11- يريد الله بكم اليُسر

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يكثر اليوم الحديث عن أن الإسلام “دين اليُسر”، ويمتطي هذا القول أقوام لشرعنة الشهوات والشبهات وتطويع الشريعة لهوى النفوس، لكن اليُسر في الإسلام ليس مقصوده تطويع الشرع لهوى النفوس، بل مقصوده الأعظم: تيسير الاستقامة على الصراط المستقيم، بمراعاة طبيعة البشر مراعاة دقيقة، وهذا معنى ينبغي أن ننتبه له لنفهم يُسرَ الشريعة فهما صحيحا، ولعلي أوضّح ذلك في السطور التالية.

من رحمة الله بالخلق أن جعل فطرة التوحيد هي الأصل في نفوسهم، ثم أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وبيّن الحق أشدّ بيان، وختم الرسل والكتب بخير الأنبياء وأكمل الكتب، وقد قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: “تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك”، كل ذلك لنسنتبين الصراط المستقيم، فلا ينحرف عنه إلا ضالّ، وجعل الله الشريعة مُيسّرة لنا ملائمة لطبيعتنا البشرية، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟

والشريعة في مجملها: أمرٌ ونهي، فإما طاعات نؤمَر بأدائها، أو معاصٍ نُنهى عن فعلها، فكيف جعل الله الشريعة ميسرة في ذاتها، مُراعية للطبيعة البشرية، مُساعدة للإنسان ليأتمر بالأمر وينتهي عن النهي بيسر وسهولة؟

في جانب الأوامر، يسّر الله علينا القيام بها، فلم يكلفنا ما لانطيق، فالصلاة مثلا، يؤديها كل مسلم بحسب وِسعِه: قائما أو قاعدا أو مضطجعًا، والوضوء كذلك: فقد يشق الوضوء بالماء لعدمه أو ضرره، فشرع الله التيمم تيسيرا للعباد، وكذلك شرع الفطر والقضاء للمريض الذي يُرجى برؤه والحامل والمرضع،  وربط تكليف الحج بالاستطاعة، وتكليف الزكاة ببلوغ النصاب، وأسقط فرض الجهاد عن العاجز والأعمى ومن هو في مثل حالهم، وشرع الجمع والقصر في حال السفر، وجمع الصلوات في حال المطر الشديد، والقائمة تطول في أمثلة تيسير الله للطاعات على عباده كلٌّ بحسب حاله: والمراد من ذلك كله ليس اتباع هوى النفوس في الرغبة في التخفيف، بل تمكين المسلم من طاعة ربه بحسب حاله، فيبقى مطيعا لربه، مستقيما على الصراط المستقيم، بحسب استطاعته، وهذا تيسير عظيم لسبيل الجنة، ومراعاة لظروف البشر على اختلافها، لايمكن أن تصدر إلا من حكيم خبير.

أما في جانب النواهي، فقد يسّر الله علينا تجنب المعاصي بسُبُلٍ شتى، وقد راعى في ذلك طبيعة النفس البشرية مراعاة دقيقة تعجز عنها أرقى مدارس الطب النفسي، أو مؤسسات الإصلاح المجتمعي ومكافحة الجريمة، فلأن الله يعلم أن طبيعتنا البشرية تميل للشهوات، ونفوسنا ضعيفة، لايكفيها الإيمان القلبي وحده للكفّ عن المعاصي، فقد يسّر لنا اجتناب المعاصي بسدّ ذرائعها الموصلة إليها، فحين حرّم الزنا، حرّم  سُبُلَهُ المفضية إليه: من إطلاق البصر، وخلوة المرأة بالرجل الأجنبي عنها، والخضوع بالقول، وفرض الحجاب، وكل هذه أوامر قد يراها الإنسان قيودًا، لكن في حقيقتها تيسير ورحمة، ففي مجتمع يسوده الحجاب، وتُغَضُّ فيه الأبصار عن النساء أو الصور المحرمة، سيكون اجتناب الزنا يسيرا لايحتاج عزيمة قوية، أما في مجتمع لايقوم بشرع الله، ويتعرض فيه الناس للفتن طوال الوقت فلن يصمدوا طويلا، ستنهار دفاعاتهم الإيمانية ويقعون في الحرام مع كثرة الأسباب الداعية إليه، ويكون عسيرا عليهم اجتنابه، وبذلك يكون التيسير في هذا الجانب بالتحريم لابالتحليل، لأن الله أعلم بطبيعة النفس البشرية، هنا يعلم الإنسان أن المؤسسات الإعلامية التي تتفنن في إثارة الشهوات بزعم تسلية الناس، إنما تُمعِن في إفساد المجتمع، وتعسير الاستقامة على الصراط المستقيم، والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28).

إن الله حين أباح الحلال، يسّر سُبُلَه، وحين حرم الحرام، سدّ ذرائعه، كل ذلك تخفيفا منه ورحمة وتيسيرا، لكننا نخالف أمر الله تعالى ونعكس الحال، فيصبح من العسير اجتناب المحرم، وقِس على المثال أعلاه أمورا شتى: فالتهاون في الالتزام بالشرع -والذي يُفعل بزعم تيسير الدين-  يجعل من العسير اجتناب المعاصي، فالتهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشيوع الفساد الإعلامي، والتهاون في ارتكاب المنكرات بدءً بصغيرها وانتهاءً بكبيرها، ينشر المعاصي في المجتمع فيعسُرُ اجتنابها، وتعسُر تربية الأبناء على القيم الإسلامية الصحيحة.

ما أريد قوله هنا هو أن يُسر الشريعة أمر لايقاس بمدى مطابقتها لهوى النفوس، فقد علِمنا من رسولنا الكريم أن الجنة حُفّت بالمكاره، وأن النار حُفّت بالشهوات، ولو كان معنى اليسر موافقة هوى النفوس لانقلبت الشريعة رأسا على عقِب، قال القرطبي رحمه الله: “وحاصل الأمر: أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سُنَّته، ولا على منهاج شريعته”.

إن اليسر في الإسلام يهدف لتيسير سبيل الاستقامة على الصراط المستقيم، وبذلك نفهم التيسير في التحريم، كما نفهمه في الإباحة، وندرك أن كثيرا من قيود الشريعة  تيسير لنا لا تعسير، حتى وإن كان فيها مخالفة لهوى نفوسنا، لأن الرجوع في بداية مشوار الخطأ أيسر من الرجوع عند التمادي فيه وامتلاء النفس به، والله تعالى يقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ  الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).

ألم يقل لك أخصائي التغذية يوما إن مما يساعدك على الالتزام بالحمية الغذائية أن تُخرِجَ أكياس البطاطا المقلية من منزلك، وأن تحذف حسابات المطاعم من قائمة متابعتك، لأن وجودها يغريك ويضعف إرادتك؟!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نُشرت بواسطة

ليلى العصيلي

معلمة لغة انجليزية، طالبة دكتوراه في أصول التربية، قارئة وأهوى الكتابة، أقترف شيئا من الترجمة، أطمح أن أسهم في تغيير المشهد التربوي والتعليمي للأفضل

فكرة واحدة بشأن "11- يريد الله بكم اليُسر"

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s