر للصف، وهذا لايعكس الثقة بقدر ما يعكس الضعف النفسي وعدم القدرة على التعلم وتقبل النقد ومواجهة الذات،  إذ يُنظر للنقد على أنه هجوم وانتقاص أكثر من كونه فرصة للتعلم، قد تقول إحداهن: ولكن هذا النقد غير منطقي، لكنها تغالط نفسها حين تفرح بالإشادة غير المنطقية أيضا، ومن عرف نفسه حق المعرفة، وأراد الخير لها حقا، أخذ الحق وترك الباطل بغض النظر عن كونه مدحا أو ذمّا، وبغض النظر عن الأسلوب أيضا، إن الإنسان الجاد في تطوير نفسه يدرك أن المشوار طويل، وأن التعلم الحقيقي يتطلب التواضع وخفض الجناح، ولذلك قيل “إن العلم ثلاثة أشبار: إذا تعلم الإنسان الشبر الأول تكبّر، ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثاني تواضع، ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئاً “،  قد تعبر الثقة بالنفس أحيانا عن مكوث المرء في الشبر الأول !

نحن نصمّ آذاننا عن النقد بحجة الثقة بالنفس، ولك أن تتجول في حسابات بعض المشاهير، وترى مخالفتهم للشرع والعرف والذوق العام، ثم اختيارهم للمضي قُدُمًا وتجاهل انتقادات المتابعين ونصائحهم مهما كانت صحيحة، وتبرير ذلك باسم (الثقة بالنفس)، وقد يُتبع ذلك بحِيَل نفسية أخرى كوصف الذات بالشجرة المثمرة التي ترمى، ووصف الناقدين بالكلاب التي لايضرّ السحاب نباحها.. وهكذا،  إن هذه الثقة المزعومة بالنفس غلافٌ لآفة عظيمة حذّرنا الله منها وهي: الكِبْر، حيث يمتنع المرء من قبول الحق استكبارا عنه، واستجابة لهوى النفس في كراهية الانصياع للآخرين، وما أثقل التعلم والتغيير في هذه الحالة.

إن الثقة بالنفس مفيدة في موضعها، لكنها ضارّة إن استخدمت بلا مبرر، لايمكن لإنسان عاقل أن يدّعي الثقة بالنفس في كل أمر، فهذه الثقة ينبغي أن تكون مبنية على مقوّمات حقيقية، فالثقة بالنفس لن تسعف مترهّلا للفوز بمسابقة رياضية، لكنها تفيد الرياضي المستعد في تخفيف توتره عند بدء المسابقة، يعتبر بعض المحاضرين أو المدربين الثقة بالنفس كافية لتقديم محاضرة أو دورة تدريبية، فيهمل الاستعداد الكافي متكئا على ثقته بنفسه، لكن سرعان ماينكشف ذلك للحضور وإن جاملوه، الثقة بالنفس مفيدة عند وجود ما يبررها، مفيدة لدفع التوتر الذي لاداعي له، لكنها لاتهَبُك شيئا لاتملكه، لاتثق بنفسك فيما لم تتمكن منه، اعترف بالقصور وتعلم حتى تكون ثقتك مستحقة، الثقة وحدها لاتفعل شيئا، بل قد تضرّ. 

7- إليك عني !

listenالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يحدث أن يصاب شخصان بذات المصيبة، أو يقعان في نفس مشكلة، فيرضى الأول بقدر الله، ويتصبّر حتى يصبّره الله، وقد يكرمه بمنزلة الرضى، فتكون المصيبة مفتاح أجر لاوزر، وميدان انطلاق لا انغلاق، بينما يجزع الآخر، ويتسخط، وقد يفشل في تجاوز المصيبة لبقية عمره، ويحدث الشيء نفسه مع المشكلات، فمن الناس من يتعثر عند أي مشكلة، ويتقن لعب دور الضحية، فإذا طرحت عليه الحلول تفنن في تفنيدها وطرح معوقاتها وبيان استحالة تنفيذها وأن الأمر ليس بيده أبدا، بينما يعي الآخر دوره في حل المشكلة ويبذل مابوسعه من الأسباب لتجاوزها.

وإذا واجهت شخصا من النوع الأول، الذي يجزع للمصائب ويستسلم للمشكلات، ثم حاولت مساعدته بتعريفه بما يمكنه فعله، من الصبر عند المصيبة، أو السعي وفق الإمكان عند المشكلة، غضب عليك، وواجهك بحجة معروفة: أنت لم تجرب ماجربته ولذلك تطالبني بالمثاليات، ولو كنت مكاني لفعلت فعلي.

وهذه حجة من السيء أن تنتشر بيننا، ليس شرطا أن يجرب ناصحك ذات الأمر حتى تكون نصيحته نافعة، بل قد يكون مجربا ويضرك، لأنه هو أيضا تصرف بطريقة خاطئة، فيقدم لك نصيحة خاطئة، صحيح أن التجربة مفيدة لكنها ليست شرطا لصلاح النصيحة، نحن نشترط التجربة أحيانا كمبرر عاطفي لرفض الاستماع لكلام الشخص المقابل، لأن مقتضاه يخالف هوى نفوسنا كما أنه ليس من الضروري أنه لو جرب فيستصرف نفس تصرفك، ربما يكون أكثر حكمة في التعامل مع المشكلات، وأقوى صبرا عند المصائب، والواقع يشهد بتباين مواقف الناس عند مرورهم بنفس الأزمات.

فإذا سمعت نصيحة نافعة فخُذها حتى لو خالفت هواك، فالدواء مرٌّ لكنه نافع، والحكمة ضالّة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، والله أثنى في كتابه العزيز على من يستمع للقول النافع فيتبعه، فقال سبحانه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)، والمقصود المباشر في هذه الآية هو القرآن، ولكن الآية عامة تشمل كل قول كما يذكر السعدي رحمه الله، ثم يضيف في تفسير الآية: ” فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام اللّه وكلام رسوله…ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره، على ما سواه، وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين الأقوال، حسنها، وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذى يميز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل“.

إن تمييز النصيحة النافعة، لايلزم منه أن تكون صادرة ممن جرب نفس مصيبتك أو مشكلتك، فلا تتكبر عنها بهذه الحجة، فالتكبر عن سماع النصيحة النافعة صفة مذمومة ولو غُلّفت عاطفيا بحجة أن الناصح لم يجرب، فلا تكن كالمرأة التي استخدمت نفس هذه الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تنتفع بنصيحته، فعن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: “مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَال: اتَّقِي الله وَاصْبِرِي فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنِّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبتي، وَلَمْ تعْرفْهُ، فَقيلَ لَها: إِنَّه النَّبِيُّ ﷺ، فَأَتتْ بَابَ النَّبِّي ﷺ، فلَمْ تَجِد عِنْدَهُ بَوَّابينَ، فَقالتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فقالَ: إِنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى“. متفقٌ عَلَيهِ.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

6- ثنائيات: الحفظ أم الفهم؟

MAG-Schoemaker-Intelligent-Intelligence-Enterprise-Business-1200

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة، سألتنا إحدى المعلمات عن القسم الذي نود الالتحاق به في المرحلة الثانوية، وتنوعت الإجابات، إلا أن إجابة لإحدى زميلاتي لفتت انتباهي، فقد قالت: “أنا أفهم ولا أحفظ، لذلك سأختار القسم العلمي، فهم يقولون إن القسم العلمي لمن يفهم، والقسم الأدبي لمن يحفظ”

هذه الثنائية أحد أمثلة التفكير السطحي الذي يلجأ له الذهن الكسول الذي يزعم أنه يفهم ولايحفظ 🙂

الحفظ مهارة مظلومة في العصر الحديث، أصبحت عنوانا للسذاجة والبلاهة، أما الفهم فهو عنوان الألمعية والذكاء، ولا أدري كيف سيُصنّف الشافعي رحمه الله -وهو من أشد الناس حفظا- في نظر أصحاب هذا التفكير الحدّي: هل سيرمون به في مكب القسم الأدبي لأنه -والعياذ بالله- يتقن الحفظ ؟ الشافعي ياسادة أحد أذكى أذكياء الدنيا، اخترع أصعب علوم الشريعة: علم أصول الفقه الذي أجزم أن كثيرا ممن يدعون الفهم اليوم سيفغرون أفواههم استصعابا لمسائله العويصة التي تتطلب الفطنة والمنطق واللغة وترتيب التفكير !

هل جلس الشافعي يوما ليفكر في تصنيف نفسه هل هو من أهل الفهم أو الحفظ كما يفعل الناس اليوم؟ إنهم يتحدثون عن الفهم والحفظ كما يتحدثون عن تشجيع فرق كرة القدم، فكما أنه من المستحيل أن تكون هلاليا ونصراويا في الوقت نفسه، فإنه يستحيل أن تحفظ وتفهم في آنٍ معا، فاكشف هويتك بسرعة: هل أنت من أهل الفهم أم الحفظ؟ هل أنت من نخبة العلمي أم من رعاع الأدبي؟

شخصيا، لم أستسغ هذه الثنائية البائسة التي لازال الإيمان بها قائما إلى اليوم، فأنا بحمد الله أحفظ وأفهم، ولا أقف عند هذه المرحلة بل أتعداها للتحليل والتركيب والتقويم وغيرها من مهارات التفكير المعروفة في سلم بلوم، وكثيرون غيري أيضا يمتلكون هذه المهارات ولا يجدون مبررا للتعارض بينها، فلا أستطيع حفظ آية من كتاب الله إلا بعد فهمها، كما أنني لا أستطيع حل مسألة رياضيات إلا بعد حفظ قانونها تمهيدا لتطبيقه، ومادة النحو مثلا مادة أدبية لكنها تعتمد على فهم قواعد اللغة، وهكذا.

إلا أن تعليمنا في العالم العربي، قد تعرض لإضعاف وتشويه في العلوم الإنسانية أظنه السبب في الإساءة لمهارة الحفظ، وظهور هذه الثنائية ( الأدبي والحفظ والغباء، العلمي والفهم والذكاء)، لأن كثيرا من المعلمين يدرّسون مواد الدين والتاريخ والجغرافيا واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع والمواد التربوية بطريقة آلية تخلو من الفهم العميق للمحتوى، وربطه بواقع الحياة، وتوسيع مدارك الطالب وإثرائه بمراجع خارج المقرر، وهذا مايسميه باولو فريري (التعليم البنكي) أي التعليم الذي يلقّن فيه المعلمُ الطالبَ المعلومة، ثم يسترجعها منه وقت الاختبار دون تغيير، ودون أن يبقى منها شيء عند الطالب بعد الاختبار، تماما كما يفعل أحدنا حين يودع ماله في البنك.

العلوم الإنسانية (الأدبية) خطيرة في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات، وإحساسهم بهويتهم، فهي العقل المفكر للأمة كما يصفها د.بكار، أما العلوم التطبيقية (العلمية) فهي اليد الصانعة، القادة والمفكرون والفلاسفة والكتاب هم قادة الأمم، هم صُنّاع الثقافة، هم روح الشعوب، أما المخترعون والمهندسون والأطباء فهم المنفذون، هم صُنّاع الحضارة المادية التي تشكّل جسد الأمة، والتخصصان متكاملان، لكن الوضع في عالمنا العربي مقلوب، فالتخصصات الإنسانية يُرمى فيها ضعاف الطلبة، ويتجه المميزون للتخصصات التطبيقية، ثم نتعجب كيف تكون أمتنا تابعة ذليلة؟!

بدلا من قراءة محتوى العلوم الإنسانية بعمق، وفهمها ومناقشتها حتى تمتزج بروح الطالب وتشكل فكره ويمتلكها للأبد، ويبلغ من تشبعه بها حدّا يجعله يجيب عن أي سؤال فيها بطلاقة دون لجوء لحفظ ألفاظ غيره، نلجأ للتعليم البنكي، فإذا أضفنا لهذه المعضلة الضعف اللغوي الشديد عند الطلاب وعدم قدرتهم على الاسترسال في الكتابة عما يعرفونه بأسلوبهم هم، لجأوا لحفظ محتوى المقرر نصًّا وصبه في ورقة الاختبار، فيُساء بسبب هذا النوع من التعليم لمهارة الحفظ، ويتبرأ منها الجميع رغم شدة أهميتها في البناء العلمي للإنسان.

في الصف الثاني ثانوي، صُنّفت من قِبَل إدارة المدرسة ضمن طالبات القسم العلمي، نظرا لأن تقديري مرتفع ودرجاتي في المواد العلمية عالية، ولكنني لم أكن أريد القسم العلمي، المواد الأدبية تجذبني أكثر، أحب اللغة العربية بفروعها، وأتلذذ بدراسة البلاغة والنحو، ويأسرني التاريخ، وأحب التعرف على البلدان ودراسة الجغرافيا، ثم إنني أود الالتحاق بقسم اللغة الانجليزية وهو قسم أدبي، وقد اضطررت لإقناع إدارة المدرسة والإلحاح الشديد والإقرار بأنني أفضل القسم الأدبي على العلمي رغم تفوقي في المواد العلمية وسهولتها عندي، لكن ما العقلية الكامنة في أذهان المعلمات ليتصوّرن أن الأدبي قسم لايليق بطالبة متفوقة؟ أين كانت المدارس ستصنّف الرافعي وشوقي والطنطاوي والزيّات ومحمود شاكر وغيرهم من أعلام الأمة ومفكريها؟ هل لهم أي اهتمامات علمية؟ لاشك أن التخلف الحضاري الذي عانته الدول العربية ساهم في المغالاة في الاهتمام بالتخصصات التطبيقية وإهمال الإنسانية، لكنني لا أعرف أمة قوية تجعل الفكر واللغة والتاريخ تخصصا للبليدين من أبنائها!

الحفظ مهارة عظيمة لاغِنى عنها لطالب العلم: حفظ القرآن والسنة ونصوص الشعر وغيرها مما يثري العقل ويطلق اللسان ويثري الوجدان، لكنها مهارة تتطلب صبرا وجلدا لايستطيعه الجميع، ولايمكن لإنسان ادّعاء حفظ نص لايحفظه حقيقة، أما الفهم فادّعاؤه أسهل، لأنه لايتطلب تكرارا كالحفظ، ولايسهل كشفه، إذ يمكن لشخص بليد ضعيف الفهم أن يقول بكل جرأة: “أنا أفهم ولاأحفظ”، وقد عرفت عبر السنوات كيف أترجم هذه العبارة لمعناها الحقيقي: “أنا لا أستطيع المذاكرة، سأكتب أي شيء وأقول هذا فهمي”، واجهت أكثر من شخص خدعوا أنفسهم بهذه الثنائية، فلا هم فهموا، ولا حفظوا، ولاتوقفوا عن توارث هذه الأساطير جيلا بعد جيل.

5-ثنائيات: الشدة أم التدليل؟

 

thumb_ls_2816السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مفاهيم كثيرة تتصل بحياتنا اليومية تحتاج تفصيلا لنحكم عليها، لايكفي أن نتعامل معها بطريقة إما أبيض أو أسود، إما صواب أو خطأ، الكسل الفكري هو الذي يجعلنا نستسهل الحكم السريع على الأشياء، ونترك التأمل والتفكير، مع أن التروّي مطلوب، لأن قناعاتنا تشكل سلوكياتنا، وسلوكياتنا ترسم مسار حياتنا، في هذه السلسلة سأحاول تفصيل القول في ثنائيات نميل لاتخاذ مواقف سريعة منها، فنحن إما مع هذا أو ذاك، والأمر يحتاج تفصيلا.

حينما يدور الحديث عن التربية في أي مجلس، ينقسم الناس عادة إلى فريقين: فريق يميل للتدليل، وفريق يجنح للشدة، وقد شكّل كل منهم قناعاته عبر سنوات بطريقة متراكمة تؤثر فيها عوامل عدة: تربية والديه له وموقفه من هذه التربية رفضًا أو قبولا، شخصيته وطباعه وميله للتساهل أو الشدة، تجاربه في الحياة ومعرفته للناس وأحوالهم، مشاهداته وقراءاته..الخ

فريق التدليل يرى أن من واجب الوالدين توفير أفضل معيشة للأبناء، وأن التدليل مقياس الحب والرحمة، أما الشدة فهي قسوة لا مبرر لها، وفريق الشدة يرى أن الحزم هو الذي يصقل شخصية الأبناء ويعودهم على مواجهة الحياة، وأن التدليل إفسادٌ بيّن وجرمٌ عظيم.

وأرى أن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ ينبغي أن نفكر في أمرين:

1- شخصيات الأبناء مختلفة:

يختلف أثر التدليل والقسوة على الأبناء، فمنهم من يرقق التدليل طبعه ويهذّب نفسه، ومنهم من يفسده التدليل ويجعله أنانيا مدمنا للأخذ غير قادر على العطاء، أو ضعيفا لايتحمل المسؤولية ولايقوى على مواجهة الحياة، والشدة في التربية يختلف أثرها أيضا على الأبناء: فمنهم من تصقله الشدة وتربيه وتعوده على القوة وتحمل المسؤولية وتجعل شخصيته مميزة وقوية، ومنهم من تكسره الشدة وتهينه وتكون سببا في انحرافه.

2- مفهوم التدليل والشدة مختلف:

للتدليل والشدة صور جيدة وسيئة، فمن التدليل ماهو أمر محمود يُشبَع فيه الأبناء عاطفيا، ومنه ماهو مذموم يكتفي فيه الوالدان بإغراق الأبناء ماديا، أو يتركان الحبل فيه على الغارب لأنهما ضعيفان فحسب، كما أن الشدة مختلفة، فهناك شدة منبعها الحب وإرادة الأفضل للأبناء وفق رؤية تربوية واضحة، وهناك شدة منبعها جفاء الطبع وسوء الخُلُق والبخل العاطفي أو المادي.

لن أتحدث هنا عن التوازن، وما الذي يفترض فعله، وعن الجمع بين محاسن التدليل ومحاسن الشدة، ليس هذا موضوع المقال، الفكرة هي أن هذه المفاهيم تحتاج تفصيلا للحكم عليها، ومن الخطأ تناولها سطحيا بتأييد أو رفض، فمهما بدت سهولة الحكم السطحي مغرية، إلا أنها خطيرة، لأن مواقفنا وسلوكياتنا ستُبنى حينها على أحكام سطحية، وبالتالي مصائرنا.

4-هل يتقدم العالم؟

259px-The_Scream

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أحد أهم ملامح الفكر المعاصر، الاحتفاء بالجديد لجِدّته، وازدراء القديم لمجرد قِدَمه، وقد يكون لهذا النمط من التفكير مبرره عند الغرب وهو سيطرة فكرة التقدمية ( progression ) والتي نبعت من الفلسفة التاريخية القائلة بأن كل عصر لابد أن يكون أفضل من سابقه، فالبشرية تسير في خط تصاعدي منذ القدم وإلى الآن وستستمر في ذلك، ومن رواد هذه الفلسفة في الفكر الغربي: هيجل وماركس.

تصب نظرية النشوء والارتقاء لدارون في ذات الفكرة، فدارون يرى أن الإنسان بشكله الحالي تطور عبرالنشوء والارتقاء وانتخاب الطبيعة للأفضل، وأنه كان في البداية قردا ثم تحول عبر الاف السنين ليكون إنسانا، وتقتضي النظرية – التي يؤسس عليها الفكر الإلحادي اليوم- أن الإنسان في تطور مستمر، وإذا كان التركيز اليوم على التطور المادي والتقني وتجاهل الجانب الروحي والأخلاقي، فإن الواقع يعزز هذه الفكرة، فالبشر في كل يوم يتقدمون تقنيا عن اليوم الذي قبله، مما يجعل البعض يستخدم نفس المبدأ للحكم على عالم الأفكار، فيرى أن فكرة التعلم النشط في التدريس أفضل وأرقى من فكرة التلقين لمجرد أنها أحدث منها، تماما كما أن أيفون 8 أفضل من نوكيا الدمعة بلا مناقشة.

 يشيع اليوم بين الناس أن يعيب أحدهم فكرة ما لأنه ولى زمنها، ولأن الناس أضحوا يفكرون بطريقة مختلفة، وكأنه ينبغي أن نبقي أعيننا على التقويم حين نريد تبني أي فكرة في أي مجال خشية أن تكون صلاحيتها قد انتهت ونحن لاندري، ولكن، هل هذا صحيح؟ هل يصحّ أن نعتبر (الجِدّة) معيارًا للحكم على صحة الأفكار؟ وهل يصح أن نقول إن تفكير الناس اليوم وعقولهم أفضل من القرون السابقة لمجرد التقدم الزمني؟

نحن في الإسلام لانحكم على أمور الدين والأخلاقيات بنفس المعيار الذي نحكم به على الماديات، فنحن وإن كنا نقرّ بأننا نعيش اليوم عصرا متقدما ماديا، إلا أنه متأخر بل متخلف روحيا وأخلاقيا، ولدينا يقين جازم بأن الأفضل مضى ولن يعود، وهو عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وأن أفضل مايمكن أن نبلغه من تقدم ورقي هو محاولة القُرب من ذلك النموذج المثالي، ولن نكون مثله، لكنه معيار قربُنا وبعدُنا منه يحدد مقدارَ تقدمنا أو تأخرنا، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ )، يشير الحديث إلى أن عصورا من ( التخلف ) قادمة، وإن كان هيجل وماركس وملايين الناس اليوم يعدونها أكثر تقدّما.

قلت في الفقرة السابفة إننا -نحن المسلمين- لا نحكم على الماديات بنفس المعيار الذي نحكم به على المعنويات، فإن كنا اليوم نعيش عصرا متقدما ماديا، فإنه متخلف روحيا، ولكن مهلا، حتى هذا التقدم المادي يعد تخلفا في نظرنا أيضا إذا انحرف عن مُراد الله، وأدى إلى جفاف الروح والتعلق بالدنيا – وهذا هو الحاصل اليوم- فالبشرية تستخدم العلم المادي التجريبي بطريقة منحرفة عن مُراد الله وحكمته في تسخير الكون للإنسان، فهي تصنع المزيد من القنابل والأسلحة المدمرة، والتي لن يروج سوقها إلا بتذكية الحروب وإشعالها وضمان استمرارها، كما أن صناعة الأدوية والتجهيزات الطبية تروج بشكل مخيف وغير أخلاقي في كثير من الأحيان، فالأدوية تطيل متوسط الأعمار وتبقي الناس في حاجة ماسة للدواء  والفحوصات بالأجهزة، وهذا يخدم الهدف الأساسي: تدفق المزيد من المال لشركات الأدوية والتجهيزات الطبية، فالميت والصحيح كلاهما لايحتاج الدواء ولا الفحص المستمر، المستهلك المثالي هو إنسان صحيح موسوس، أو مريض مزمن، فضلا عن شركات تصنيع الأطعمة التي تستخدم أحدث ماتوصل له علم الكيمياء لصناعة طعام غير طبيعي، وملئ بالزيوت المهدرجة، يدمنه الناس ويزهدون في الطعام الطبيعي الذي لا يتوفر فيه نفس المقدار من الملح والسكر والدهون والنكهات الصناعية، وماينتج عنها من سمنة وأمراض قلب وسكري، وكأن كل تقدم واحد يجلب معه آلاف المشكلات التي لم يعانِ منها الناس سابقا.

ماذا عن شركات تصنيع السلع المختلفة، من ملابس وهواتف محمولة وأجهزة، والتي تدمر البيئة، وتشغّل الفقراء والأطفال والنساء في ظروف قاسية وظالمة وغير أخلاقية لضمان إغراق السوق بمزيد من السلع، ماذا عن صناعة المواد الإباحية وتجارتها المتزايدة والتي كانت السبب الأساسي في تطور الكاميرات الرقمية الاحترافية وزيادة دقتها لإتقان إنتاج المواد الإباحية ورواجها؟

هذه مجرد أمثلة لانحراف التقدم المادي عن مُراد الله، وإسهامه في إضرار الناس بدلا من نفعهم، أما الخلل الثاني فيكمن في أن التقدم المادي يجرنا إلى تخلف لايريده لنا الإسلام، وهو الركون للدنيا والاطمئنان بها، وما يجره هذا من شقاء بسبب جفاف الروح، لأنها لم تُخلق للأرض، خُلقت لتسكن الجنة، وما وجودها هنا إلا مرور عابر لايمكنها أن تجعله غاية تقنع بها، إن الركون للدنيا ليس ارتفاعا ولا تقدما ولا طموحا، بل انحدار وتثاقل وتواضع في الطموح، ألم يعاتب الله عز وجل بعض المؤمنين على قناعتهم بالأدنى في سورة التوبة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38).

هناك الكثير من النقاش حول آفات الحداثة اليوم، ومعظم من يناقش الأمر هم الغربيون أنفسهم، يشككون اليوم في جدوى المغالاة في أهمية العلم التجريبي، وينتقدون الانحرافات الأخلاقية لاستخدامه، ويسهبون الحديث عن غربة الإنسان في عصر الحداثة، عن شعوره بالتفاهة واللاجدوى، عن تفكك العلاقات الاجتماعية وانتشار الاكتئاب، عن الشك في أن العالم يتقدم للأفضل، عن القلق الوجودي في عالم اليوم، بعد أن بلغ الإنسان مابلغ من تقدم مادي تزايد معه القلق والاكتئاب، والذي تمثله اللوحة التي أرفقت صورتها في هذا المقال وهي لوحة (الصرخة) للنرويجي ادفارت مونك، ثاني أشهر لوحة بعد الموناليزا، وقد اكتسبت أهميتها في تعبيرها عن القلق والهلع وغياب المعنى في حياة الإنسان المعاصر، عن حيرته في جدوى التقدم، وقد زادت شعبية هذه اللوحة بعد أن أهلكت الحربين العالميتين ملايين البشر في القرن العشرين، الذي كان يمثل ذروة التقدم المادي.

إن التطور المادي إذا انحرف في أصله وقام على غير مُراد الله، وانحرف في غايته فجعل الدنيا هي غاية المُنى، فقد أضحى تخلفا لاتقدما، وإن علينا أن نعيد التفكير في تقييم الأشياء والأفكار بمرجعيتنا نحن: الكتاب والسنة؛ لأن كثرة المِساس مع الحضارة الغربية أذهبت إحساسنا، وأضاعت وجهتنا، فأصبحنا نرى الأمور على غير حقيقتها، ونسميها بغير أسمائها، ونتبنى -دون أن نشعر- قيَمًا ومعايير تخالف أصول ديننا، والأمة التي لا تراجع أفكارها تنجرف وتغرق وتتلاشى، لنتقدم في الوجهة الصحيحة، نقترب من خير القرون،  ونجعل تقدمنا المادي قائما على مراد الله، خادما لغايتنا الكبرى في نشر الحق وإرادة الله والدار الآخرة، فقد ضيّعنا كثيرا من الوقت في محاولة التقدم الزائفة حين أضعنا بوصلة الطريق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته