كيف أصابتنا حُمّى الاستهلاك؟

e-commerce22-1

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يمكن اعتبار انتشار ثقافة الاستهلاك والماديات من أعظم التغيرات السلبية في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، بما لها من تبِعات نفسية واجتماعية واقتصادية، وأراها تزداد شِدّة وانتشارا عاما بعد عام، وقد اخترت في هذا المقال أن أتحدث عنها من خلال تتبع نشأة عملية الاستهلاك، ومظاهرها في حياتنا اليومية، وطرق التخلص منها، وأهمية دورنا في ترسيخها، أو النجاة منها.

كان الناس في الماضي يشترون مايحتاجون فقط، فالأسواق محدودة، وإنتاج الحرفيين واستيراد التجار مرتبطان بالحاجات الفعلية للناس، مع هامش كماليات بسيط، لكن العالم انتقل نقلة نوعية بعد عصر النهضة الأوروبية التي مهّدت للصناعة والرأسمالية، فقد كثرت المصانع والسلع والمخترعات، وأصبح الإنتاج أسهل بسبب الثورة الصناعية، إذ يمكن لمصنع أن يُنتج في ساعة ماينتجه الحرفي في عشرات السنوات سابقا.

لم تعد المشكلة أن الطلب أكثر من العرض، بل انقلبت وأصبح العرض يفوق الطلب، وهذا يهدد أصحاب رؤوس الأموال والمصانع بالكساد والخسارة، فنشأ فنّ التسويق الذي كان بدائيا ثم تطور، واستفاد من نظريات علم النفس وعلم الاجتماع فائدة كبيرة، ليضمن استمرار الناس في الشراء وعدم تكدّس السلع، التحدي الذي واجهه المنتجون هو: كيف نقنع المستهلك بشراء منتجنا وهو لايحتاجه حقيقة؟ والجواب بسيط وعميق: لابد من خلق شعور بالحاجة إلى هذه السلعة وتصعيد الرغبة فيها إلى الحد الذي يجعل المستهلك يقرر أن شراءها أمر لابد منه.

 كان التسويق شخصيا عبر الباعة المتجولين وفي الأسواق، ثم ظهرت الإعلانات المطبوعة في الصحف والمجلات والشوارع، ثم انتقلت نقلة نوعية بانتشار التلفزيون في المنازل في أواخر القرن العشرين، أما بعد ظهور الانترنت، ثم وسائل التواصل الاجتماعي فقد قفز التسويق قفزات هائلة، وبالتالي انتشرت حُمّى الاستهلاك والمادية في العالم أجمع، واخترقت كل طبقات المجتمع، بدلا من كونها محصورة في المجتمعات الرأسمالية أو الطبقات المخملية في المجتمعات الأخرى.

يعتمد فنّ التسويق على فهم نفسية الإنسان وكيفية التلاعب بها بإثارة رغبته في الحصول على سلعة ما، وشعوره بالحاجة الشديدة لها، حتى يقرر شراءها وهو يظن أنه مُختار، بينما هو في الحقيقية مُرغَم وواقع تحت تأثير التسويق، وتضمن الشركات عن طريق التسويق تنميط سلوك الإنسان، أي التأثير عليه ليكون الشراء عادة عنده وليس سلوكا عارضًا، من أجل ضمان عدم تكدّس السلع.

من أهم الأمور التي يعتمد عليها التسويق تأثّر الإنسان بالبيئة من حوله مهما كانت قوة قناعاته الداخلية، فهو يتأثر بالصور التي يراها، والسلوكيات التي يقوم بها الناس في مجتمعه، فمثلا قبل عدة سنوات كانت المرأة العاقلة حتى لوكانت غنية ميسورة لايمكنها أن تدفع آلاف الريالات لشراء حقيبة، ولا يمكن أن يوافق الأب العاقل على إقامة حفلة لابنه في فندق فخم لمجرد أنه تخرج من الروضة، لكننا اليوم نرى هذه السلوكيات شائعة جدا لسبب واحد: لأن الجميع يفعل ذلك، فقد تم تنميط سلوكيات المجتمع وتحول الإسراف والاستهلاك لعادات راسخة يصعب اجتثاثها رغم تأذّي الجميع منها.

يبدأ الأمر عادة بمجموعة صغيرة: نجوم التلفزيون أو السينما أو الأثرياء جدا، ثم مشاهير التواصل الاجتماعي، ثم يتطبّع المجتمع على السلوك وينتقل لعامة الناس، وهؤلاء بالذات -أعني عامة الناس- يسوّقون للشركات من جيوبهم الخاصة، فهم يشترون السلع بمالهم، ويصوّرون بجوالاتهم، فينتشر السلوك الاستهلاكي في المجتمع انتشار النار في الهشيم، وترتفع المبيعات ويزداد الاستهلاك، ولاتمضي سنوات قليلة حتى يُعدي الأجربُ السليمَ، ولا تكاد تجد عاقلا إلا من رحم ربي.

تعد حُمّى الاستهلاك حديثة نسبيا في مجتمعاتنا العربية، فهي حدثت أولا في المجتمعات الغربية التي تحكمها الأنظمة الرأسمالية وعلى رأسها: الولايات المتحدة الأمريكية، وقد قويت في نهاية القرن العشرين، ثم تضخّمت مع الألفية، ووردت إلينا مع الانفتاح الإعلامي، وقد تحدّث مفكرون عدة عن هذا الأمر وتأثيره على الأفراد والمجتمعات، ومنهم الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي وصف التسويق وإشاعة سلوك الاستهلاك بأنه (امبريالية نفسية) بمعنى استعمار نفسي، فهو يقول إن الاستعمار العسكري الذي يُنزِل الجيوش إلى الأرض بهدف نهب ثروات البلد قد ولّى عهده، وحلّ محلّه الاستعمار النفسي الذي يحتل عقل الإنسان ومشاعره ويجعله يهب ماله طوعًا للشركات، بل ويسعى لزيادة دخله من أجل المزيد من الاستهلاك وتحقيق الربح للشركات، وهذا اقتباس من كلام المسيري رحمه الله، وأرجو أن يدرك القارئ أن كلمة امبريالية تعني: استعمار

إن أبعاد الامبريالية النفسية أكثر عُمقًا وشمولا من الامبريالية العسكرية، فهي تنطلق من الإيمان بأن الهدف من الإنتاج هو الاستهلاك، وأن الهدف من تزايد الإنتاج هو تزايد الاستهلاك، وأن حياة المرء تكتسب معنى إن هو استهلك، ومزيدًا من المعنى إن هو صعّد استهلاكه (وقد عُرّفت التنمية والحداثة بأنها ثورة التوقعات المتزايدة)، وأن الإنسان أساسًا حيوان اقتصادي جسماني لايبحث إلا عن منفعته الاقتصادية ولذته الجسدية، وأن سلوكه لابد أن يصبح نمطيا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع، هذا الإنسان لايهدف في حياته إلا إلى تحقيق المنفعة واللذة، ويرى أن خلاصَهُ يكمن في ذلك، ولذا كانت الحاجة أم الاختراع في الماضي، أما في هذا الإطار فالاختراع هو أبو الحاجة، إذ لابد أن تظهر سلعة جديدة كل يوم، ومن هنا يدخل الإنسان دائرة الإنتاج التي لاهدف لها، والآخذة في الاتساع إلى مالا نهاية.       (المذكرات، ص 256)

سأضرب في الفقرات التالية مثالا لخلق السلوك الاستهلاكي وهو مثال ( الاحتفالات والهدايا)، ويمكن للقارئ أن يقيس بناء عليها سلوكيات استهلاكية كثيرة كالهوس بالماركات، والأجهزة، وإدمان السفر والمطاعم، وعمليات التجميل وأدوات الزينة والملابس الفاخرة، و كل الكماليات التي أصبحنا نراها ضرورة وقد عاش أجدادنا آلاف السنوات بدونها.

ثقافة الاحتفال وتبادل الهدايا موجودة في كل الثقافات والشعوب، وقد حثّ شرعنا المطهّر على الاحتفال بالأعراس والعيدين، وأباح الاحتفال بالمناسبات بشكل عام إلا مادلّ الدليل على حُرمته، كما حثّ على الإهداء وقبول الهدية لأن ذلك مما يقرب القلوب لبعضها وينشر المحبة، لكن الثقافة الاستهلاكية قفزت بهذا الأمر الطبيعي الجميل إلى مستويات ظهر فيها الإسراف من وجهين: الأول هو إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال، والثاني: الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا، بمعنى استغلال عادة موجودة من القدم، والقفز بها كمّا وكيفا لغرض الربح المادي.

  • إختراع المناسبات من العدم  لمجرد الاحتفال:

إن ترويج ثقافة الاحتفال الدائم، أمر تسويقي بحت، الهدف منه حثّ المستهلك على الاستمرار في الشراء لضمان رواج السلع التي تقذفها المصانع كل يوم، فالمستهلك لايخرج من مناسبة إلا ليدخل في دوامة مناسبة أخرى، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، تستفيد الشركات استفادة عظمى من توزيع المناسبات المختلفة على مدار العام: يوم الحب، يوم الأم، الكرسماس، يوم الشكر، الهالوين، يوم الأب، يوم العمال، يوم المعلم…قائمة طويلة من المناسبات العامة، تنشط فيها الأسواق، وتُقدّم العُروض والتخفيضات، وتروّج الإعلانات.

كما تُشجّع ثقافة الاحتفال بالمناسبات الخاصة وإيجاد أي مبرر للاحتفال، فمن الممكن مثلا أن تقيم أمٌّ حفلة بمناسبة تعوّد طفلها على استخدام الحمام، أو تقيم أخرى حفلة طلاق، أو حفلة توديع العزوبية، أو حفلة تقيمها الصديقات بمناسبة مرور عقد على صداقتهن، أو بمناسبة وصول عدد المتابعين لكذا…وهكذا قائمة طويلة لاحتفالات متقاربة جدا في زمنها، وفي كل عام ترى عجبًا من الإبداع والتقليد في اختراع المناسبات حجة للاحتفال، وقد سرى هذا الأمر لمجتمعنا فأصبحنا نسمع بدعا جديدة من الاحتفالات المستمرة لمناسبات تشعر أنها اختُلِقت اختلاقا لمجرد الاحتفال، بل ويتعدى الأمر ذلك للاحتفالات التي تخالف الشرع كعيد الحب، أو ابتداع احتفالات دينية لم يرد بها الشرع كاستقبال رمضان مثلا.

  • الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا:

أمر آخر  أود لفت الانتباه للمبالغة فيه، وهو أن الهدايا والحفلات أصبحت تتجه -سنة بعد أخرى- للبذخ والمبالغة، حيث لم تعد الهدية المتواضعة أو الحفلة البسيطة مُقنعة، فالجميع يتوق لإعطاء واستقبال هدايا باهظة الثمن،  دون مراعاة الحالة المادية للأسرة أو الفرد، فتوقعات الجميع ارتفعت ولابد من تلبيتها، تصوروا كيف يمكن لأب بدخل متوسط لديه خمس بنات مثلا، أن يلبي رغباتهن في الاشتراك مع صديقاتهن بحفلات فخمة، وهدايا ثمينة، ثم هدايا رمضان أيضا ؟! والأمر لم يقف عند الإسراف في الهدية فحسب، بل في طريقة تغليفها المتكلفة جدا والتي لافائدة منها سوى التصوير.

أجزم أن كثيرا من العقلاء قد تأذّى من انتشار حُمّى السلوك الاستهلاكي في مجتمعنا، فآثاره وخيمة، أخطرها على الإطلاق تعظيم قدر الدنيا وزينتها في القلب، وهذا يصدّ عن الغاية الكبرى وهي الآخرة، وقد سمّى المسيري المادية في الفكر الغربي بــ(الفردوس الأرضي) حيث يقوم الحُلُم الأمريكي على فكرة تحقيق السعادة الفردية المطلقة في هذه الدنيا، فالحياة المثالية تقوم على تحقيق النجاح الشخصي والثروة الطائلة وكل مايتمناه المرء من ماديات، حيث تخلى الإنسان الغربي عن فكرة الفردوس السماوي (الجنة) وقرر السعي للفردوس الأرضي في الدنيا.

ومنها أيضا الإرهاق المادي الذي يُثقل كاهل الأفراد والأسر، ويجعلهم يشعرون بالحاجة أو الفقر رغم الغنى أو الكفاف، لأن التوقعات والمتطلبات تتزايد عاما بعد عام، مما يُشعر الفرد بعدم الاكتفاء، والحاجة لدخل إضافي، وقد يجرّ هذا لإرهاق المرأة أيضا بضرورة السعي لزيادة دخل أسرتها إضافة لأعبائها الأسرية، أو الرجل بضرورة البحث عن دخل إضافي لتلبية الحاجات المتزايدة، كما يجرّ السلوك الاستهلاكي لاستنفاد مدخرات الأسرة في الكماليات، وإهمال الضروريات كشراء مسكن أو ادخار مبلغ لقادم الأيام.

ولاتقف آثار حُمّى الاستهلاك هنا، بل تمتد لتغزو نفس الإنسان، وتشعره بالدونية عندما لايستطيع مجاراة غيره، مما قد يصيبه بأذى نفسي كبير، قد يتطور للاكتئاب والقلق والانطواء، وتمتد للعلاقات الاجتماعية فتجعل تقييم المرء في المجتمع ومكانته قائمة على مستوى معيشته، لا على أخلاقه وقرابته وسنّه وغيرها من الاعتبارات الصحيحة، والحاجة للتقدير أساسية وعميقة في نفس الإنسان، فإذا لم يجد التقدير إلا بالمادة فسيبحث عنها ليضمن مكانته، وماظنك بأخلاق مجتمع لا يبحث أفراده إلا عن المال، وما يمكن أن يجلبه المال من ماديات ومكانة مصاحبة؟ وما ظنّك بالقيم التي سيتربّى عليها جيلٌ ولد ونشأ وكبُر في ظل هذه الثقافة؟

آمل أن أكون قد وفقت في إلقاء نظرة على هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه، لكنني لن أختم المقال دون وصف طريقة الخروج من هذا النفق، و بيان دوري ودورك أيها القارئ في إنقاذ مجتمعنا منه، ولعلي أوجز هذا الدور في ثلاث مراحل هامة:

  • أولا: إرادة التغيير:

لابد أولا من إدراك أننا في مشكلة، وعدم التعامي عنها أو الرضى بها، فالاعتراف أول طرق العلاج، وأظن أن كثيرا منا تجاوزوا هذه الخطوة ولله الحمد، يأتي بعدها اليقين بالقدرة على التغيير بإذن الله، لا تستسلم وتظن أن ثقافة الاستهلاك والماديّات حتمٌ لازمٌ ليس أمامنا إلا الاستسلام له أو الاكتفاء بالنقد الخافت.

  • ثانيا: بناء الوعي:

لابد من التذكير المستمر بحقيقة الدنيا وأنها دار ممر لا مقرّ، وأن المسلم فيها مسؤول عن وقته وماله وتصرفاته، وأنه عبدُ لله، لا لهواه وشهواته ومايفرضه عليه الإعلام والمجتمع، ثم التثقيف بمسألة الرأسمالية والاستهلاك، وتأثير وسائل الإعلام على نفسية الإنسان، ومشاهدة الأفلام الوثائقية أو قراءة الكتب التي تُعمّق فهم الموضوع، ولاعذر لإنسان في عصر المعرفة هذا أن يبقى جاهلا بأساليب التلاعب بوعيه ويرضخ لها، ثم محاولة نشر هذه الثقافة في الأسرة والأبناء والمجتمع بحسب مستوى تأثير الإنسان، إن بناء الوعي مرحلة جوهرية، لأن إدراك جذور المشكلة ووسائلها يُشعر بالقوة تجاهها، وكما أن المجتمع الأمريكي سَبق العالم في دخول نفق الاستهلاك، فهو سبق العالم أيضا في التنبّه لآثاره الخطيرة ومحاولة الخروج منه، ويبدو ذلك في تنامي اتجاه التقليل أو مايسمى بـ minimalism   وهي ثقافة جديدة آخذة في النمو هدفها الخروج من دائرة الاستهلاك، وقد كتبت مقالا  عنها (هناولابد من تذكير النفس والآخرين بأهمية تقدير نعمة المال، وأن النعمة معرّضة للزوال، وأن شُكرها هو حفظها لا إضاعتها، فالفقر والجوع خطرٌ يهدد الأمم في كل زمان ومكان، نسأل الله العافية وأن يردّنا إليه ردّا جميلا.

ثالثا: سلوك التغيير:

وهذه هي الحلقة الأصعب، إذ يمكن أن نريد التغيير، ونثقف أنفسنا، لكننا نفوسنا تضعف عند التطبيق، ونستمر في السلوك الاستهلاكي، بل وننشره دون أن نعلم، وهنا لابد من المجاهدة والموازنة، لابد أولا من إغلاق الصنبور والتخفف من متابعة الحسابات التي تشجع على الاستهلاك وتزيد التعلق بالدنيا وزينتها، واستبدال ذلك بسلوكيات تعزز الجانب الإيماني، والعقلي، والصحي، كتلاوة القرآن وقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم القراءة، والدراسة، والرياضة، وممارسة الهوايات، إن وقتا طويلا يضيع مع وسائل التواصل التي تُضخّم جانب المادة في نفوسنا، مما يُضمر بقية الأبعاد في شخصية الفرد، ويضعف أهميتها في المجتمع.

لابد أيضا من تعويد النفس على الصبر، وتأجيل بعض الرغبات لحين التأكد من أهمية شراء السلعة المعينة، كما ينبغي ترك التبذير، والإنفاق بما يتلاءم مع الدخل فقط، وألا نكلف أنفسنا أو أهالينا مبالغ طائلة لمجرد اتباع الهوى ومجاراة الناس أو حب التفوق عليهم، ولنجعل شعارنا (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ )، لا تستهن بدورك، فأنت قدوة، إن تبسيطك لحياتك ورفضك لمجاراة السَّفَه الاستهلاكي، دليل وعيك، وسيجعل الكثيرين يقتدون بك، كما أن رفضك هذا تعبيرٌ عن قوتك واستقلالك أمام من يريد استعمار نفسك والاستيلاء على مافي جيبك.

كما أودّ أن ألفت الانتباه لسلوك قد يفعله المرء دون قصد إشاعة السلوك الاستهلاكي عند الناس، لكن تأثيره عظيم جدا، وهو التصوير والنشر، إن نشرك لصور الحفلات والهدايا والمشتريات الثمينة والماركات والسفر والمطاعم وكل ماشابه ذلك له أثر كبير على المتلقي، ولعلك توافقني في أن الصورة تخلق العدوى، وأن حسابات وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تطبيع المجتمع على عادات الاستهلاك كما لم يفعل أي شيء آخر، لذلك لا تستهن بدورك، أوقف تصوير أي سلوك استهلاكي ونشره، واجعل نيّتك في ذلك مساعدة المجتمع على التخلص من هذا الداء، واعلم أن الله لايضيع عنده شيء ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7).

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

12-عمل المرأة: لماذا أصبح ضرورة؟

busy mother

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتبت تغريدة في تويتر قبل عدة أيام أبديت فيها استغرابي من الغلو في أهمية عمل المرأة اليوم واعتبار وظيفتها ضرورية كالماء والهواء، حتى إن المرأة التي لم تتوظف بعد تُعدّ في أزمة تنتظر انفراجها، أما من ترفض الوظيفة وتفضّل المكوث في المنزل أو عدم السعي لها فتلك مجنونة، وختمت التغريدة بقولي: ما الذي حل بالناس؟

كانت الإجابة حاضرة في ذهني: الأمر الذي حلّ بالناس هو مجموعة من التغيرات الثقافية والاجتماعية بشأن المال والمرأة والأسرة، اختلفت المواقف التي تبناها الأشخاص الذين تفاعلوا مع التغريدة في الردود أو على الخاص أو في حسابي في صراحة، فمنهم من يؤيد استغرابي ويقول إن التكالب على الكماليات هو السبب، ومنهم من أرجع الأمر إلى احتقار دور ربة المنزل، أما المعارضون فقالوا إن الوظيفة أضحت ضرورة قصوى اليوم بسبب غلاء الأسعار وصعوبة المعيشة واستحالة قيام الأسرة المعاصرة بعائل واحد، ومنهم من قال إن الوظيفة أمان من نوائب الدهر و أن المرأة لا تضمن استمرار زواجها أو وفائه أو حياة والدها، فئة أخرى قالت إن جلوس المرأة في المنزل يعد سلوكا اتكاليا، وأنه من العيب عليها -مادامت قادرة على الكسب- أن تقبل أن ينفق عليها أحد!

هذه الردود -المؤيدة والمعارضة- كلها ردود تعبّر على الأقل عن فهم لطبيعة السؤال المطروح، لكنني واجهت أيضا ردودا غير منطقية، تنمّ عن استعجال شديد ورد قبل الفهم -كما هي العادة في تويتر للأسف- هذه الردود فهمت من استغرابي من تعاظم أهمية عمل المرأة أنني أطالب بإلغاء الوظائف النسائية وأطلب من جميع النساء التخلي عن جميع الوظائف،  مثل:

  • لماذا توظفتِ إذا مادمت ترين الوظيفة عيبا؟ (متى قلت إنها عيب؟!)
  • هل تريدين من المرأة المحتاجة أن تتسول في الشوارع بحثا عن لقمة عيش لها ولأبنائها؟ (كيف قفزتم لهذا الفهم؟)
  • ليس كل الناس مثلك أثرياء! (من قال إنني ثرية؟)

كثير من الردود المؤيدة لضرورة عمل المرأة انطلق أصحابها من أهمية الوظيفة على المدى القصير في كون أهميتها نبعت من الاحتياج المالي المعاصر وتعقيد الحياة، لكن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا، بدليل أننا نرى اليوم كثيرا من بنات وزوجات المقتدرين والأثرياء يسعين للوظائف سعيا محموما مماثلا لغيرهن، وأن النساء اليوم يقبلن بوظائف مُهينة أو مختلطة لم يكنّ ليقبلن بها قبل عدة سنوات ولو كُنّ أشد فقرا.

إن اختزال تعاظم أهمية عمل المرأة اليوم في مسألة الاحتياج المالي والتغيرات الاقتصادية نوع من التسطيح، يجعلنا لاندرك جذور الأمر ولا ثماره، ولايمكن أن يقول به إنسان يدرك أسباب التغير الثقافي والفكري للمجتمعات، ويدرك دور الآلة الإعلامية في محو ثقافة الشعوب وإحلال ثقافة أخرى بديلة محلها، من المهم أن نمارس مهارات التفكير العليا، أن ننظر للأمر من الأعلى لندرك جذور هذا التغير، ومظاهره وثماره، لأن المجتمعات الواعية فقط هي القادرة على الإصلاح والتغيير، أما المجتمعات التي تستسلم للتغيرات دون أن تعيها، أو تفكر في قدرتها على نقدها وتعديلها، فستبقى ضحية لها.

هناك أربع أفكار مترابطة يمكن أن نُرجع لتغلغلها في المجتمع كثير من التغيرات الثقافية ومنها اعتبار وظيفة المرأة ضرورة، وسأعرضها في هذا المقال بشكل مبسط بعيدا عن اللغة الأكاديمية أو الفلسفية، لأنني على قناعة بأهمية وعي جميع الناس لمظاهرها وتأثيراتها، ولعلها تقود القارئ للتوسع في البحث حولها فأنا لن أستطيع في مقال أن أفصّل جذورها وتأثيراتها، إنما أردت لفت الانتباه لعمق الموضوع وأهميته، هذه الأفكار منتشرة فعلا بيننا لكننا نظنها أحيانا مجرد تغير اجتماعي عفوي، ولا ندرك جذورها الفلسفية العميقة، وكما قال رتشارد تارناس، مؤلف كتاب آلام العقل الغربي: “لابد لكل جيل من أن يُعاين ويُقلّب مرة أخرى، من موقعه المميز الخاص، جملة الأفكار التي شكلت فهمه للعالم” لهذه الأفكار علماؤها ومنظّروها، ومروّجوها في العالم، وبالتالي ينبغي أن لا نتعامل معها على أنها قدر محتوم، بل أفكار لنا الحق في رفضها أو قبولها أو تعديلها:

1- المادية Materialism:

تقوم الفلسفة المادية على تعظيم أهمية المادة بدلا من العقل أو الروح، فلا يهم ذكاؤك وعلمك، أو تدينك وأخلاقك، قيمتك تتحدد في الماديات التي تتملكها: منزلك، سيارتك، أثاث بيتك، نوعية ملابسك، تتبين لك مظاهر الفلسفة المادية عندما تتابع مشاهير انستغرام وسناب شات مثلا، فقد بنوا شهرتهم على مايمتلكونه من ماديات: سفر، مطاعم، مجوهرات، قصور، ماركات عالمية، وكل مظاهر الحياة المترفة، عندما يتعرض عامة الناس ليوميات هؤلاء، فإنهم يتأثرون تدريجيا، ويزهدون في معيشتهم، وبالتالي تشعر المرأة أن نفقة والدها أو زوجها غير كافية، فطموحاتها ومعاييرها أكبر بكثير، فتصبح الوظيفة ضرورة قصوى لإشباع الحاجة للماديات.

إن الفلسفة المادية متجذرة في البشر، لكنها في الوقت المعاصر أصبح لها آلة إعلامية ضخمة تخدمها وتروّج لها، وشركات عالمية تستفيد اقتصاديا من بث النهم الاستهلاكي في الناس، وإبقائهم زبائن جائعين للسلع والكماليات باستمرار، ترتبط المادية بالرأسمالية والهوس الاستهلاكي، وهذه المادية أحد أهم أسباب توق النساء لدخل مادي خاص لم تكن معظمهن بحاجته قبل سنوات قليلة، كما أن النهم الاستهلاكي أثّر على الثقافة المالية للأسرة، فأصبحت بعض الأسر غير قادرة على الادخار للأمور الأساسية كبناء مسكن مثلا أو تسديد فواتير الخدمات الأساسية، ومضطرة للاستدانة نهاية الشهر رغم ارتفاع الدخل، لأنها تنساق مع الكماليات والمظاهر وتبذل فيها معظم دخلها، وبالتالي يظن أفرادها أن الحل في توظيف المزيد من أفراد الأسرة بدلا من معالجة الخلل الأساسي، مع أننا نرى اليوم أيضا أسرا تمتلك المسكن والحياة الكريمة -غير المسرفة- وليس لها عائل إلا الأب وبوظيفة عادية،  في كثير من الحالات يعود الأمر لحسن تدبير المال لا إلى مقداره، فالحل ليس في إضافة عبء جديد للمرأة وإشعارها بأن أسرتها مضطرة لوظيفتها، بل في تثقيف الأسرة وتوعيتها.

2-الليبرالية Liberalism:

يقوم الفكر الليبرالي في الأساس على الحرية والمساواة، لا على العدل والحق، فحرية الفرد مقدمة في الفكر الليبرالي على تماسك المجتمع، وتعطيل المرأة عن العمل عندهم يعني ظلم النساء وفقرهن وحصر المال في أيدي الرجال، إذ لابد من المساواة في ذلك، وليس هناك وظائف مخصصة للنساء وأخرى للرجال، فالمساواة تقتضي أن كل عمل يعمله الرجل، فإن من حق المرأة القيام به، والعكس صحيح، فلابد للرجل من أن يتقاسم عمل المنزل مع المرأة، ولابد من تمكين المرأة من مهن الرجال كأن تكون جنديا في حرب، أو لاعبا لكرة قدم، أو عاملة في محل إصلاح سيارات أو بائعة في سوبرماركت، أو حارسة أمن، وقِس على هذا عشرات المهن التي بدأت تُسوّق لبناتنا اليوم.

3- النسوية Feminism:

النسوية فكرة ولدت من رحم الليبرالية، ولكن مطامعها أعلى، فهي لاتطمح للمساواة فحسب، بل لاستقواء النساء في العالم، يمكن تلخيص فكرة النسوية بأنها محاولة لنبذ قوامة الرجل في الأسرة، وإقامة حياة المرأة على أساس الاستغناء عن الرجل، فربة البيت التي تحتاج النفقة من زوجها، ذليلة في نظرهم وخاضعة للنظام الذكوري أو السلطة الأبوية، وعليها فورا أن تبحث عن مصدر رزق يجعلها قادرة على الاستغناء عن ولي الأمر، فالاستقلال المادي بوابة الاستقلال الحقيقي عن سلطة الرجل، ولاتعترف النسويات -أو النسويون- بتكامل الأدوار في الأسرة، بل لابد من (تمكين المرأة) وقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة في مؤتمر السكان والتنمية عام 1994 ثم ألِفَتهُ الأسماع بعد ذلك دون الانتباه لدلالاته الحقيقية وآثاره، وقد ارتبط هذا المصطلح بالتنمية الاقتصادية، حيث تُقاس فاعلية الفرد في المجتمع بمدى قدرته على كسب الدخل المادي فحسب، فربة المنزل تسمى عاطلة لأنها لاتكسب كسبا ماديا، أما دورها المعنوي في بناء الأسرة ورعاية المنزل وتربية الأبناء فلايعد شيئا لأنه لايمكن قياسه بلغة الاقتصاد والمال.

ويمكن ملاحظة تأثر المجتمع بهذا الفكر من انتقال مركزية الزوج والأولاد في حياة المرأة المسلمة إلى مركزية الوظيفة، ففي السابق كانت مكانة المرأة يحددها من هو زوجها وكم عدد أولادها، أما اليوم فالمكانة تتجه لمنصبها الوظيفي أكثر، وبالتالي قلّ الحرص على تأمين مستقبل المرأة بزوج وعدد كبير من الأولاد يجنبونها غوائل الزمن، وانتقل شعور الأمان إلى الوظيفة ومستواها المادي، وأصبح الوالدان لايطمئنان على ابنتهما بزواجها وإنجابها كما كان الأمر سابقا، بل بتأمين وظيفة لها، كما انتقلت الأسئلة الفضولية في مجتمعات النساء من الاستفسار عن سبب تأخر الزواج أو الإنجاب، إلى الاستفسار عن سبب الجلوس بلا وظيفة، كما انتقل شعور الحسد من نوعية الزوج وعدد الأولاد إلى نوعية الوظيفة ودخلها المادي، أما الطلاق فقد قلّت الحساسية منه وانتقل التجريم إلى الاستقالة أو التقاعد المبكر، أنا لا أؤيد اعتبار الزوج والأولاد أمانًا، فالأمان من الله، لكنني أتأمل تغلغل الفكر الغربي إلى مجتمعنا المسلم المحافظ، واحتلال الوظيفة لمكانة الأسرة وقفزها لتكون أولوية في حياة المرأة.

4-التقدمية Progression:

التقدمية هي الفكرة الغبية الأم التي تسوق لكل الأفكار الثلاث المذكورة أعلاه، فملخص التقدمية هو الإيمان بأن الأفكار الجديدة هي الصحيحة، وأن الأفكار القديمة هي الخاطئة، وأن مايفعله الناس في عام 2019 أفضل وأعقل وأرشد مما كان يفعله الناس عام 1950 مثلا، ولذلك تروج الأفكار الثلاث الأخرى لأنها حديثة، ومن ثمّ لابد لك من استبدال قناعاتك القديمة البالية حول الأسرة والمرأة والمال بقناعات أخرى جديدة تلائم العصر، لأنها جديدة ولأن العالم يتقدم للأفضل بلا شك، وقد فصّلت الحديث عن الفكرة التقدمية في مقال سابق (هنا).

كثير من الناس في مجتمعات المسلمين قد تشرّب هذه الأفكار الأربع أو بعضها -بدرجات متفاوتة- تدريجيا و خلال سنوات طويلة، لقد تغلغلت في أذهاننا بطريقة ناعمة، عبر المسلسلات والأفلام ووسائل التواصل الاجتماعي والكتب والروايات والاختلاط بالمجتمعات الأخرى، ثم بمشاهدتها على أرض الواقع، والتسليم بهذا الواقع كأمر ينبغي مجاراته واللحاق بركبه بدلا من نقده وتمحيصه وامتلاك حرية رفضه أو تعديله، إننا مجتمعات تابعة -ولابد من الاعتراف بهذا- نستقبل مايرد إلينا دون أن نحاكمه بدقة إلى مرجعيتنا: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أحيانا بسبب الجهل بأحكام الشريعة وإهمال تعلمها، وأحيانا أخرى بسبب الانبهار بالأفكار الجديدة وعدم الرغبة في نقدها؛ لأن نقدها يعني إمكانية رفضها، ورفضها يعني أن نوصم بالتخلف وهو وصف نحاول الفرار منه بسبب الشعور العميق بالنقص أمام المُنجَز المادي الغربي، وخضوعنا له حتى في تعريف التقدم والتخلف.

هذه المفاهيم المذكورة أعلاه تخالف أصول الإسلام وثوابته ولا يغرّك أن بعض تفاصيلها موجود في الإسلام، فالإيمان بالفكرة المادية يعني تقديم الدنيا على الآخرة، والمادة على الروح، كما أن الفكرة الليبرالية والنسوية تنسف نظام الأسرة والميراث والحقوق والواجبات الثابتة شرعا بين الزوجين، فأدوار الرجل والمرأة في الأسرة في الإسلام قائمة على العدل لا على المساواة، فكل منهما يسد ثغرا مختلفا عن الآخر، وكل منهما يكمّل دور الآخر ولايطابقه، أما الفكرة التقدمية فهي تفرض أن الحكم على الأفكار بالرفض والقبول عائد لزمنها لا إلى مصدرها، فإذا كان الإسلام يوجب النفقة على الرجل ويجعل له القوامة على الأسرة، فإن الفكرة التقدمية تقتضي أن نرفض هذا وأن نساير الفكرة الأكثر حداثة: فالمرأة مسؤولة عن نفسها، وليس للرجل عليها أي قوامة، لماذا؟ لأن الفكرة الأولى قديمة وقد انتهت صلاحيتها، والفكرة الجديدة طازجة وصالحة للاستخدام، هكذا ببساطة ! وهذا مايفسر لك الانفصام الذي يعانيه كثير منا، فهو مسلم يحب الله ورسوله، لكنه -شعر أم لم يشعر- يتبنى أفكارا مخالفة لثوابت الإسلام ويعتبرها من المسلّمات لمجرد أنها أكثر حداثة، ثم يحاول ببؤس شديد أن يُحدِث بينها وبين الإسلام تلفيقا مصطنعا ليرتاح من تأنيب الضمير.

أرجو أن يكون القارئ أعقل من أن يستنتج أنني أرفض سعي النساء للتوظيف، فالإسلام لم يحرم كسب المرأة للمال: إما بالعمل، أو الميراث، أو التجارة، أو الهبة، وترك لها حرية التصرف في مالها، وأوجب على زوجها النفقة عليها حتى لوكان فقيرا وهي غنية، كما أن حديثي لايشمل الأسر التي لا عائل لها إلا المرأة،  ما أريد لفت الانتباه إليه في هذا المقال هو أننا قبل الانفتاح الإعلامي الذي شجّع تدفق الأفكار السابقة إلى اذهاننا دون وعي، عشنا منسجمين مع ذواتنا، فلم تكن وظائف النساء ممنوعة: كان منا المعلمة، والطبيبة، وأستاذة الجامعة، وسيدة الأعمال، والبائعة في منزلها، لكن المنطق الفكري الكامن خلف وظائف النساء اختلف اليوم وتأثر بالأفكار المذكورة أعلاه: أصبحت الوظيفة اليوم وسيلة لإشباع النهم الاستهلاكي، فنفقة الرجل لم تعد كافية لإشباع الرغبات المتزايدة، كما أصبحنا نرى استسهال القبول بوظائف مُهينة ولاتناسب طبيعة المرأة وتفرض عليها الاختلاط بالرجال، وأصبحنا نرى من تسعى للوظيفة طلبا للاستقلال عن سلطة الأسرة وولي الأمر، وتعتبر إنفاق وليها عليها ذُلّا واتكالية مع أنه حق لها ليس لأحد فيه مِنّة، حقّ مشروع تماما كحق الموظفة في استلام راتبها من جهة عملها، والأهم من ذلك كله: أننا فقدنا الخيار المترف الذي كان يميزنا عن الرجال، كانت نساء الطبقة المتوسطة مثلي تختار أن تتوظف أو لا تتوظف، كنا نقيّم الوظيفة ثم نقرر رغبتنا في الالتحاق بها من عدمه، دون أن يلحقنا لوم أو تقريع، لأننا لم نكن تحت أي ضغط فكري وإعلامي يخبرنا أن الوظيفة أولى الأولويات، وأن الجلوس في المنزل يعني العطالة أو الذل أو الاتكالية، بعكس النساء في السنوات الأخيرة، فهن يشعرن بأن الوظيفة ضرورة قصوى، فيغرقن في متطلباتها ومتطلبات المنزل والأولاد الأخرى مما يسبب شقاء بالغًا كان بإمكانهن تجنبه لو عرفن أن الوظيفة اختيار لا اضطرار، وقد تناولت هذا  في مقال سابق (هنا).

إن السعي المحموم لتوظيف النساء وإقناعهن بضرورة الاستقلال المادي عن الأولياء، والتقليل من شأن دور المرأة في بيتها، وقبول أي وظيفة حتى لو لم تناسب طبيعة المرأة، له آثار سيئة على المجتمع، ومن المعروف أن سبيل هدم أي مجتمع هو هدم النظام الأسري فيه وتفكيكه، وهو ليس أمرا عفويا، إنه أمر عُقِدت له المؤتمرات والاتفاقيات لسنوات عديدة، وسُخّرت له وسائل الإعلام لعقود، نحن الآن أمام تغيرات فكرية واجتماعية كثيرة ينبغي أن نتوقف لنعيها وندرك جذورها وثمارها لنستطيع تعديلها بما يتفق مع مرجعيتنا الإسلامية، لا أن نستسلم لها وننقاد، لابد أن ندرك أننا نمتلك الخيار للتغيير وإعادة هندسة حياتنا كما نريد، لا كما يُراد لنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

 

11- يريد الله بكم اليُسر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يكثر اليوم الحديث عن أن الإسلام “دين اليُسر”، ويمتطي هذا القول أقوام لشرعنة الشهوات والشبهات وتطويع الشريعة لهوى النفوس، لكن اليُسر في الإسلام ليس مقصوده تطويع الشرع لهوى النفوس، بل مقصوده الأعظم: تيسير الاستقامة على الصراط المستقيم، بمراعاة طبيعة البشر مراعاة دقيقة، وهذا معنى ينبغي أن ننتبه له لنفهم يُسرَ الشريعة فهما صحيحا، ولعلي أوضّح ذلك في السطور التالية.

من رحمة الله بالخلق أن جعل فطرة التوحيد هي الأصل في نفوسهم، ثم أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن الحق أشدّ بيان، وختم الرسل والكتب بخير الأنبياء وأكمل الكتب، وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: “تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك”، كل ذلك لنسنتبين الصراط المستقيم، فلا ينحرف عنه إلا ضالّ، وجعل الله الشريعة مُيسّرة لنا ملائمة لطبيعتنا البشرية، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟

والشريعة في مجملها: أمرٌ ونهي، فإما طاعات نؤمَر بأدائها، أو معاصٍ نُنهى عن فعلها، فكيف جعل الله الشريعة ميسرة في ذاتها، مُراعية للطبيعة البشرية، مُساعدة للإنسان ليأتمر بالأمر وينتهي عن النهي بيسر وسهولة؟

في جانب الأوامر، يسّر الله علينا القيام بها، فلم يكلفنا ما لانطيق، فالصلاة مثلا، يؤديها كل مسلم بحسب وِسعِه: قائما أو قاعدا أو مضطجعًا، والوضوء كذلك: فقد يشق الوضوء بالماء لعدمه أو ضرره، فشرع الله التيمم تيسيرا للعباد، وكذلك شرع الفطر والقضاء للمريض الذي يُرجى برؤه والحامل والمرضع،  وربط تكليف الحج بالاستطاعة، وتكليف الزكاة ببلوغ النصاب، وأسقط فرض الجهاد عن العاجز والأعمى ومن هو في مثل حالهم، وشرع الجمع والقصر في حال السفر، وجمع الصلوات في حال المطر الشديد، والقائمة تطول في أمثلة تيسير الله للطاعات على عباده كلٌّ بحسب حاله: والمراد من ذلك كله ليس اتباع هوى النفوس في الرغبة في التخفيف، بل تمكين المسلم من طاعة ربه بحسب حاله، فيبقى مطيعا لربه، مستقيما على الصراط المستقيم، بحسب استطاعته، وهذا تيسير عظيم لسبيل الجنة، ومراعاة لظروف البشر على اختلافها، لايمكن أن تصدر إلا من حكيم خبير.

أما في جانب النواهي، فقد يسّر الله علينا تجنب المعاصي بسُبُلٍ شتى، وقد راعى في ذلك طبيعة النفس البشرية مراعاة دقيقة تعجز عنها أرقى مدارس الطب النفسي، أو مؤسسات الإصلاح المجتمعي ومكافحة الجريمة، فلأن الله يعلم أن طبيعتنا البشرية تميل للشهوات، ونفوسنا ضعيفة، لايكفيها الإيمان القلبي وحده للكفّ عن المعاصي، فقد يسّر لنا اجتناب المعاصي بسدّ ذرائعها الموصلة إليها، فحين حرّم الزنا، حرّم  سُبُلَهُ المفضية إليه: من إطلاق البصر، وخلوة المرأة بالرجل الأجنبي عنها، والخضوع بالقول، وفرض الحجاب، وكل هذه أوامر قد يراها الإنسان قيودًا، لكن في حقيقتها تيسير ورحمة، ففي مجتمع يسوده الحجاب، وتُغَضُّ فيه الأبصار عن النساء أو الصور المحرمة، سيكون اجتناب الزنا يسيرا لايحتاج عزيمة قوية، أما في مجتمع لايقوم بشرع الله، ويتعرض فيه الناس للفتن طوال الوقت فلن يصمدوا طويلا، ستنهار دفاعاتهم الإيمانية ويقعون في الحرام مع كثرة الأسباب الداعية إليه، ويكون عسيرا عليهم اجتنابه، وبذلك يكون التيسير في هذا الجانب بالتحريم لابالتحليل، لأن الله أعلم بطبيعة النفس البشرية، هنا يعلم الإنسان أن المؤسسات الإعلامية التي تتفنن في إثارة الشهوات بزعم تسلية الناس، إنما تُمعِن في إفساد المجتمع، وتعسير الاستقامة على الصراط المستقيم، والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28).

إن الله حين أباح الحلال، يسّر سُبُلَه، وحين حرم الحرام، سدّ ذرائعه، كل ذلك تخفيفا منه ورحمة وتيسيرا، لكننا نخالف أمر الله تعالى ونعكس الحال، فيصبح من العسير اجتناب المحرم، وقِس على المثال أعلاه أمورا شتى: فالتهاون في الالتزام بالشرع -والذي يُفعل بزعم تيسير الدين-  يجعل من العسير اجتناب المعاصي، فالتهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشيوع الفساد الإعلامي، والتهاون في ارتكاب المنكرات بدءً بصغيرها وانتهاءً بكبيرها، ينشر المعاصي في المجتمع فيعسُرُ اجتنابها، وتعسُر تربية الأبناء على القيم الإسلامية الصحيحة.

ما أريد قوله هنا هو أن يُسر الشريعة أمر لايقاس بمدى مطابقتها لهوى النفوس، فقد علِمنا من رسولنا الكريم أن الجنة حُفّت بالمكاره، وأن النار حُفّت بالشهوات، ولو كان معنى اليسر موافقة هوى النفوس لانقلبت الشريعة رأسا على عقِب، قال القرطبي رحمه الله: “وحاصل الأمر: أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سُنَّته، ولا على منهاج شريعته”.

إن اليسر في الإسلام يهدف لتيسير سبيل الاستقامة على الصراط المستقيم، وبذلك نفهم التيسير في التحريم، كما نفهمه في الإباحة، وندرك أن كثيرا من قيود الشريعة  تيسير لنا لا تعسير، حتى وإن كان فيها مخالفة لهوى نفوسنا، لأن الرجوع في بداية مشوار الخطأ أيسر من الرجوع عند التمادي فيه وامتلاء النفس به، والله تعالى يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ  الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).

ألم يقل لك أخصائي التغذية يوما إن مما يساعدك على الالتزام بالحمية الغذائية أن تُخرِجَ أكياس البطاطا المقلية من منزلك، وأن تحذف حسابات المطاعم من قائمة متابعتك، لأن وجودها يغريك ويضعف إرادتك؟!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

10- إنما النصر مع الصبر!

الصبر

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تأملت يوما في سبب الفلاح في أمور الدنيا والآخرة، فوجدت أن له معادلة واضحة: حبس النفس عن لذّة عاجلة صغرى، من أجل تحصيل منفعة آجلة كبرى، وهذه المعادلة تصحّ على كل فلاح: الفوز بالجنة والنجاة من النار،  التقوى و الاستقامة، تزكية النفس، حسن التعامل مع الناس، الإنجاز العلمي، حسن تدبير المال واستثماره، حفظ الوقت، حسن التعامل مع المصائب، الحفاظ على صحة البدن…. وخلافها من مؤشرات الفلاح الدنيوي أو الأخروي، والتي نطمح جميعا لتحصيلها، ووجدت أن صفة جوهرية تمثّل أساس الفلاح وتحقيق هذه المعادلة، هذه الصفة هي: الصبر، والصبر في اللغة: الحبس والمنع، والعقل كل العقل في الصبر، فالعقل معناه الحبس والمنع أيضا!

إن الاستقامة على شرع الله تتطلب الصبر: الصبر على طلب العلم الذي تعرف به الأوامر والنواهي، ومنه تكرار تلاوة القرآن وسماعه وكذلك الحديث النبوي، والصبر على العمل بهذا العلم: من اتباع الأوامر واجتناب النواهي، ومنه الصبر على المصائب، فالنفس تكره التكليف، وتحب الشهوات، وتبغض المصائب، ولا يقيمها على مُراد الله إلا الصبر، الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر عند نزول المصائب،  إن الإسلام كله يتطلب الصبر على مقتضى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: في اعتناقها، والتمسك بها، والعمل بمقتضاها ومصارعة هوى النفس، وشياطين الجن والإنس الذين يصدون عن الصراط المستقيم.

والصحة النفسية التي هي أساس العَيش السعيد تتطلب صبرا على أكدار الدنيا، من فقد محبوب أو ابتلاء بمرضٍ أو ضياع مالٍ أو فوات مطلوب أو سوء حال، فالصبر يوطّن النفس على البلاء ويساعد على التعايش معه والتفكير السليم في الحلول الممكنة والخيارات والفرص المتاحة، ومواصلة الحياة، وهذا  ما لايمكن تحصيله مع الجزع والتسخّط، وقد تفطّن غير المسلمين أيضا لأهمية الصبر والرضى في هذا المقام، وعدّوه أحد وسائل العيش السليم ومنع الاكتئاب، بل إن اللغة الانجليزية تستخدم كلمة واحدة لتصف المريض والصابر Patient !

أما العلم فلا يُحصّل إلا بالصبر، هل تعرف شخصا ملولا قد نال علما حقيقيا؟ روي عن حَبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنه أنه سُئل: بمَ أدركت العلم؟ فقال: “بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول“، وقد ألف الشيخ عبدالفتاح أبو غدة كتابا قيّما عنوانه (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) جمع فيه الأخبار التي تبيّن لك بجلاء أن هؤلاء العلماء لم ينالوا العلم براحة الأبدان، ولا يمكنك أن تجِد حافظا للقرآن – وهو أساس العلم- إلا وقد صبر طويلا على الحفظ والتكرار والمعاهدة والمراجعة، وقد قرأت في مذكرات المسيري رحمه الله أنه عكف على تأليف موسوعة اليهودية والصهيونية خمسة وعشرين عاما! نعم، استغرق تأليفه للكتاب ربع قرن، أي ثلث حياته رحمه الله! وإذا تأملت سِيَر العلماء المسلمين وغير المسلمين -قديما وحديثا- وجدت الصبر والتركيز وحبس النفس عن الملهيات ديدنًا لهم، إنها سنة من سنن الله في الكون، لاتحابي أحدا، وكم سبّبت قلة الصبر على مذاكرة العلم من ضعفٍ علمي، وتأخّر دراسي، وخسائر جمّة.

ماذا عن حُسن الخُلُق؟ إن الحِلمَ يتطلب صبرا عن الانفعال والغضب، وقول الحق يتطلب صبرا على نتائجه، والصمت عن الكلام المحرم أو اللغو يتطلب صبرا عن الميل الفطري للثرثرة، والكرم  يتطلب صبرا عن شحّ النفس، والإحسان إلى الناس يتطلب صبرا عن الأنانية، والعفو يتطلب صبرا عن الانتقام، وحسن الإنصات يتطلب صبرا عن التشتت أو الرغبة في المقاطعة، وحسن الرد يتطلب صبرا عن الاندفاع في قول غير محسوب النتائج، والتغافل يتطلب صبرا عن شهوة التيقظ لزلات الناس، والرفق يتطلب صبرا عن التهوّر، وحفظ السر يتطلب صبرا على شهوة إفشائه…والقائمة تطول، حتى إنك لا تكاد تجد خلوقا -بالمعنى الحقيقي للأخلاق- إلا وهو صبور متأنٍّ هادئٌ في تعامله مع الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» رواه مسلم، هل يمكن أن يمتلك محاسن الأخلاق شخص لايصبر في ردود أفعاله وفي ما يتفوّه به من كلام؟! يقول علماء النفس إن التميز في العلاقات يتطلب منك أن تضع مساحة زمنية بين الفعل الذي تراه وردّة فعلك تجاهه، هذه المساحة هي (الأناة) التي يحبها الله، التروّي والصبر أساس حسن الخُلُق.

أما النجاح في بيئة العمل، فيتطلب صبرا عظيما، صبر على الانضباط والالتزام بأوقات العمل والحضور، صبر على تعلم المهارات اللازمة لتجويد العمل والمحاولة والخطأ، صبر على التعامل مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين والمستفيدين، صبر عند التعامل مع الضغوط والمشكلات، صبر على مشقة العمل وواجباته وتحمل مسؤوليته.

أما التربية، فيكاد يكون الصبر مفتاح النجاح فيها، الصبر على التعامل مع الأبناء والطلاب، والاستماع إليهم، وتعليمهم وإرشادهم، وتحمّل أخطائهم وبطء استجابتهم، معظم أخطاء التربية تنتج من نفاد صبر المربي،   مثلا: تضع الأم قانونا لأوقات استخدام الانترنت في المنزل، لكنها لاتصبر على إلحاح الأبناء أو بكائهم وإزعاجهم حين يُقفَل عنهم الانترنت، فتنقض قانونها وتفتح لهم المجال وتفشل في تعويدهم معظم العادات الحسنة لنفاد صبرها، سمعت مرة من د. ميسرة طاهر أن بكاء الرضيع من غير مرض سببه قلة صبر أمه، فالرضيع يتعلم منذ أيامه الأولى أن البكاء خير وسيلة لابتزاز الأم وحملها على فعل مايريد، إنه يريد منها أن تحمله باستمرار، فيستخدم البكاء وسيلة للضغط عليها وإجبارها على حمله، ولكن المفترض أن تعي الأم هذا النوع من البكاء الذي لايعبر عن مرض أو احتياج حقيقي وتتجاهله -مع مراقبتها للطفل- حتى يتعلم أن هذه الوسيلة لاتنفع فيكف عن استخدامها، وقد أضاف الدكتور أن سلوك الابتزاز يكبر مع الطفل ويتخذ أشكالا عدة، ولاعلاج له إلا بالتجاهل، لكن معظم الآباء ينفد صبرهم بسرعة ويستجيبون للابتزاز اللحظي طلبا للراحة، ولكنهم يعانون ثماره المرهقة على المدى البعيد.

كل ما يخطر على بالك من الفضائل وأسباب الفلاح التي نعلم يقينا أهميتها لكننا لانقوم بها، لايمنعنا منها إلا قلة صبرنا عليها، كلنا نعلم أهمية صحة الجسد، ولكننا نرتكب في حق أجسادنا أخطاء كارثية لنفاد صبرنا، فالأكل الضار في معظمه لذيذ ومُغرٍ، وقلة الحركة أمر مريح، والسهر عادة مسلية أحيانا، لكن الالتزام بالأكل الصحي، ومداومة الرياضة، والالتزام بالنوم المبكر عادات تتطلب صبرًا، ولكن ثمارها نافعة: صحة داخلية، ووقاية من كثير من الأمراض بإذن الله، وجمال خارجي، وإنتاجية أكبر، فكيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير إلا لافتقارنا للصبر! وتقلقني شخصيّا انتشار جراحات السمنة في السنوات الأخيرة، كقص المعدة والتكميم وغيرها، لا لخطرها المحتمل على الجسد فحسب، ولكن لتعبيرها عن افتقار أفراد المجتمع مؤخرا إلى الصبر، حيث لايمكنهم فقدان الوزن إلا بتدخل جراحي يجبرهم إجبارا على عدم الأكل، وهذا مؤشر غير جيد لقوة الشباب الذين هم ذُخر المجتمع.

هناك قصة شهيرة تُروى عن عنتره -ولا أعلم صحتها لكن معناها صحيح- بأن رجلا سأله عن سر نيله لهذه المكانة فقال: بالشجاعة، قال له: وما الشجاعة؟ قال: الصبر!  فاستغرب السائل، ما علاقة الشجاعة بالصبر؟ قال عنتره: عُضّ اصبعي وأعضّ اصبعك فأينا صرخ أولا هُزم، فصبر الرجل قليلا ثم صرخ، قال عنتره: لو لم تصرخ لصرختُ أنا، ولكني صبرتُ فكنتُ أشجع! إنني أتخيل عنترة في تلك اللحظة وكأنه بطل أولمبي يدرك أن فرق جزء من الثانية يُكسِبه شرف كسر الرقم القياسي، وأن الصبر والمصابرة هي التي ستقوده لمراده.

إن الصبر عقلُ وحبس للنفس عن شهواتها، وهذا مطلب جوهري في كسب المال وحسن تدبيره، كيف ينجح مشروع تجاري لم يصبر صاحبه على المثابرة فيه؟ وكيف يحفظ المرء ماله من الضياع مالم يصبر على المغريات والرغبة في التتسوق؟ من أهم العادات النافعة اقتصاديا عادة الادخار، والاعتياد على تحديد الاحتياجات الفعلية عند الشراء، لكن صبرنا ينفد أمام إغراء السلع، فنشتري مالانحتاج، ثم تضيع أموالنا وتضيق مساحات منازلنا، إن العقل -الذي يحمل معنى المنع والحبس والصبر- يمنع المرء من تبذير المال، لذلك اقترن سوء تدبير المال في القرآن بالسّفَه وترك النفس على هواها: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) لأن المال عصب الحياة وقوامها، والسفيه يضيّعه في التوافه، وبنقيض ذلك فإن العقل في حسن تدبير المال، وفي وسط الآيات التي تتناول المال في سورة البقرة جاءت هذه الآية: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269). 

تطول قائمة أمثلة اقتران الصبر بفلاح الدين والدنيا، و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جملة وصيته لابن عباس رضي الله عنه “واعلم أن النصر مع الصبر” والنصر هنا كلمة معرّفة بأل، لتفيد العموم، كل نصر لابد له من صبر، نصرك على نفسك، وعلى أعدائك من شياطين الجن والإنس، وارتقاؤك لكل فضيلة وسموّ لابد له من الصبر، ولكن إذا كانت الوسيلة معروفة وواضحة إلى هذا الحد، فما بالنا لاننتصر ولا نرتقي كما نريد؟ لأن الصبر أمرٌ شاقٌّ على النفوس، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “والصبر ضياء” رواه مسلم، ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث وسبب اختيار كلمة ضياء لوصف الصبر: ” لأن الضياء فيه حرارة كما قال الله عز وجل :جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والصبر فيه حرارة ومرارة، لأنه شاقٌّ على الإنسان”، ولأن الصبر شاق، فإن ندرة من الناس يتميزون في مجال ما، أو في عدة مجالات، وقد قال المتنبي:

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ        الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ !

وقال غيره:

والصَّبرُ مثلُ اسمِه مرٌّ مذاقَتُه    لكن عواقِبَه أحلى من العَسَلِ

لكل إنسان نصيب من النصر مرتبط بنصيبه من الصبر، وكلما زاد صبر المرء وتنوعت مجالاته ارتقى في جوانب حياته المختلفة، و الصبر صفة تتطلب تمرينا ومجاهدة؛ لأن طبيعة الإنسان الفطرية هي الميل مع شهوات النفس، فالصبر لايولد مع الإنسان لكنه يتعلمه ويكتسبه، ولتقوية صفة الصبر عند الإنسان فإن عليه أن يُلزم نفسه بما يجب عليه ويستمر وإن كان الأمر قليلا جدا، ثم يزيده شيئا فشيئا، لكن المهم الصبر والاستمرار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله: أدومها وإن قل” رواه البخاري، هذه المداومة تتطلب صبرا، ولابد للمربي أن ينتبه لدوره في تقوية صبر المتربي فلا يضعف صبره بالتدليل وتلبية كل مايريد، بل يعوّده التغلب على هوى النفس ومجاهدتها، يعلمه الصبر على ماينفعه وإن كان مُرّا، والصبر عن المُلهيات وإن كانت حلوة مغرية، والمربي نفسه في تربيته هذه يحتاج صبرا كما ذكرتُ آنفا، فما أسهل تقديم كل شيء للنشء والارتياح من تذمرهم وإلحاحهم!

إن الصبر قوة للفرد والمجتمع، ولذلك فإن أسهل وسيلة لتدمير أي إنسان وهزيمة أي مجتمع، هي إغراقه بالشهوات والمُلهيات حتى يفقد الصبر عنها ويُصبح عبدًا لهواه، ويقعُدَ عن كل فلاح ويستصعبه، فلايعود قادرا على العمل الجاد أو مقاومة المغريات، ولذلك لابد من تربية النفس وتوطينها على الصبر، وتعزيز هذا الخُلُق لدى النشء، وبثّه في الكبار والصغار، والله تعالى يقول في ختام سورة آل عمران التي هُزِم فيها المسلمون نتيجة عدم صبر فئة منهم على البقاء على الجبل، ونزولهم السريع رغبة في الغنائم، وتمكّن عدوّهم منهم بسبب هذه الثغرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

8- لاتثق بنفسك

images

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ازدهرت دورات التنمية البشرية في العقود الأخيرة، ولاجدال أن في محتواها خير عظيم مهما قُلّل من شأنها، لكنها لم تخلُ من الضرر والمبالغة، ومن القيم التي غالت دورات التنمية البشرية في الإشادة بها، قيمة: الثقة بالنفس، فقد كان الناس في فترة سابقة غارقون في التفكير الجمعي لدرجة نسيان كل منهم لذاته، وتقييمه لها بناء على آراء الآخرين، وخوفه من الإقدام على إنجازات فردية، خاصة لو لم يملك سجل إنجازات منذ سن مبكر يجعل العالم يعترف به، فكان من الضروري إعادة ثقة الفرد بنفسه بعيدا عن التأثر بما يحمله الآخرون من انطباع عنه، أو مايحمله هو من انطباع عن نفسه.

لكن -كعادة أي مفهوم- فإنه يبدأ غريبا مستهجنا، ثم يتقبله الناس، ثم يبالغون فيه حتى التطرف فينقلب لأمر ضار، وهذا ما حصل مع مفهوم الثقة بالنفس، حيث تحوّل مع الوقت إلى انتفاخ أجوف، وغرور مستهجن، فالكل واثق بنفسه، في كل شيء، والجميع يرى نفسه فوق السحاب، يتجاهل عيوبه باسم الثقة بالنفس، ويصمّ أذنيه عن سماع الآراء باسم الثقة بالنفس، حتى أصبحت هذه الثقة عائقا عن التعلم والتطور، فالتعلم فعل يتطلب التواضع، والاعتراف بالجهل والتقصير، ومعرفة العيوب والمزايا بدقة، والعاقل يثق بنفسه في الأمور التي يمتكلها حقا، لكنه يتواضع عند الأمور التي يفتقدها ويعترف بقصوره، وهذا  ماعرفه علماؤنا الأوائل باسم الصدق مع النفس.

وقد قرأت مقالا لـ Simon Borg بروفيسور التنمية المهنية لمعلمي اللغة الانجليزية، يؤكد فيه من خلال احتكاكه بالمعلمين حول العالم أن الثقة  المطلقة بالنفس قد تعيق المعلم عن تطوير عمله، لأنه راضٍ تماما عما يقوم به، ولايشعر بالحاجة للتعلم، وقد لاحظ أن المعلمين الذين يخوضون تجربة تنمية مهنية جادة تهتز ثقتهم بأنفسهم وتتراجع شيئا ما حين يدركون أن أمامهم الكثير ليتعلموه، لكن هذا هو الذي يطوّرهم حقا، ويكسبهم ثقة مستحقة بالنفس، ثقة مصدرها العلم والإنجاز الحقيقي لا مجرد الادعاء الفارغ، ثم يؤكد على أهمية الصدق مع النفس، ومعرفة المعلم لنقاط قوته وضعفه بدقة، كي يتطور فعلا، هنا رابط المقال.

ذكرني مقاله بظاهرة أواجهها كثيرا في مجال التعليم، وهي ادعاء بعض المعلمات أنها واثقة من نفسها ولذلك فهي لاتهتم لأي نقد لتدريسها من أي زائر للصف، وهذا لايعكس الثقة بقدر ما يعكس الضعف النفسي وعدم القدرة على التعلم وتقبل النقد ومواجهة الذات،  إذ يُنظر للنقد على أنه هجوم وانتقاص أكثر من كونه فرصة للتعلم، قد تقول إحداهن: ولكن هذا النقد غير منطقي، لكنها تغالط نفسها حين تفرح بالإشادة غير المنطقية أيضا، ومن عرف نفسه حق المعرفة، وأراد الخير لها حقا، أخذ الحق وترك الباطل بغض النظر عن كونه مدحا أو ذمّا، وبغض النظر عن الأسلوب أيضا، إن الإنسان الجاد في تطوير نفسه يدرك أن المشوار طويل، وأن التعلم الحقيقي يتطلب التواضع وخفض الجناح، ولذلك قيل “إن العلم ثلاثة أشبار: إذا تعلم الإنسان الشبر الأول تكبّر، ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثاني تواضع، ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئاً “،  قد تعبر الثقة بالنفس أحيانا عن مكوث المرء في الشبر الأول !

نحن نصمّ آذاننا عن النقد بحجة الثقة بالنفس، ولك أن تتجول في حسابات بعض المشاهير، وترى مخالفتهم للشرع والعرف والذوق العام، ثم اختيارهم للمضي قُدُمًا وتجاهل انتقادات المتابعين ونصائحهم مهما كانت صحيحة، وتبرير ذلك باسم (الثقة بالنفس)، وقد يُتبع ذلك بحِيَل نفسية أخرى كوصف الذات بالشجرة المثمرة التي ترمى، ووصف الناقدين بالكلاب التي لايضرّ السحاب نباحها.. وهكذا،  إن هذه الثقة المزعومة بالنفس غلافٌ لآفة عظيمة حذّرنا الله منها وهي: الكِبْر، حيث يمتنع المرء من قبول الحق استكبارا عنه، واستجابة لهوى النفس في كراهية الانصياع للآخرين، وما أثقل التعلم والتغيير في هذه الحالة.

إن الثقة بالنفس مفيدة في موضعها، لكنها ضارّة إن استخدمت بلا مبرر، لايمكن لإنسان عاقل أن يدّعي الثقة بالنفس في كل أمر، فهذه الثقة ينبغي أن تكون مبنية على مقوّمات حقيقية، فالثقة بالنفس لن تسعف مترهّلا للفوز بمسابقة رياضية، لكنها تفيد الرياضي المستعد في تخفيف توتره عند بدء المسابقة، يعتبر بعض المحاضرين أو المدربين الثقة بالنفس كافية لتقديم محاضرة أو دورة تدريبية، فيهمل الاستعداد الكافي متكئا على ثقته بنفسه، لكن سرعان ماينكشف ذلك للحضور وإن جاملوه، الثقة بالنفس مفيدة عند وجود ما يبررها، مفيدة لدفع التوتر الذي لاداعي له، لكنها لاتهَبُك شيئا لاتملكه، لاتثق بنفسك فيما لم تتمكن منه، اعترف بالقصور وتعلم حتى تكون ثقتك مستحقة، الثقة وحدها لاتفعل شيئا، بل قد تضرّ. 

7- إليك عني !

listenالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يحدث أن يصاب شخصان بذات المصيبة، أو يقعان في نفس مشكلة، فيرضى الأول بقدر الله، ويتصبّر حتى يصبّره الله، وقد يكرمه بمنزلة الرضى، فتكون المصيبة مفتاح أجر لاوزر، وميدان انطلاق لا انغلاق، بينما يجزع الآخر، ويتسخط، وقد يفشل في تجاوز المصيبة لبقية عمره، ويحدث الشيء نفسه مع المشكلات، فمن الناس من يتعثر عند أي مشكلة، ويتقن لعب دور الضحية، فإذا طرحت عليه الحلول تفنن في تفنيدها وطرح معوقاتها وبيان استحالة تنفيذها وأن الأمر ليس بيده أبدا، بينما يعي الآخر دوره في حل المشكلة ويبذل مابوسعه من الأسباب لتجاوزها.

وإذا واجهت شخصا من النوع الأول، الذي يجزع للمصائب ويستسلم للمشكلات، ثم حاولت مساعدته بتعريفه بما يمكنه فعله، من الصبر عند المصيبة، أو السعي وفق الإمكان عند المشكلة، غضب عليك، وواجهك بحجة معروفة: أنت لم تجرب ماجربته ولذلك تطالبني بالمثاليات، ولو كنت مكاني لفعلت فعلي.

وهذه حجة من السيء أن تنتشر بيننا، ليس شرطا أن يجرب ناصحك ذات الأمر حتى تكون نصيحته نافعة، بل قد يكون مجربا ويضرك، لأنه هو أيضا تصرف بطريقة خاطئة، فيقدم لك نصيحة خاطئة، صحيح أن التجربة مفيدة لكنها ليست شرطا لصلاح النصيحة، نحن نشترط التجربة أحيانا كمبرر عاطفي لرفض الاستماع لكلام الشخص المقابل، لأن مقتضاه يخالف هوى نفوسنا كما أنه ليس من الضروري أنه لو جرب فيستصرف نفس تصرفك، ربما يكون أكثر حكمة في التعامل مع المشكلات، وأقوى صبرا عند المصائب، والواقع يشهد بتباين مواقف الناس عند مرورهم بنفس الأزمات.

فإذا سمعت نصيحة نافعة فخُذها حتى لو خالفت هواك، فالدواء مرٌّ لكنه نافع، والحكمة ضالّة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، والله أثنى في كتابه العزيز على من يستمع للقول النافع فيتبعه، فقال سبحانه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)، والمقصود المباشر في هذه الآية هو القرآن، ولكن الآية عامة تشمل كل قول كما يذكر السعدي رحمه الله، ثم يضيف في تفسير الآية: ” فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام اللّه وكلام رسوله…ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره، على ما سواه، وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين الأقوال، حسنها، وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذى يميز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل“.

إن تمييز النصيحة النافعة، لايلزم منه أن تكون صادرة ممن جرب نفس مصيبتك أو مشكلتك، فلا تتكبر عنها بهذه الحجة، فالتكبر عن سماع النصيحة النافعة صفة مذمومة ولو غُلّفت عاطفيا بحجة أن الناصح لم يجرب، فلا تكن كالمرأة التي استخدمت نفس هذه الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تنتفع بنصيحته، فعن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: “مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَال: اتَّقِي الله وَاصْبِرِي فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنِّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبتي، وَلَمْ تعْرفْهُ، فَقيلَ لَها: إِنَّه النَّبِيُّ ﷺ، فَأَتتْ بَابَ النَّبِّي ﷺ، فلَمْ تَجِد عِنْدَهُ بَوَّابينَ، فَقالتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ، فقالَ: إِنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى“. متفقٌ عَلَيهِ.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

6- ثنائيات: الحفظ أم الفهم؟

MAG-Schoemaker-Intelligent-Intelligence-Enterprise-Business-1200

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة، سألتنا إحدى المعلمات عن القسم الذي نود الالتحاق به في المرحلة الثانوية، وتنوعت الإجابات، إلا أن إجابة لإحدى زميلاتي لفتت انتباهي، فقد قالت: “أنا أفهم ولا أحفظ، لذلك سأختار القسم العلمي، فهم يقولون إن القسم العلمي لمن يفهم، والقسم الأدبي لمن يحفظ”

هذه الثنائية أحد أمثلة التفكير السطحي الذي يلجأ له الذهن الكسول الذي يزعم أنه يفهم ولايحفظ 🙂

الحفظ مهارة مظلومة في العصر الحديث، أصبحت عنوانا للسذاجة والبلاهة، أما الفهم فهو عنوان الألمعية والذكاء، ولا أدري كيف سيُصنّف الشافعي رحمه الله -وهو من أشد الناس حفظا- في نظر أصحاب هذا التفكير الحدّي: هل سيرمون به في مكب القسم الأدبي لأنه -والعياذ بالله- يتقن الحفظ ؟ الشافعي ياسادة أحد أذكى أذكياء الدنيا، اخترع أصعب علوم الشريعة: علم أصول الفقه الذي أجزم أن كثيرا ممن يدعون الفهم اليوم سيفغرون أفواههم استصعابا لمسائله العويصة التي تتطلب الفطنة والمنطق واللغة وترتيب التفكير !

هل جلس الشافعي يوما ليفكر في تصنيف نفسه هل هو من أهل الفهم أو الحفظ كما يفعل الناس اليوم؟ إنهم يتحدثون عن الفهم والحفظ كما يتحدثون عن تشجيع فرق كرة القدم، فكما أنه من المستحيل أن تكون هلاليا ونصراويا في الوقت نفسه، فإنه يستحيل أن تحفظ وتفهم في آنٍ معا، فاكشف هويتك بسرعة: هل أنت من أهل الفهم أم الحفظ؟ هل أنت من نخبة العلمي أم من رعاع الأدبي؟

شخصيا، لم أستسغ هذه الثنائية البائسة التي لازال الإيمان بها قائما إلى اليوم، فأنا بحمد الله أحفظ وأفهم، ولا أقف عند هذه المرحلة بل أتعداها للتحليل والتركيب والتقويم وغيرها من مهارات التفكير المعروفة في سلم بلوم، وكثيرون غيري أيضا يمتلكون هذه المهارات ولا يجدون مبررا للتعارض بينها، فلا أستطيع حفظ آية من كتاب الله إلا بعد فهمها، كما أنني لا أستطيع حل مسألة رياضيات إلا بعد حفظ قانونها تمهيدا لتطبيقه، ومادة النحو مثلا مادة أدبية لكنها تعتمد على فهم قواعد اللغة، وهكذا.

إلا أن تعليمنا في العالم العربي، قد تعرض لإضعاف وتشويه في العلوم الإنسانية أظنه السبب في الإساءة لمهارة الحفظ، وظهور هذه الثنائية ( الأدبي والحفظ والغباء، العلمي والفهم والذكاء)، لأن كثيرا من المعلمين يدرّسون مواد الدين والتاريخ والجغرافيا واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع والمواد التربوية بطريقة آلية تخلو من الفهم العميق للمحتوى، وربطه بواقع الحياة، وتوسيع مدارك الطالب وإثرائه بمراجع خارج المقرر، وهذا مايسميه باولو فريري (التعليم البنكي) أي التعليم الذي يلقّن فيه المعلمُ الطالبَ المعلومة، ثم يسترجعها منه وقت الاختبار دون تغيير، ودون أن يبقى منها شيء عند الطالب بعد الاختبار، تماما كما يفعل أحدنا حين يودع ماله في البنك.

العلوم الإنسانية (الأدبية) خطيرة في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات، وإحساسهم بهويتهم، فهي العقل المفكر للأمة كما يصفها د.بكار، أما العلوم التطبيقية (العلمية) فهي اليد الصانعة، القادة والمفكرون والفلاسفة والكتاب هم قادة الأمم، هم صُنّاع الثقافة، هم روح الشعوب، أما المخترعون والمهندسون والأطباء فهم المنفذون، هم صُنّاع الحضارة المادية التي تشكّل جسد الأمة، والتخصصان متكاملان، لكن الوضع في عالمنا العربي مقلوب، فالتخصصات الإنسانية يُرمى فيها ضعاف الطلبة، ويتجه المميزون للتخصصات التطبيقية، ثم نتعجب كيف تكون أمتنا تابعة ذليلة؟!

بدلا من قراءة محتوى العلوم الإنسانية بعمق، وفهمها ومناقشتها حتى تمتزج بروح الطالب وتشكل فكره ويمتلكها للأبد، ويبلغ من تشبعه بها حدّا يجعله يجيب عن أي سؤال فيها بطلاقة دون لجوء لحفظ ألفاظ غيره، نلجأ للتعليم البنكي، فإذا أضفنا لهذه المعضلة الضعف اللغوي الشديد عند الطلاب وعدم قدرتهم على الاسترسال في الكتابة عما يعرفونه بأسلوبهم هم، لجأوا لحفظ محتوى المقرر نصًّا وصبه في ورقة الاختبار، فيُساء بسبب هذا النوع من التعليم لمهارة الحفظ، ويتبرأ منها الجميع رغم شدة أهميتها في البناء العلمي للإنسان.

في الصف الثاني ثانوي، صُنّفت من قِبَل إدارة المدرسة ضمن طالبات القسم العلمي، نظرا لأن تقديري مرتفع ودرجاتي في المواد العلمية عالية، ولكنني لم أكن أريد القسم العلمي، المواد الأدبية تجذبني أكثر، أحب اللغة العربية بفروعها، وأتلذذ بدراسة البلاغة والنحو، ويأسرني التاريخ، وأحب التعرف على البلدان ودراسة الجغرافيا، ثم إنني أود الالتحاق بقسم اللغة الانجليزية وهو قسم أدبي، وقد اضطررت لإقناع إدارة المدرسة والإلحاح الشديد والإقرار بأنني أفضل القسم الأدبي على العلمي رغم تفوقي في المواد العلمية وسهولتها عندي، لكن ما العقلية الكامنة في أذهان المعلمات ليتصوّرن أن الأدبي قسم لايليق بطالبة متفوقة؟ أين كانت المدارس ستصنّف الرافعي وشوقي والطنطاوي والزيّات ومحمود شاكر وغيرهم من أعلام الأمة ومفكريها؟ هل لهم أي اهتمامات علمية؟ لاشك أن التخلف الحضاري الذي عانته الدول العربية ساهم في المغالاة في الاهتمام بالتخصصات التطبيقية وإهمال الإنسانية، لكنني لا أعرف أمة قوية تجعل الفكر واللغة والتاريخ تخصصا للبليدين من أبنائها!

الحفظ مهارة عظيمة لاغِنى عنها لطالب العلم: حفظ القرآن والسنة ونصوص الشعر وغيرها مما يثري العقل ويطلق اللسان ويثري الوجدان، لكنها مهارة تتطلب صبرا وجلدا لايستطيعه الجميع، ولايمكن لإنسان ادّعاء حفظ نص لايحفظه حقيقة، أما الفهم فادّعاؤه أسهل، لأنه لايتطلب تكرارا كالحفظ، ولايسهل كشفه، إذ يمكن لشخص بليد ضعيف الفهم أن يقول بكل جرأة: “أنا أفهم ولاأحفظ”، وقد عرفت عبر السنوات كيف أترجم هذه العبارة لمعناها الحقيقي: “أنا لا أستطيع المذاكرة، سأكتب أي شيء وأقول هذا فهمي”، واجهت أكثر من شخص خدعوا أنفسهم بهذه الثنائية، فلا هم فهموا، ولا حفظوا، ولاتوقفوا عن توارث هذه الأساطير جيلا بعد جيل.

5-ثنائيات: الشدة أم التدليل؟

 

thumb_ls_2816السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مفاهيم كثيرة تتصل بحياتنا اليومية تحتاج تفصيلا لنحكم عليها، لايكفي أن نتعامل معها بطريقة إما أبيض أو أسود، إما صواب أو خطأ، الكسل الفكري هو الذي يجعلنا نستسهل الحكم السريع على الأشياء، ونترك التأمل والتفكير، مع أن التروّي مطلوب، لأن قناعاتنا تشكل سلوكياتنا، وسلوكياتنا ترسم مسار حياتنا، في هذه السلسلة سأحاول تفصيل القول في ثنائيات نميل لاتخاذ مواقف سريعة منها، فنحن إما مع هذا أو ذاك، والأمر يحتاج تفصيلا.

حينما يدور الحديث عن التربية في أي مجلس، ينقسم الناس عادة إلى فريقين: فريق يميل للتدليل، وفريق يجنح للشدة، وقد شكّل كل منهم قناعاته عبر سنوات بطريقة متراكمة تؤثر فيها عوامل عدة: تربية والديه له وموقفه من هذه التربية رفضًا أو قبولا، شخصيته وطباعه وميله للتساهل أو الشدة، تجاربه في الحياة ومعرفته للناس وأحوالهم، مشاهداته وقراءاته..الخ

فريق التدليل يرى أن من واجب الوالدين توفير أفضل معيشة للأبناء، وأن التدليل مقياس الحب والرحمة، أما الشدة فهي قسوة لا مبرر لها، وفريق الشدة يرى أن الحزم هو الذي يصقل شخصية الأبناء ويعودهم على مواجهة الحياة، وأن التدليل إفسادٌ بيّن وجرمٌ عظيم.

وأرى أن الأمر ليس بهذه البساطة، إذ ينبغي أن نفكر في أمرين:

1- شخصيات الأبناء مختلفة:

يختلف أثر التدليل والقسوة على الأبناء، فمنهم من يرقق التدليل طبعه ويهذّب نفسه، ومنهم من يفسده التدليل ويجعله أنانيا مدمنا للأخذ غير قادر على العطاء، أو ضعيفا لايتحمل المسؤولية ولايقوى على مواجهة الحياة، والشدة في التربية يختلف أثرها أيضا على الأبناء: فمنهم من تصقله الشدة وتربيه وتعوده على القوة وتحمل المسؤولية وتجعل شخصيته مميزة وقوية، ومنهم من تكسره الشدة وتهينه وتكون سببا في انحرافه.

2- مفهوم التدليل والشدة مختلف:

للتدليل والشدة صور جيدة وسيئة، فمن التدليل ماهو أمر محمود يُشبَع فيه الأبناء عاطفيا، ومنه ماهو مذموم يكتفي فيه الوالدان بإغراق الأبناء ماديا، أو يتركان الحبل فيه على الغارب لأنهما ضعيفان فحسب، كما أن الشدة مختلفة، فهناك شدة منبعها الحب وإرادة الأفضل للأبناء وفق رؤية تربوية واضحة، وهناك شدة منبعها جفاء الطبع وسوء الخُلُق والبخل العاطفي أو المادي.

لن أتحدث هنا عن التوازن، وما الذي يفترض فعله، وعن الجمع بين محاسن التدليل ومحاسن الشدة، ليس هذا موضوع المقال، الفكرة هي أن هذه المفاهيم تحتاج تفصيلا للحكم عليها، ومن الخطأ تناولها سطحيا بتأييد أو رفض، فمهما بدت سهولة الحكم السطحي مغرية، إلا أنها خطيرة، لأن مواقفنا وسلوكياتنا ستُبنى حينها على أحكام سطحية، وبالتالي مصائرنا.

4-هل يتقدم العالم؟

259px-The_Scream

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أحد أهم ملامح الفكر المعاصر، الاحتفاء بالجديد لجِدّته، وازدراء القديم لمجرد قِدَمه، وقد يكون لهذا النمط من التفكير مبرره عند الغرب وهو سيطرة فكرة التقدمية ( progression ) والتي نبعت من الفلسفة التاريخية القائلة بأن كل عصر لابد أن يكون أفضل من سابقه، فالبشرية تسير في خط تصاعدي منذ القدم وإلى الآن وستستمر في ذلك، ومن رواد هذه الفلسفة في الفكر الغربي: هيجل وماركس.

تصب نظرية النشوء والارتقاء لدارون في ذات الفكرة، فدارون يرى أن الإنسان بشكله الحالي تطور عبرالنشوء والارتقاء وانتخاب الطبيعة للأفضل، وأنه كان في البداية قردا ثم تحول عبر الاف السنين ليكون إنسانا، وتقتضي النظرية – التي يؤسس عليها الفكر الإلحادي اليوم- أن الإنسان في تطور مستمر، وإذا كان التركيز اليوم على التطور المادي والتقني وتجاهل الجانب الروحي والأخلاقي، فإن الواقع يعزز هذه الفكرة، فالبشر في كل يوم يتقدمون تقنيا عن اليوم الذي قبله، مما يجعل البعض يستخدم نفس المبدأ للحكم على عالم الأفكار، فيرى أن فكرة التعلم النشط في التدريس أفضل وأرقى من فكرة التلقين لمجرد أنها أحدث منها، تماما كما أن أيفون 8 أفضل من نوكيا الدمعة بلا مناقشة.

 يشيع اليوم بين الناس أن يعيب أحدهم فكرة ما لأنه ولى زمنها، ولأن الناس أضحوا يفكرون بطريقة مختلفة، وكأنه ينبغي أن نبقي أعيننا على التقويم حين نريد تبني أي فكرة في أي مجال خشية أن تكون صلاحيتها قد انتهت ونحن لاندري، ولكن، هل هذا صحيح؟ هل يصحّ أن نعتبر (الجِدّة) معيارًا للحكم على صحة الأفكار؟ وهل يصح أن نقول إن تفكير الناس اليوم وعقولهم أفضل من القرون السابقة لمجرد التقدم الزمني؟

نحن في الإسلام لانحكم على أمور الدين والأخلاقيات بنفس المعيار الذي نحكم به على الماديات، فنحن وإن كنا نقرّ بأننا نعيش اليوم عصرا متقدما ماديا، إلا أنه متأخر بل متخلف روحيا وأخلاقيا، ولدينا يقين جازم بأن الأفضل مضى ولن يعود، وهو عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وأن أفضل مايمكن أن نبلغه من تقدم ورقي هو محاولة القُرب من ذلك النموذج المثالي، ولن نكون مثله، لكنه معيار قربُنا وبعدُنا منه يحدد مقدارَ تقدمنا أو تأخرنا، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ )، يشير الحديث إلى أن عصورا من ( التخلف ) قادمة، وإن كان هيجل وماركس وملايين الناس اليوم يعدونها أكثر تقدّما.

قلت في الفقرة السابفة إننا -نحن المسلمين- لا نحكم على الماديات بنفس المعيار الذي نحكم به على المعنويات، فإن كنا اليوم نعيش عصرا متقدما ماديا، فإنه متخلف روحيا، ولكن مهلا، حتى هذا التقدم المادي يعد تخلفا في نظرنا أيضا إذا انحرف عن مُراد الله، وأدى إلى جفاف الروح والتعلق بالدنيا – وهذا هو الحاصل اليوم- فالبشرية تستخدم العلم المادي التجريبي بطريقة منحرفة عن مُراد الله وحكمته في تسخير الكون للإنسان، فهي تصنع المزيد من القنابل والأسلحة المدمرة، والتي لن يروج سوقها إلا بتذكية الحروب وإشعالها وضمان استمرارها، كما أن صناعة الأدوية والتجهيزات الطبية تروج بشكل مخيف وغير أخلاقي في كثير من الأحيان، فالأدوية تطيل متوسط الأعمار وتبقي الناس في حاجة ماسة للدواء  والفحوصات بالأجهزة، وهذا يخدم الهدف الأساسي: تدفق المزيد من المال لشركات الأدوية والتجهيزات الطبية، فالميت والصحيح كلاهما لايحتاج الدواء ولا الفحص المستمر، المستهلك المثالي هو إنسان صحيح موسوس، أو مريض مزمن، فضلا عن شركات تصنيع الأطعمة التي تستخدم أحدث ماتوصل له علم الكيمياء لصناعة طعام غير طبيعي، وملئ بالزيوت المهدرجة، يدمنه الناس ويزهدون في الطعام الطبيعي الذي لا يتوفر فيه نفس المقدار من الملح والسكر والدهون والنكهات الصناعية، وماينتج عنها من سمنة وأمراض قلب وسكري، وكأن كل تقدم واحد يجلب معه آلاف المشكلات التي لم يعانِ منها الناس سابقا.

ماذا عن شركات تصنيع السلع المختلفة، من ملابس وهواتف محمولة وأجهزة، والتي تدمر البيئة، وتشغّل الفقراء والأطفال والنساء في ظروف قاسية وظالمة وغير أخلاقية لضمان إغراق السوق بمزيد من السلع، ماذا عن صناعة المواد الإباحية وتجارتها المتزايدة والتي كانت السبب الأساسي في تطور الكاميرات الرقمية الاحترافية وزيادة دقتها لإتقان إنتاج المواد الإباحية ورواجها؟

هذه مجرد أمثلة لانحراف التقدم المادي عن مُراد الله، وإسهامه في إضرار الناس بدلا من نفعهم، أما الخلل الثاني فيكمن في أن التقدم المادي يجرنا إلى تخلف لايريده لنا الإسلام، وهو الركون للدنيا والاطمئنان بها، وما يجره هذا من شقاء بسبب جفاف الروح، لأنها لم تُخلق للأرض، خُلقت لتسكن الجنة، وما وجودها هنا إلا مرور عابر لايمكنها أن تجعله غاية تقنع بها، إن الركون للدنيا ليس ارتفاعا ولا تقدما ولا طموحا، بل انحدار وتثاقل وتواضع في الطموح، ألم يعاتب الله عز وجل بعض المؤمنين على قناعتهم بالأدنى في سورة التوبة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38).

هناك الكثير من النقاش حول آفات الحداثة اليوم، ومعظم من يناقش الأمر هم الغربيون أنفسهم، يشككون اليوم في جدوى المغالاة في أهمية العلم التجريبي، وينتقدون الانحرافات الأخلاقية لاستخدامه، ويسهبون الحديث عن غربة الإنسان في عصر الحداثة، عن شعوره بالتفاهة واللاجدوى، عن تفكك العلاقات الاجتماعية وانتشار الاكتئاب، عن الشك في أن العالم يتقدم للأفضل، عن القلق الوجودي في عالم اليوم، بعد أن بلغ الإنسان مابلغ من تقدم مادي تزايد معه القلق والاكتئاب، والذي تمثله اللوحة التي أرفقت صورتها في هذا المقال وهي لوحة (الصرخة) للنرويجي ادفارت مونك، ثاني أشهر لوحة بعد الموناليزا، وقد اكتسبت أهميتها في تعبيرها عن القلق والهلع وغياب المعنى في حياة الإنسان المعاصر، عن حيرته في جدوى التقدم، وقد زادت شعبية هذه اللوحة بعد أن أهلكت الحربين العالميتين ملايين البشر في القرن العشرين، الذي كان يمثل ذروة التقدم المادي.

إن التطور المادي إذا انحرف في أصله وقام على غير مُراد الله، وانحرف في غايته فجعل الدنيا هي غاية المُنى، فقد أضحى تخلفا لاتقدما، وإن علينا أن نعيد التفكير في تقييم الأشياء والأفكار بمرجعيتنا نحن: الكتاب والسنة؛ لأن كثرة المِساس مع الحضارة الغربية أذهبت إحساسنا، وأضاعت وجهتنا، فأصبحنا نرى الأمور على غير حقيقتها، ونسميها بغير أسمائها، ونتبنى -دون أن نشعر- قيَمًا ومعايير تخالف أصول ديننا، والأمة التي لا تراجع أفكارها تنجرف وتغرق وتتلاشى، لنتقدم في الوجهة الصحيحة، نقترب من خير القرون،  ونجعل تقدمنا المادي قائما على مراد الله، خادما لغايتنا الكبرى في نشر الحق وإرادة الله والدار الآخرة، فقد ضيّعنا كثيرا من الوقت في محاولة التقدم الزائفة حين أضعنا بوصلة الطريق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

2-الثقافة والتعليم

45758683-sport-icon-stadium-sign

وردني سؤال في برنامج ask عن الثقافة والتعليم وهل هما متكاملان؟ ووعدت صاحبته بالإجابة لاحقا في مقال قد حان وقته.

لنتفق بداية على المقصود بكلمتي (الثقافة والتعليم) فالثقافة مصطلح له معنى اجتماعي مخصص ساقه  تايلور في تعريفه الشهير بأنها ذلك الكل المعقد من  المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع، فنقول ثقافة المجتمع السعودي، الثقافة الأوربية.. وهكذا، ولكن هذا المعنى ليس هو المقصود هنا، بل المقصود ذلك المعنى الشائع المتداول بين الناس وهو الثقافة بوصفها المعرفة المكتسبة غالبا من قراءة الكتب، والتي تظهر آثارها في مواقف الإنسان وحديثه وكتابته، أو كما يصفها البعض بأنها: الأخذ من كل فنٍّ بطرف، أما التعليم فأظن السائلة تقصد به التعليم النظامي، في المدارس والجامعات، والذي ينال المرء به شهادات علمية.

حسنًا، ما العلاقة بينهما؟ وما الفرق؟ سأتناول الموضوع من ثلاث نواحٍ:

  • التعليم النظامي والتعلم الذاتي
  • التخصص الدقيق والثقافة العامة
  • هل تكفي الثقافة العامة وحدها؟

1- التعليم النظامي والتعلم الذاتي:

لعل الميزة الأساسية للتعليم النظامي هي أن له منهجية واضحة، سواء من حيث اختيار المحتوى، أو المدة المحددة، فقد يطول تثقيف المرء لنفسه بحسب ظروفه وهمّته، وقد يتشتت في دروب المعرفة، لكن التعليم النظامي غالبا يجبر على الإنجاز لأنك مرتبط فيه بمؤسسة رسمية رسمت لك الخطة سلفا من حيث محتواها ومدتها، ولاشك أن جودة التعليم النظامي تختلف من مؤسسة تعليمية لأخرى.

لكن التعليم النظامي، مهما بلغت قوته – وكلنا نعلم أنه إلى الضعف أقرب- لا يكفي لوحده، و أنا لا أزهّد الناس فيه، ولكنني شخصيا أزهد بمن يكتفي به، فالعلم الحقيقي أكبر من أن تتسع له أسوار المدارس والجامعات أو تحويه صفحات مقرراتها الدراسية.

هناك طريقٌ موازٍ لابد من أن نسلكه مع أبنائنا قبل دخولهم المدرسة، ونسلكه مع أنفسنا حين نصل لسنٍّ نتحمل فيه المسؤولية، وهو طريق التعلم والتثقيف الذاتي، إذ لايصح ولايليق أن تكون علاقة الطالب بالكتب مقتصرة على المقررات الدراسية والجامعية، أو أن يكون أستاذه أو جامعته مصدر المعرفة الوحيد له، لأنه مهما كان متفوقا في دراسته، مؤديا لما يُطلب منه، فسيظل قاصرا مادام مكتفيا بما يُطعمه أساتذته، طالب العلم الحقيقي لديه جوع معرفي لايمكن للمؤسسة التعليمية النظامية إشباعه لوحدها، لديه نَهَمٌ وشغف حقيقيين، يدفعانه لالتهام كتب لم يفرضها عليه إلا سعيه الجاد للمعرفة، وللتعلم من أناس لم يلزمه بالتعلم منهم إلا إحساسه العميق بأنه يستحق الأفضل.

هذا النوع من الطلاب هو الذي ينتج ويتفوق تفوقا نوعيا، لا أعني ذلك التفوق الذي يُعبّر عنه بالدرجات والشهادات فقط، لكنه العمق المعرفي الذي تظهر آثاره في معرفته ووجدانه وسلوكه ومهاراته العالية، وهذا العمق يتطلب ثقافة عالية لا تعليما نظاميا فحسب، ولعل هذا هو الفرق الجوهري بين طلاب العلم وطلاب الدرجات والشهادات، هذا هو الفرق الذي يجعلنا نرى شخصين يحملان ذات الدرجة العلمية وبينهما بونُ شاسع في العلم والتفكير.

2- التخصص الدقيق والثقافة العامة:

يكتفي البعض منا بالانهماك في تخصصه الدقيق، ويهمل الثقافة العامة، باعتبار أن التخصص هو المهم، وبقناعة مفادها أن الانهماك الزائد في التخصص والانقطاع عن العلوم الأخرى سيزيده براعة في تخصصه، ويكتفي آخرون بالتنقل كالفراشات بين علم وآخر دون التخصص في علم بعينه، وكلا المسارين خاطيء، وإن كنت سأنتقد الأول فقط لأن انتشاره أكبر وخطؤه أخفى، لأن المرء يحتاج للأمرين معا: الثقافة العامة، والتخصص الدقيق، فالثقافة العامة تعطيه رؤية بانورامية للحياة من الأعلى، والتخصص الدقيق يهبه نظرة ثاقبة لجزء من هذه الحياة، فإذا اكتفى بهذا النظر الجزئي، فاتته النظرة العامة، وضاق أُفقه، فصار كالأعمى الذي أبصر مرة فرأى أذن فيل، فطفق يصف كل شيء في الحياة من خلال أذن الفيل لأنه لايعرف غيرها ! وهذا في الحقيقة حال من يغرق في تخصصه ويهمل الثقافة العامة إذ تراه بالغ الجهل في غير تخصصه، ومغاليا في أهمية هذا التخصص لأنه لا يعرف سواه فيحتقر العلوم الأخرى، والمرء عدو مايجهل، أما من يثقف نفسه خارج تخصصه فنظرته أوسع، وتعصبه لتخصصه أقل لأنه يعلم أن لكل علم أهميته، فضلا عن استفادته من ثقافته العامة في إثراء تخصصه الدقيق فهو يطعّمه بما لديه من العلوم الأخرى، سواء بمحتواها أو منهجيتها، ولذلك تتصاعد أهمية الدراسات البينيّة حاليا، وهي الدراسات التي تتقاطع فيها التخصصات.

3- هل تكفي الثقافة العامة وحدها؟

قد يظن القارئ الذي وصل إلى هذا السطر أنني أتعصب للثقافة العامة، وهذا غير صحيح، فالتعليم المنهجي هو الأساس، نظاميا كان أو في المساجد ومسالك التعليم المختلفة، لأن الثقافة العامة قد تنزلق بصاحبها للفوضى المعرفية أو المنهجية، ولعل أكبر مثال على هذا هو العقاد، فرغم ما يمتدحه به المثقفون من أنه لم يكمل تعليمه الابتدائي وبلغ مابلغ من الثقافة، إلا أن ثقافته لم تكفِه، فقد ظهر تخبطه المنهجي في كتاباته وخاصة العبقريات، ولعلي أخص بالتعليم المنهجي هنا: علوم الشريعة، ومنهجية البحث العلمي، فلا غنى عنهما أبدا، ونحن نرى اليوم  التخبط المعرفي الذي قد يصل للإلحاد جراء البعد عنهما والاكتفاء بالثقافة لمجرد الثقافة.

وزبدة الكلام يارفيقتي أن التعليم والثقافة متكاملان ولا يغني أحدهما عن الآخر.