1- استعن بالله ولاتعجز!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

شاهدت في تويتر أمس وسمًا عن تحدي الكتابة في شهر مارس، وفحواه أن من يدخل هذا التحدي فإنه يُلزِم نفسه بكتابة مقال يوميا لمدة 30 يوما، وجدت الفكرة مغرية لأنها تتحدى تسويفي المُزمِن، فرغم حبي للكتابة، ووجود الكثير من الأفكار التي تستحق الكتابة عنها، إلا أن العملية تتطلب تركيزا أتفنن في الهروب منه يوما بعد آخر، مع أن الشروع في عملية الكتابة هو الأمر الصعب، فإذا بدأ الإنسان تدفقت الأفكار وانسابت الكلمات واكتشف أن الأمر أسهل مما كان يظن ويتصوّر، وكلٌّ منا لديه نسبة من التسويف في مجالات معينة، وإن كنا نتفاوت تفاوتا كبيرا في هذا الشأن، وبذلك تتفاوت إنجازاتنا.

التسويف علّة مزمنة مع بني البشر، حالت بينهم وبين مايستطيعون وأقعدتهم عن المعالي وأرضتهم بالدّون، وما أصدق الشاعر إذ قال:

ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا

كنقصِ القادرين على التمامِ!

أي والله إنه عيب، عيبٌ أن يعطينا الله من القدرات والموارد والإمكانات نعمًا جليلة، ثم نختار القعود والتسويف، ونحن إذ نسوّف نشعر أننا سننجز الأمر، ولكن الوقت غير مناسب الآن، وأنه حين يحين الوقت الملائم سننجز وكأننا ننتظر معجزة ندرك أنها لن تحدث أبدا، إننا نكذب على أنفسنا حين ننتظر المزاج الجيد، و حالة الحماس الملائمة، وتمر الساعات و الأيام والشهور ولم يشرفنا المزاج الجيد بقدومه، وإذا جاء فإننا نختار أن نفعل فيه مانحب، لا ماينبغي فعله، ويالضيعة الأعمار!

التسويف هو تأجيل الأعمال، وهو مأخوذ من كلمة (سوف) وهي حرف يشير للمستقبل ويقتضي المماطلة والتأخير، بعكس الفاء الذي يقتضي الفور، وفي اللغة الانجليزية -إن كنتم مهتمين بالبحث عن الموضوع بها- فإن التسويف هو procrastination.

ولأن خبرتي مع التسويف طويلة، وقد أفلحت في مكافحته مرارا وفشلت مرارا، فإنني تعلمت من القراءة في هذا الموضوع والتجربة ما يمكن أن أجعله مادة هذا المقال، و لعلي أركز على ثلاثة جوانب لهذا الموضوع: لماذا نُسوّف؟ وما آثار التسويف؟ وما علاجه؟

لماذا نسوّف؟

حين يكون لدى المرء عمل ينبغي إنجازه الآن ثم يماطل في إنجازه ويؤخره فإنه يُعدّ مسوّفًا، والتسويف حيلة نفسية يهرب بها المرء من أي أمر يُتعبه، للأمر الذي يريحه ولايتطلب منه جهدا، فمثلا حين يكون لديك اختبار، فإن المذاكرة أمر متعب وممل، وعقلك يريد راحتك، فيجعلك تسوّف المذاكرة، ويهرب بك لفعل مريح ولذيذ: تصفّح وسائل التواصل الاجتماعي، مشاهدة مقاطع في اليوتيوب، النوم، الأكل، الثرثرة مع شخص يجانبك….الخ، ثم تمر الساعات ولم تنجز في المذاكرة شأنا يُذكر، وفي نفس الوقت لم تستمتع بهروبك، لأن تأنيب الضمير يعذبك وينكّد استمتاعتك، فلا أنت أنجزت المهمة، ولا استمتعت بهذا الهروب.

يُبالغ العقل في تصوّر صعوبة المهمة التي نحن بصدد القيام بها، فنخشاها، ثم نسوّفها، هذا هو سبب التسويف باختصار، ولذلك فإن المصابين بعقدة الكمال هم أكثر الناس تسويفًا، لأن عقولهم تتفنن في تعقيد المهام، فيخافون أكثر، ويهربون من المهمة الشاقة عالية المعايير، ويظن الناس أن حبهم للكمال يؤخر أعمالهم لأنهم ينقّحونها ويهذبونها ويعملون عليها، والحقيقة المرّة هو أنهم لايعملون شيئا: يهربون فحسب!

ما آثار التسويف؟

مشكلة  التسويف أنه يضيع الوقت وهو رأس مال الإنسان، فالمهمة التي سوّفتها لشهور وسنوات، كان من الممكن أن تنجز مكانها عشرات المهام، والإنجاز بحد ذاته يقود للإنجاز، لأنه يكسبك الخبرة، ويشجعك على المضيّ قُدُمًا، وهذا تفصيل الأمرين:

1- الإنجاز يكسبك الخبرة:

كل مهمة تنجزها، تطور مستواك أكثر مما تتعلم من الكتب وسماع تجارب الآخرين، لو قرأت وحفظت كل كتب الطبخ في العالم، وشاهدت برامج أشهر الطهاة، فإن التعلم الحقيقي يكون بدخول المطبخ وخوض تجربة الطهي، ومهما كانت التجربة سيئة، فإن مجرد خوضها كفيل بمعرفتك لما تحتاجه من تحسين، ونقلك لمستوى أفضل، وتأجيل خوضها يعني تأخير الإنجاز أكثر فأكثر، إن مجرد الإنجاز -مهما كان سيئا- أفضل من القعود، وقد قرأت منشورا قبل فترة يتحدث صاحبه عن أن الإنجاز الكمّي الغزير هو الذي يقود للإبداع والإنجاز النوعي، أما التسويف بحجة التركيز على نوعية الإنجاز فإنه يحرمك من فرصة التعلم، وبالتالي لن نكون نوعية إنجازك جيدة، وهناك نظرية تقول إن عملك لمدة 10 آلاف ساعة في مجال ما، كفيل بأن يجعلك خبيرا فيه، لأن الممارسة المكثفة هي التي تقودك للإتقان، وهذه الممارسة سستضمّن قطعا إنجازات كثيرة عادية في مستواها لكن قيمتها الحقيقية هي في تدريبك وصقلك وتأهيلك للإنجاز النوعي الذي لن تصل إليه بالتسويف وانتظار المعجزات.

2- الإنجاز يشجعك على المُضيّ قُدُمًا:

أؤمن بهذه القاعدة: الإنجاز يقود للإنجاز، والكسل يقود للكسل! الإنجاز يعطيك دفعة قوية من الثقة تجعلك تتعطش لإنجاز آخر، وتقول في نفسك: ها أنا فعلتها بحمد الله! لم يكن الأمر صعبًا كما تصورت، فتتشجع لإنجاز آخر، فهو يجعلك:

  • تستشعر أن المهمة لم تكن صعبة جدا كما تصورت
  • تثق بقدراتك، لأنك فعلتها حقا، ولديك الدليل الحي
  • تذوق طعم الإنجاز، فتستطعمه وتستلذه أكثر من الكسل

ولذلك، فإن القرآن يدل -في هذا السياق- على أن الطاعة تجرّ للطاعة، والمعصية تقود للمعصية، فعلك لأمر يقودك لمثيله

إذا، فالتسويف -ياصاحِ- يحرمك من الميزتين سالفتي الذكر، فلا أنت اكتسبت الخبرة، ولا تشجعت على المضي قُدُمًا، فتظل ثقيل الخُطى، تحبو حبوًا، والعمر قصير! فضلا عن الألم النفسي الذي يحدثه التسويف فهو يشعرك بالعجز إذا تأملت ماضيك، والهمّ إذا فكرت في مستقبلك، وقد تخسر بسببه أمورا كثيرة، منها:

  • قد تخسر صحتك، بتسويف اتباعك لنظام غذائي وصحي مناسب
  • قد تخسر علاقاتك، بتسويف الشكر والاعتذار والمجاملة والصلة والهدية والمكالمة والزيارة وغيرها
  • قد تخسر علما غزيرا كان يمكنك تحصيله والانتفاع به في دينك ودنياك
  • قد تخسر الشعور بالرضى النابع من قيامك بمهامك، فتأنيب الضمير يلازمك، والفوضى تدب في حياتك بحسب مالديك من تسويف

والأهم من كل هذا، قد تخسر نفسك، حين تسوّف التوبة والعمل الصالح، فينفرط العمر دون أن تشعر:

حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

ما علاج التسويف؟

لايمكن علاج أمر مالم ندرك أسبابه، أما وقد ناقشنا سبب التسويف الرئيسي وهو استصعاب المهام، ومن ثم الهرب منها طلبا للراحة، فإنه يمكن أن نصف العلاج انطلاقا من التشخيص، لا تستصعب المهمة، ولاتفكر فيها كلها، ابدأ بجزء يسير جدا، وأنجزه، مهما كان مزاجك سيئا، إن مجرد الشروع في العمل يكسر حاجز هيبته، ويجعلك تدرك أنه لم يكن صعبا كما تصورت، ومن ثمّ يشجعك على الإكمال، وقد ذكر ذلك ابن المقفع المتوفى في القرن الثالث الهجري بقوله “إذا تراكمت عليك الأعمال فلا تلتمس الرّوح في مدافعتها بالروغان منها؛ فإنه لاراحة لك إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، وإن الضّجر منها هو الذي يراكمها عليك”، أذكر أنني أثناء إنجاز رسالة الماجستير مرت بي أوقات سوّفت فيها، وانتظرت المزاج الجيد الرائق للبحث والكتابة، فلم يأتِ أبدا ( ولن يأتي، فهو يُجلَب)، حتى عرفت بالقراءة والتجربة أن البدء بالعمل -بغضّ النظر عن المزاج- هو المطلوب، فكنت أفتح ملف الوورد وأتحايل على نفسي بأنني سوف أشتغل على تنسيق النص فقط، فإذا شرعت في العمل، غدا الأمر سهلا وأنجزت أكثر مما توقعت ولله الحمد.

يعاني كثير من الكُتّاب مما يسمى بـ ( حبسة الكاتب ) وهو عجزه عن الكتابة، وقد قرأت تجارب لعدة كتاب، خاصة في كتاب (لماذا نكتب؟) وفي غيره، وقد أجمعوا على نصيحة واحدة: إذا أردت الكتابة، فلا تنتظر المزاج الجيد، ابدأ فورا، اكتب أي شيء، أفرغ ما بذهنك مباشرة، هذه العملية بحد ذاتها كفيلة بإدخالك في جو الكتابة، و مجرد شروعك في العمل يجعلك تنتج المادة الخام التي ستعدلها وتنقحها، وهكذا في أي أمر، لا أحصي عدد المرات التي قلت فيها لنفسي إنني سأرتب هذه الخزانة فقط، ثم أجد نفسي قد أنهيت الغرفة كاملة.

إن اختيار أمر يسير، والبدء به فورا، هو العلاج الناجع للتسويف، ألم تسمع قول الله حاثّا عباده المؤمنين: ( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) 

سارع، لاتسوّف، لا تتباطأ، وفي نفس الوقت لاتصعّب الأمر على نفسك، ولاتكلفها مالاتطيق، ابدأ الآن: اتلُ صفحة من كتاب الله، احفظ نصف وجه، راجع حزبًا، امشِ لعشر دقائق، رتب غرفة واحدة فقط، اكتب صفحة واحدة من بحثك، أدخِل تغييرا بسيطا في نظامك الغذائي، ابدأ بشيء يسير جدا ولاتهتم أكثر من اللازم لجودة العمل الان ولاتصعّب الأمر، فإذا بدأت جوّدت العمل شيئا فشيئا دون أن تشعر، وأنا اليوم أمامك مثال حي: لم أكتب كلمة واحدة في مدونتي منذ شهر ونصف، وحين قررت اليوم خوض التحدي قلت سأكتب بضعة أسطر فقط،كانت فكرة المقال غير واضحة تماما في رأسي، وهاهو عداد الكلمات يشير إلى أنني ولله الحمد تجاوزت ألف كلمة، ومع كل كلمة تتضح الأفكار في ذهني، فأعود وأحرر هذه العبارة، وأستبدل تلك الكلمة، فإذا المهمة أسهل مما صوّر لي عقلي سابقا، ابدأ والله هو المعين، واستعن بالله ولاتعجز!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

النجاح الرديء

 

challenge

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هناك فكرة تدور حولها كثير من الأفلام السينمائية الأمريكية خاصة وهي فكرة (الإصرار) أو (التحدي لبلوغ هدفٍ ما)، ويبدأ الفيلم عادة بأن يكون البطل في وضع لايرغبه، ويأمل بمستقبل أفضل يحقق فيه ماتشتهيه نفسه، وتبدو جميع الظروف معاكسة له، وكل الأشخاص من حوله يقفون في وجهه، ثم يصل الفيلم لـ (العقدة) وهي الوضع الذي يُقارب فيه اليأس، وتستمر الأحداث لتنفرج العقدة عن نهاية سعيدة وهي أن يتحقق حلمه ويقتنع الجميع بمشروعية هدفه لأنه (أصرّ) على بلوغه و (تحدّى) الجميع وفارق القطيع، وآمن بـ (شَغَفه) وشق طريقا صعبا فيتوج في نهاية الفيلم بطلا جبارا.

يُعرَض الفيلم بإخراج احترافي يجعلك تؤمن بشغف هذا البطل من أول لحظة وتؤيده في السعي له: تتوتر عندما تصادفه الصعوبات، وتنفرج أساريرك عندما يُوفّق، ويبدو لك الأشخاص الذين يعارضونه وكأنهم مجموعة من الحمقى والبُلهاء.

ماهو الشيء الذي يسعى له هذا البطل؟ لايهم، يظل المشاهد متحمسا دون أن يسائل نفسه عن مشروعية هذا الحلم الذي يُناضل البطل لأجله، فقد يناضل البطل من أجل مكافحة الجهل مثلا، أو من أجل فتح متجر لتزيين القطط، أو من أجل الهروب مع حبيبته أو مناصرة حقوق الشواذّ أو أي أمر آخر، قد يكون هذا الهدف ساميا أو سخيفا أو ضارّا، الفكرة الأساسية هي الإيمان بشغف ما، وتحدي الجميع لأجله والانتصار في النهاية، ولايملك المشاهد إلا التعاطف مع هذا البطل، والإعجاب برحلة النجاح دون تمحيص الغاية منها بعرضها على قناعات المشاهد ومرجعيته الفكرية.

ليست لدي مشكلة مع فكرة الإصرار من أجل بلوغ هدف ما، بل يكاد يكون هذا الأمر أحد أهم أساسيات النجاح، وقراءة سِيَر العظماء وصبرهم من أشد مايحفّز الهمم، بل إن أحد أسباب إيراد قَصص الأنبياء وصبرهم وماواجهوه من مصاعب: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتصبيره على مايلاقيه في سبيل الدعوة، وتصبير أمّته كذلك، مشكلتي مع الفكرة المذكورة أعلاه هي أنه يتم تناولها على أنها قيمة بحد ذاتها، وإغفال أمرين هامين:

1- مدى مشروعية الهدف الذي تسعى من أجله

2- تأثير الإصرار على هذا الهدف على توازن حياتك

 لايمكنني التعاطف -بمرجعيتي الفكرية الإسلامية- مع شخص يفعل المستحيل من أجل مناصرة حقوق الشواذ، أو مع هاوية للرقص تحدّت أهلها ومجتمعها لتبلغ ذروة النجاح في الرقص الاستعراضي، أو مع بطل كمال أجسام يتناول المواد الضارّة لينفخ عضلاته ويستعرض جسده في مسرح أمام لجنة تحكيم.

ولن أُعجب أيضا برجل أو امرأة بلغ ذروة النجاح في ريادة الأعمال أو العلم، لكن ذلك على حساب أسرته أو مبادئه، فلابد من التركيز على غاية النجاح ومدى أهميته قبل الانبهار بمسألة التحدي والإصرار والشغف، لأن من السنن التي أودعها الله هذا الكون أن من سعى لأمر وبذل جميع أسبابه فإنه غالبا يوفق له في الدنيا ولكن الجزاء الحقيقي في الآخرة، فأعظم اللصوص في العالم وأكبر رجالات المافيا لم يصلوا لما وصلوا إليه إلا بالعزيمة والإصرار والبذل، لكن ماقيمة هذا في ظل خِسّة الغاية؟

الطرح الإعلامي المعاصر يريدك أن تُعجب بفكرة النجاح الشخصي فحسب، فنحن في عالم فرداني، يعيش الفرد فيه ليسعد نفسه ويثبت ذاته، ونحن في عالم التعددية الفكرية أيضا، فجميع الأفكار مقبولة وتستحق أن يُناضل المرء من أجلها مادام مقتنعا بها، ووجود هذه الفكرة في الإعلام الغربي أمر عادي لأن الإعلام ينتج من ثقافة المجتمع ويُروّج لقيَمه، لكن تسويقها لدينا أمر دخيل، لأننا مسلمون نؤمن بمرجعية الشرع أولا، نعرض أهدافنا على الشرع فلا نسعى لها لمجرد رغبة ذاتية، وندرك أن الفرد جزء من الأسرة والمجتمع فلا يمكن التنصّل من المسؤوليات الاجتماعية والأسرية لمجرد الشغف.

بدأت ألاحظ مؤخرا تزايدا مطّردا لهذه الفكرة في الإعلانات التي تظهر لي أثناء تشغيل مقاطع اليوتيوب، وفي الطرح الإعلامي بشكل عام، ويوجّه هذا الطرح للمرأة السعودية على وجه الخصوص باعتبارها كائنا مسجونا ينبغي تحريره من ربقة المجتمع الظالم، وينبغي تشجيع الرائدات المتحديات المصرّات الشغوفات الناجحات المكافحات…. وتقديمهن بصورة ( البطل الناجح ) و (القدوة المثلى) للنساء والبنات، في هذه الإعلانات تقدم (المرأة السعودية الناجحة) بصفات محددة منها:

1- تمتلك غاية تود بلوغها، وهذه الغاية تتصادم مع قيم المجتمع: الرغبة في التمثيل، دخول الأولمبياد، عرض الأزياء…الخ، وتشعر بالفخر لريادتها في هذا الأمر

2- تمتلك العزيمة والإصرار والتحدي وتعرف مسبقًا أن طريقها شاق ولكنها مستعدة لقبول المخاطرة.

3- يظهر في التصوير ثقتها العالية بنفسها، ونظرة التصميم في عينيها.

 الأم المربّية، والمعلمة الناجحة، والطبيبة المخلصة، وأستاذة الجامعة المثقفة، والكاتبة المبدعة، وسيدة الأعمال المحافِظة، كلها نماذج نجاح يتجاوزها هذا النوع من الطرح ولاتبدو مغرية له لأنها تقليدية، فهي لاتصادم قيم المجتمع ولا تملك الإثارة المطلوبة، إذ يبدو أمرًا مملا وباهتا أن تعرض قصة نجاح أستاذة جامعية يدعو لها والداها بالتوفيق ويشد مجتمعها من أزرها لتنفع هذا المجتمع وتسهم في بنائه، بعكس الممثلة وعارضة الأزياء، وما ستواجهه من تزمّت المجتمع (المنغلق!).

في هذا السياق، تخطط إحدى القنوات لعرض مسلسل يحكي قصة نجاح (ملاكِمة) سعودية، وتبدو قصة المسلسل كله مفضوحة من إعلان لم يتجاوز الدقيقتين: فتاة تجد شغفها في الملاكمة، تعارضها أسرتها والمجتمع، تصرّ على بلوغ الهدف وتؤمن بشغفها، تنجح في النهاية و … خلصت الحدوتة، ولا أعرف ماهو الحوار الذي سيدور خلال ثلاثين حلقة بين الممثلين ليكرر فكرة سينمائية مُستهلكة، وحبكة معروفة سلفا تبدو قصة ليلى والذئب أكثر تشويقا منها.

إحدى مشهورات (سنابشات) التي لايخرج محتوى ماتقدمه عن التفاهة المستفزة، حكت مرة لمتابعاتها قصة نجاحها وكفاحها من أجل الوصول لما وصلت إليه من شهرة، وتحديها لكل من يحبطها ويقف في طريقها، ثم طلبت في النهاية منهن أن يستفدن من تجربتها في الإصرار والصبر والكفاح لبلوغ أحلامهن، أنا لا أقول إن هذه المشهورة تخطط لإفساد المجتمع، فهي شخص أبسط من هذا، لكنها تشرّبت فكرة النجاح الرديء وأصبحت تُسوّق لها تلقائيا وبصدق وبلاهة.

هذه النوعية الرديئة والضارة من الأحلام والطموحات يتم عرضها على الناشئة اليوم بأساليب جذابة تسهم في تشكيل عقولهم بطريقة سيئة، عبّرت إحدى الصغيرات عنها عندما سُئلت: ما الذي تطمحين لتحقيقه عندما تكبرين؟ فأجابت بلاتردد: “أبي أصير مشهورة!” بأي أمر ستشتهرين ياصغيرتي؟ وما الذي ستدفعينه ثمنًا لشهرتك؟ لايهم، وليس ببعيد عن القاريء احتفاء وسائل الإعلام الغربية بالفتاة الهاربة التي أعلنت إلحادها بوصفها: تحدّت مجتمعها وأصرّت على عَيش الحياة التي تريدها!

النجاح فكرة مغرية، ورؤية نماذج حية للناجحين من أعظم مايؤجج الهمم ويذكي الطموحات، ولكن هذا الأمر ينبغي أن يوزن بميزانين هامّين أعيد ذكرهما للأهمية:

1- مشروعية الهدف وتوافقه مع الشرع

2- ألا تتم التضحية بأولويات أهم من هذا الهدف لأجل بلوغه

إن مناقشة هذا الأمر مع النشء وتطبيقاته في وسائل الإعلام واجب تربوي، ليكون لديهم تصوّر صحيح لمبدأ النجاح الدنيوي المرتبط بفلاح الآخرة، والذي يحقق فيه الفرد ذاته وينهض بمجتمعه في آنٍ معًا، النجاح الذي لايتطلب بالضرورة شهرة ولاتحديا بقدر مايتطلب تزكية مستمرة للنفس وأداء لاختبار الحياة كما ينبغي، إن إهمال تصحيح هذا التصور في ظل الزخم الإعلامي المروّج للنجاح الرديء، قد يُظهر من مجتمعنا وبناتنا راقصات يرددن أن (الفن رسالة) ويظهرن في وسائل الإعلام ليحكين قصص النجاح والكفاح الملهمة في هذا !!

 

الهروب من الكمّ إلى القيمة

في العالم الغربي اليوم مللٌ من القيم المادية الفارغة من المعنى، والتي تعامل الإنسان كالبهيمة، لاتخاطب أعلى مافيه: الروح، بل تركز على الجسد حتى تشقى الروح وتبحث عن نعيمها هنا وهناك، ومن هذه القيم المادية: الجوعُ الاستهلاكي، والنهم للشراء وتكديس الأشياء، ماسمّاه المسيري رحمه الله (الفردوس الأرضي) ذلك النعيم الذي وعد به الحلم الأمريكي: أن تحصل على كل ماترغب به، فقط اعمل بجد، واكسب مزيدا من المال لتحقيق ذلك.
يمكننا مُلاحظة الوحش الاستهلاكي متمثّلا في الشركات الكبرى التي تبتلع حياة الأفراد وتسحقهم تحت عجلاتها، والمصانع التي تنتج سلعا أكبر مما تحتاجه البشرية وتستعمل التسويق الخادع وتجدد الموضة لإيهام المستهلك بضرورة (شراء) السلع التي تم (إنتاجها) مؤخرا، وكما عبّر المسيري رحمه الله: ” قديما كانت الحاجة أم الاختراع، واليوم أصبح الاختراع أبو الحاجة”.
يشعر المستهلك بتوقٍ شديد للحصول على السلعة الجديدة (ملابس، أجهزة، أثاث، سيارة…..الخ) وتُمارَس عليه حربٌ إعلامية ضَروس، ترسم له الحياة في قالب محدد قائم على الاستهلاك والتجديد المستمر، فيتجه للشراء ويشعر بفرحة غامرة تشبه شعور المدمن حين يحصل على جرعة المُخدّر، ثم يكتشف بعد فترة أنه بحاجة لشراء أخرى لأنها أفضل،  وهكذا تدور عجلة الإدمان الاستهلاكي لتخنق الأشياءُ الناسَ في منازلهم، وتجبرهم على البحث عن وظائف ومصادر دخل أعلى للوفاء بكل هذه (الاحتياجات) الجديدة، دوامة تضغط الفرد المسكين ليعمل بجد ويصب عُصارة جهده وكدّه في خزائن الشركات الكبرى؛ استجابة لمعايير مجتمع معوج أقنعه أن قيمته بمايملك، لا بما هو عليه حقا، وأنه لايوجد أسلوب آخر للعَيش.
حركة الـ Minimalism، أو كما أترجمها شخصيا: الزُّهد، حركة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، صحوةٌ من سَكرة إدمان الاستهلاك والتشيؤ، والزاهد Minimalist يقلّص حاجياته إلى الحد الضروري الأدنى ويتخلص من كل ماليس ضروريا أو مهمّا أو ذا قيمة حقيقية، بحثا عن حياة ذاتِ معنى وخروجا من دوّامة الاستهلاك وإدمان التسوق، المشاركون في هذه الحركة يؤكدون أنهم الآن أكثر تحررا وسعادة وقوة، وأن الأشياء التي أبقَوها معهم اكتسبت قيمة أعمق في حياتهم.
شابان أمريكيان أنتجا فيلما عن الـ Minimalism، يقدمان فيه منظورهما للحياة بأبسط وأعمق الأشياء، ورحلتهما في الدعوة لهذه الفكرة، شاهدتُ الفيلم، ولم يفاجئني تشابهه الشديد مع مفهوم الزهد في الإسلام، والتقلل من متاع الدنيا، وكنت ألاحظ هذه المفاهيم في الثقافات الشرقية، لكنني رأيته هنا ينطلق ثائرا على المادية والرأسمالية والاستهلاك من أكبر مروجٍ وراعٍ هذه المفاهيم: الولايات المتحدة الأمريكية.
من الجمل التي استوقفتني في الفيلم -والتي تلخص فكرته- جملة قالتها إحدى المتبنيات لهذه الفلسفة في العيش:
“We all need basics: having house, food in a table, being safe, that is really important to recognize, because not everyone has these things”
“كلنا نحتاج الأساسيات: المسكن والطعام والأمن، وهذه هي الأمور التي ينبغي تقديرها حقا، فليس كل إنسان يمتلكها”
لابد لمن سمع جملتها العميقة هذه أن يقفز لذهنه قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنا في سِربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)
طوال مشاهدتي للفيلم، تتداعى في ذهني النصوص التي أحفظها عن الزهد والتقلل من متاع العاجلة، عندما رأيت البيوت الصغيرة جدا والتي اختاروا أن يسكنوها لأنهم فعليا لايحتاجون سوى الأساسيات، تذكرت حُجُرات النبي صلى الله عليه وسلم، وحياتَه التي كانت تقوم على الأساسيات فقط، المشكلة اليوم أن من يذكر نفسه والناس بهذه القيم الأصيلة في الإسلام والتي تنسجم مع رؤية المسلم لهذه الدنيا بأنها دار ممر لا مقر، يُهاجم بأن هذا لايناسب حياتنا اليوم فـ “الدنيا تغيرت” وكأن القالب الاستهلاكي سجنٌ لايمكن الفكاك منه والتحرر، مع أن غيرنا فعلها وهو لايرجو بعثا ولانشورا.

هذه تشويقة الفيلم في اليوتيوب، ومن أراد مشاهدته كاملا، فيمكنه شراؤه من هذا الموقع، ويمكن البحث في اليوتيوب عن تجارب المنضمّين لهذه الفلسفة في الحياة، بالبحث عبر كلمتي Minimalism و Mininmalist.

كتبت هذا المقال في العام الماضي في قناتي في التليغرام عند مشاهدتي للفيلم بعد توصية من صديقة، ومؤخرًا نَشر الأخ المبدع ( علي محمد ) في قناته المميزة في اليوتيوب اثنين من الفيديوهات عن هذا الموضوع: Minimalism أو تبسيط الحياة  ( 12) وقد تناول في المقطعين تبسيط الحياة من عدة جوانب (ترشيد الاستهلاك، تبسيط البيئة والأغراض الشخصية، تبسيط العلاقات، تبسيط الحياة العمليّة)، ومن الكتب التي انتشرت في الآونة الأخيرة كتاب اليابانية ماري كوندو (سحر الترتيب) وهو كتاب يصف منظورها لترتيب المنازل من وجهة نظر شخص يتبع فلسفة التقليل أو التبسيط أو Minimalism .

بالنسبة لي، أحببت هذه الفلسفة لأن التعقيد وكثرة الأشياء أمورُ تصعّب الحياة، ولأن سِيَر العلماء والعظماء تحكي أنه كلما ازداد الثراء المعنوي للإنسان جنحَ للبساطة والتخفّف من أثقال الحياة المادية، ولأن تبسيط الحياة يحل مشكلات مجتمعية عويصة لاحدّ لها، وقد جاء الإسلام بكل هذا ولكننا قومٌ نزهد بما لدينا حتى يأتي به الأجانب فنفغرُ أفواهنا دهشة وإعجابا… !

قانون حرية الطبع

 

 

 

uploads-1475426758490-difference-entre-affacturage-assurance-credit

سألتني صديقتي الرائعة يارا في برنامج الأسك، قبل سنة تقريبا، هذا السؤال الغريب: لو سمح لك أن تضعي قانونا، فما هو هذا القانون؟ بصراحة أحب هذه الأسئلة التي تستفز العقل والقلم، فكتبت:

القانون الذي أتمناه هو قانون (حرية الطبع)
على وزن (حرية الفكر)
في ظل هذا القانون يُجرَّم ويُعاقَب كل من يحاول مصادرة حق الآخرين في أن يكون لهم طباع خاصة مادامت (لاتضر أحدا) و (لا تخالف شرعا)

ما الذي يضرك لو بقي فلان صامتا؟
ما الذي يضرك لو كان متحدثا؟
ما الذي يضرك لو كتم فلان أخباره؟ وما الذي يضرك لو أفشاها؟
ما الذي يضرك لو لم يتواجد فلان في كل مناسبة وفضل المكث في بيته أكثر؟ وما الذي يضرك لو كان أغلب وقته مرتبطا مع الناس؟
ما الذي يضرك لو كان جادا أغلب الوقت؟ وما الذي يضرك لو فضل المزاح في كل حين؟
ما الذي يضرك لو كانت علاقاته محدودة؟ وما الذي يضرك لو صادق جلّ أهل الأرض؟

فعلا…
ما الذي يضرك؟ !
النفس تميل لمن يشابهها في الطباع ويشاكلها فيما تحب وماتكره، لكن هذا لايعني أن نعتقد دوما أن طبعنا هو الأفضل وقناعاتنا هي المرجع، هذه القناعات التي نطالب الآخرين بالالتزام بها بينما قد نغيّرها نحن في غمضة عين، وندافع عن ضدها باستماتة فيما بعد! ضيق الأفق هو الذي يحمل الإنسان على “نبذ” غيره لذنب واحد: “أنت لاتشبهني…!” بينما تعويد النفس على تقبل الاختلافات مع البشر وتقديرها والإيمان بأن كل إنسان له بصمة مختلفة عن الآخرين وأن الاختلاف هو الأصل وفي كثير من الأمور لايوجد صواب وخطأ واضح وقطعي، كل هذا يجعل الإنسان أكثر مرونة، ينبغي أن نرفض السلوك لسوئه وليس لنمطه، وأكرر الشرط: الناس أحرار في طباعهم مادامت (لاتضر أحدا) و (لا تخالف شرعا) بمعنى:

*حين أكون شخصا اجتماعيا، فليس من المعقول أن أنتقد النمط الانطوائي من الناس ولا أحترم اختلافهم عني، إلا إذا أدت انطوائيتهم لسلوك خاطئ كقطيعة الرحم مثلا، فيحق لي تخطئة هذا السلوك وليس نمط الطبع العام.

* والعكس صحيح، فلو كان من طبعي الصمت، فلايحق لي انتقاد من يحسن الكلام ويزين المجلس به لمجرد مهارته في الحديث وجذب انتباه الناس واختلافه عني، بينما لو استخدم نمطه هذا في التطاول على الناس بالكلام السيء أو إفشاء الأسرار أو الغيبة أو غيرها من الكلام الضار، هنا فقط يحق لي انتقاد السلوك الخاطئ وليس مجرد الحديث الذي لاأميل إليه بوصفي صامتا وهكذا.

وحين أقول: يحق لي تخطئة السلوك فأنا أعني تخطئة السلوك نفسه وليس غيبة الشخص الذي قام به، وينبغي على الآباء والأمهات الانتباه لهذا، فبعضهم مثلا يريد أبناءه نسخة من طباعه وطباع من يحبهم ويميل إليهم وهذا تسلط وجهل، احترم طبيعة ابنك وساهم في توجيه هذه الطبيعة للخير واستثمارها فيما ينفع لكن لاتحاول مصادرتها ومصادمتها، فالاختلاف سنة الحياة، بعضهم يصل به الأمر لعدم تقبل نفسه، فالمحيط الذي يعيش فيه يقدس طبعا معينا، بينما تجده فُطر على طبيعة أخرى مختلفة، يواجهه من حوله بالانتقاص والنبذ لطبعه (رغم محبتهم له) فيصدق ذلك ويحاول أن لايكون أبناؤه مثله أبدا، مثلا: الشخص الاجتماعي في عائلة يسودها التحفظ والصمت قد يظن نفسه مجنونا ومندفعا و غير سوي، والعكس صحيح حين يوجد شخص انطوائي في عائلة اجتماعية قد يظن نفسه معقدا وفاقد الثقة بنفسه، خصوصا إذا لم يكن لدى محيطه الوعي الكافي لتقبل الاختلافات واستشعار مزايا كل نمط وعيوبه.

لو هناك عقوبات لمن يحاول مصادرة طباع الآخرين لمجرد اختلافهم عنه، فإنني أقترح أن تشمل هذه العقوبات: كتابة مقال عن محاسن الطبع الذي انتقدته ومساوئ طبعي الخاص الذي أتعصب له،  وكيف يمكن أن يستغل كل واحد منهما في الشر؟ وما مجالات استثماره في الخير؟ وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته الكرام رغم اختلاف طباعهم؟ وكيف وجههم جميعا لاستغلال طاقتهم للخير دون مصادمة أصل طباعهم؟

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ

 

قارب جدتك، وبحرك المتلاطم

uploads-1487928216061-af12ead14beedff35da44e351ef6d47e

 

 

تحرصين على مواكبة عصرك بأحدث الملابس والحلي والأثاث، وتفاصيل السفر المرفّه، وطرق تقديم الطعام المبتكرة والمحدثة، تعيشين زمانك وحُقّ  لك ذلك، فما الذي يجعلك تعيشين زمن جدتك وأمك؟ تحرصين على أن تواكب ابنتك معايير الجيل الجديد ولاتتخلف عنها، ولاترضين أن تقارَن متطلبات ابنتك اليوم بمتطلباتك أنت عندما كنتِ  في عمرها، فالزمان مختلف، والمرونة العقلية مطلب هام، وأنتِ  بالطبع سيدة مرنة تعي اختلاف الأزمنة، ومايتطلبه ذلك من اختلاف الآليات.

جميل هذا المنظور -مع التحفظ على إطلاقه- إلا أن هذا النوع من السيدات يفاجئك كثيرا، بردة فعل معاكسة، ورؤية مغايرة عندما يتعلق الأمر بطلب العلم والمعرفة، والتثقف في شؤون الأسرة والتربية وتحديات العصر الأكثر تعقيدا، فهي ترتد عن مفاهيم الحداثة هنا بشكل مفاجيء وتطالعك بغرابة قائلة: لماذا نقرأ؟ ولماذا نتثقف تربويا؟ ولماهذه الفلسفة التي لاداعي لها؟ لدينا ما يكفي، وماضرّ أمهاتنا وجداتنا كونهن أمّيات لم يقرأن حرفا، ولم يُمسكن كتابا، ولم يسمعن لمتخصص، لقد ربيننا أفضل تربية، وخرّجن أفضل جيل!

وللرد على هذا النوع من الحديث الذي يتردد أمامي كثيرا، ولسنوات عدة، وتنسف فيه جهود المؤلفين والعلماء في مجالات عدة، ويثبط المجتمع عن الاستفادة منها،  أقول باسم الله:

أولا: من قال لك -سيدتي الكريمة- أنك تلقيت أفضل تربية وأنه يصح وصفك بأنك منتمية لـ ” أفضل جيل”؟

هذه تزكية سافرة للنفس، وكأنك تقولين: أنا مثال حي للمسلم النموذجي الذي يجب أن يمتلئ المجتمع به، وبما أنني تلقيت تربيتي دون حاجة والديّ للتثقف، فسأفعل الشيء ذاته مع أبنائي، ليكونوا نسخة من أمهم العظيمة: أنا، اصدقيني القول عزيزتي: هل تؤمنين بهذا حرفيا؟

ثانيا: إن الزمن الذي رباك فيه والداك، لايشبه زماننا الحالي إطلاقا، كانت التربية بسيطة جدا، لم يكن أحد يشارك الوالدين والأسرة في التربية، لم يكن الطفل يتلقى قيما في المنزل، وقيما مضادّة في وسائل الإعلام، كانت بيئة التنشئة آمنة جدا، والساحة راكدة، فالصواب عند أمك هو الصواب في عين المجتمع كله، ومع ذلك، لم تكن الأجيال السابقة مثالية كما نردد، بل اختلفت التنشئة من أسرة لأخرى كما هو واضح، وقد استمرت البشرية في ذلك قرونا متطاولة، أما في عصرنا الحالي، فالأمر مختلف جدا، لايشبه الحياة الماضية البسيطة أبدا،  فرق معنوي شاسع أكبر بكثير من الفرق المادي بين بيتك وبيت جدتك، وبين طعامك وطعامها…الخ، أنتِ  مستعدة للقيام بعبء سد الفجوة المادية بين الأجيال، بمواكبة عصرك ماديا، وبذل النفس والمال والوقت والجهد بطيب نفس ثمنا لذلك، لكنك غير مستعدة للتغيير المعنوي وطلب العلم الذي تستطيعين به مجابهة تحديات عصرك، ففي هذا الجانب يسعك ماوسِع أمك وجدتك، ولا داعي للترف!!

صدقيني هذا ليس ترفا، بل ضرورة أشد إلحاحا من استخدام جوال ذكي، أو صنع طبق حلوى مبهر، أو ترتيب أثاث بيتك بما يتوافق مع متطلبات زمانك، أبناؤك يحتاجون أُمًّا قوية إيمانيا، مؤصلة عقديا، واعية بمايموج في الساحة الفكرية، قادرة على قراءة أفكارهم ومناقشتهم في ما يطرأ من شبهات وأفكار والرد عليها، يحتاجون أما تنتمي لعصرهم، وتعرف أفكارهم، وتجيب عن تساؤلاتهم بعلم غزير وفقه للواقع، لايريدون أُمًّا ترتدي قميص (بيربري)، وتتقن أدق تفاصيل الحياة المادية المرفهة،  لكنها فقيرة معنويا، تتشرب الأفكار الوافدة من شهيرات السناب دون إدراك حقيقي لما تمارسه وسائل الإعلام من تغيير مجتمعي ناعم، تعيش وسط أمواج تحديات متلاطمة ظانّة أن مركب جدتها البسيط سيقيها الغرق، إذا كنت مصرّة على ركوب قارب جدتك وعدم إبداله بسفينة قوية، فعودي بأسرتك إلى الوراء، وأبحري في نهرها الهادئ، عيشي في بيت الطين، بلاتقنية، حيث لايدخل المنزل إلا حكايا نسوة الحارة الطيبات.

 

هذه المقالة من أرشيف مدونتي السابقة على منصة اكتب، نشرتها لأول مرة بتاريخ 24/2/2017