10- إنما النصر مع الصبر!

الصبر

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تأملت يوما في سبب الفلاح في أمور الدنيا والآخرة، فوجدت أن له معادلة واضحة: حبس النفس عن لذّة عاجلة صغرى، من أجل تحصيل منفعة آجلة كبرى، وهذه المعادلة تصحّ على كل فلاح: الفوز بالجنة والنجاة من النار،  التقوى و الاستقامة، تزكية النفس، حسن التعامل مع الناس، الإنجاز العلمي، حسن تدبير المال واستثماره، حفظ الوقت، حسن التعامل مع المصائب، الحفاظ على صحة البدن…. وخلافها من مؤشرات الفلاح الدنيوي أو الأخروي، والتي نطمح جميعا لتحصيلها، ووجدت أن صفة جوهرية تمثّل أساس الفلاح وتحقيق هذه المعادلة، هذه الصفة هي: الصبر، والصبر في اللغة: الحبس والمنع، والعقل كل العقل في الصبر، فالعقل معناه الحبس والمنع أيضا!

إن الاستقامة على شرع الله تتطلب الصبر: الصبر على طلب العلم الذي تعرف به الأوامر والنواهي، ومنه تكرار تلاوة القرآن وسماعه وكذلك الحديث النبوي، والصبر على العمل بهذا العلم: من اتباع الأوامر واجتناب النواهي، ومنه الصبر على المصائب، فالنفس تكره التكليف، وتحب الشهوات، وتبغض المصائب، ولا يقيمها على مُراد الله إلا الصبر، الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر عند نزول المصائب،  إن الإسلام كله يتطلب الصبر على مقتضى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله: في اعتناقها، والتمسك بها، والعمل بمقتضاها ومصارعة هوى النفس، وشياطين الجن والإنس الذين يصدون عن الصراط المستقيم.

والصحة النفسية التي هي أساس العَيش السعيد تتطلب صبرا على أكدار الدنيا، من فقد محبوب أو ابتلاء بمرضٍ أو ضياع مالٍ أو فوات مطلوب أو سوء حال، فالصبر يوطّن النفس على البلاء ويساعد على التعايش معه والتفكير السليم في الحلول الممكنة والخيارات والفرص المتاحة، ومواصلة الحياة، وهذا  ما لايمكن تحصيله مع الجزع والتسخّط، وقد تفطّن غير المسلمين أيضا لأهمية الصبر والرضى في هذا المقام، وعدّوه أحد وسائل العيش السليم ومنع الاكتئاب، بل إن اللغة الانجليزية تستخدم كلمة واحدة لتصف المريض والصابر Patient !

أما العلم فلا يُحصّل إلا بالصبر، هل تعرف شخصا ملولا قد نال علما حقيقيا؟ روي عن حَبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنه أنه سُئل: بمَ أدركت العلم؟ فقال: “بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول“، وقد ألف الشيخ عبدالفتاح أبو غدة كتابا قيّما عنوانه (صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) جمع فيه الأخبار التي تبيّن لك بجلاء أن هؤلاء العلماء لم ينالوا العلم براحة الأبدان، ولا يمكنك أن تجِد حافظا للقرآن – وهو أساس العلم- إلا وقد صبر طويلا على الحفظ والتكرار والمعاهدة والمراجعة، وقد قرأت في مذكرات المسيري رحمه الله أنه عكف على تأليف موسوعة اليهودية والصهيونية خمسة وعشرين عاما! نعم، استغرق تأليفه للكتاب ربع قرن، أي ثلث حياته رحمه الله! وإذا تأملت سِيَر العلماء المسلمين وغير المسلمين -قديما وحديثا- وجدت الصبر والتركيز وحبس النفس عن الملهيات ديدنًا لهم، إنها سنة من سنن الله في الكون، لاتحابي أحدا، وكم سبّبت قلة الصبر على مذاكرة العلم من ضعفٍ علمي، وتأخّر دراسي، وخسائر جمّة.

ماذا عن حُسن الخُلُق؟ إن الحِلمَ يتطلب صبرا عن الانفعال والغضب، وقول الحق يتطلب صبرا على نتائجه، والصمت عن الكلام المحرم أو اللغو يتطلب صبرا عن الميل الفطري للثرثرة، والكرم  يتطلب صبرا عن شحّ النفس، والإحسان إلى الناس يتطلب صبرا عن الأنانية، والعفو يتطلب صبرا عن الانتقام، وحسن الإنصات يتطلب صبرا عن التشتت أو الرغبة في المقاطعة، وحسن الرد يتطلب صبرا عن الاندفاع في قول غير محسوب النتائج، والتغافل يتطلب صبرا عن شهوة التيقظ لزلات الناس، والرفق يتطلب صبرا عن التهوّر، وحفظ السر يتطلب صبرا على شهوة إفشائه…والقائمة تطول، حتى إنك لا تكاد تجد خلوقا -بالمعنى الحقيقي للأخلاق- إلا وهو صبور متأنٍّ هادئٌ في تعامله مع الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» رواه مسلم، هل يمكن أن يمتلك محاسن الأخلاق شخص لايصبر في ردود أفعاله وفي ما يتفوّه به من كلام؟! يقول علماء النفس إن التميز في العلاقات يتطلب منك أن تضع مساحة زمنية بين الفعل الذي تراه وردّة فعلك تجاهه، هذه المساحة هي (الأناة) التي يحبها الله، التروّي والصبر أساس حسن الخُلُق.

أما النجاح في بيئة العمل، فيتطلب صبرا عظيما، صبر على الانضباط والالتزام بأوقات العمل والحضور، صبر على تعلم المهارات اللازمة لتجويد العمل والمحاولة والخطأ، صبر على التعامل مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين والمستفيدين، صبر عند التعامل مع الضغوط والمشكلات، صبر على مشقة العمل وواجباته وتحمل مسؤوليته.

أما التربية، فيكاد يكون الصبر مفتاح النجاح فيها، الصبر على التعامل مع الأبناء والطلاب، والاستماع إليهم، وتعليمهم وإرشادهم، وتحمّل أخطائهم وبطء استجابتهم، معظم أخطاء التربية تنتج من نفاد صبر المربي،   مثلا: تضع الأم قانونا لأوقات استخدام الانترنت في المنزل، لكنها لاتصبر على إلحاح الأبناء أو بكائهم وإزعاجهم حين يُقفَل عنهم الانترنت، فتنقض قانونها وتفتح لهم المجال وتفشل في تعويدهم معظم العادات الحسنة لنفاد صبرها، سمعت مرة من د. ميسرة طاهر أن بكاء الرضيع من غير مرض سببه قلة صبر أمه، فالرضيع يتعلم منذ أيامه الأولى أن البكاء خير وسيلة لابتزاز الأم وحملها على فعل مايريد، إنه يريد منها أن تحمله باستمرار، فيستخدم البكاء وسيلة للضغط عليها وإجبارها على حمله، ولكن المفترض أن تعي الأم هذا النوع من البكاء الذي لايعبر عن مرض أو احتياج حقيقي وتتجاهله -مع مراقبتها للطفل- حتى يتعلم أن هذه الوسيلة لاتنفع فيكف عن استخدامها، وقد أضاف الدكتور أن سلوك الابتزاز يكبر مع الطفل ويتخذ أشكالا عدة، ولاعلاج له إلا بالتجاهل، لكن معظم الآباء ينفد صبرهم بسرعة ويستجيبون للابتزاز اللحظي طلبا للراحة، ولكنهم يعانون ثماره المرهقة على المدى البعيد.

كل ما يخطر على بالك من الفضائل وأسباب الفلاح التي نعلم يقينا أهميتها لكننا لانقوم بها، لايمنعنا منها إلا قلة صبرنا عليها، كلنا نعلم أهمية صحة الجسد، ولكننا نرتكب في حق أجسادنا أخطاء كارثية لنفاد صبرنا، فالأكل الضار في معظمه لذيذ ومُغرٍ، وقلة الحركة أمر مريح، والسهر عادة مسلية أحيانا، لكن الالتزام بالأكل الصحي، ومداومة الرياضة، والالتزام بالنوم المبكر عادات تتطلب صبرًا، ولكن ثمارها نافعة: صحة داخلية، ووقاية من كثير من الأمراض بإذن الله، وجمال خارجي، وإنتاجية أكبر، فكيف نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير إلا لافتقارنا للصبر! وتقلقني شخصيّا انتشار جراحات السمنة في السنوات الأخيرة، كقص المعدة والتكميم وغيرها، لا لخطرها المحتمل على الجسد فحسب، ولكن لتعبيرها عن افتقار أفراد المجتمع مؤخرا إلى الصبر، حيث لايمكنهم فقدان الوزن إلا بتدخل جراحي يجبرهم إجبارا على عدم الأكل، وهذا مؤشر غير جيد لقوة الشباب الذين هم ذُخر المجتمع.

هناك قصة شهيرة تُروى عن عنتره -ولا أعلم صحتها لكن معناها صحيح- بأن رجلا سأله عن سر نيله لهذه المكانة فقال: بالشجاعة، قال له: وما الشجاعة؟ قال: الصبر!  فاستغرب السائل، ما علاقة الشجاعة بالصبر؟ قال عنتره: عُضّ اصبعي وأعضّ اصبعك فأينا صرخ أولا هُزم، فصبر الرجل قليلا ثم صرخ، قال عنتره: لو لم تصرخ لصرختُ أنا، ولكني صبرتُ فكنتُ أشجع! إنني أتخيل عنترة في تلك اللحظة وكأنه بطل أولمبي يدرك أن فرق جزء من الثانية يُكسِبه شرف كسر الرقم القياسي، وأن الصبر والمصابرة هي التي ستقوده لمراده.

إن الصبر عقلُ وحبس للنفس عن شهواتها، وهذا مطلب جوهري في كسب المال وحسن تدبيره، كيف ينجح مشروع تجاري لم يصبر صاحبه على المثابرة فيه؟ وكيف يحفظ المرء ماله من الضياع مالم يصبر على المغريات والرغبة في التتسوق؟ من أهم العادات النافعة اقتصاديا عادة الادخار، والاعتياد على تحديد الاحتياجات الفعلية عند الشراء، لكن صبرنا ينفد أمام إغراء السلع، فنشتري مالانحتاج، ثم تضيع أموالنا وتضيق مساحات منازلنا، إن العقل -الذي يحمل معنى المنع والحبس والصبر- يمنع المرء من تبذير المال، لذلك اقترن سوء تدبير المال في القرآن بالسّفَه وترك النفس على هواها: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا) لأن المال عصب الحياة وقوامها، والسفيه يضيّعه في التوافه، وبنقيض ذلك فإن العقل في حسن تدبير المال، وفي وسط الآيات التي تتناول المال في سورة البقرة جاءت هذه الآية: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269). 

تطول قائمة أمثلة اقتران الصبر بفلاح الدين والدنيا، و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جملة وصيته لابن عباس رضي الله عنه “واعلم أن النصر مع الصبر” والنصر هنا كلمة معرّفة بأل، لتفيد العموم، كل نصر لابد له من صبر، نصرك على نفسك، وعلى أعدائك من شياطين الجن والإنس، وارتقاؤك لكل فضيلة وسموّ لابد له من الصبر، ولكن إذا كانت الوسيلة معروفة وواضحة إلى هذا الحد، فما بالنا لاننتصر ولا نرتقي كما نريد؟ لأن الصبر أمرٌ شاقٌّ على النفوس، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “والصبر ضياء” رواه مسلم، ويقول الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث وسبب اختيار كلمة ضياء لوصف الصبر: ” لأن الضياء فيه حرارة كما قال الله عز وجل :جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والصبر فيه حرارة ومرارة، لأنه شاقٌّ على الإنسان”، ولأن الصبر شاق، فإن ندرة من الناس يتميزون في مجال ما، أو في عدة مجالات، وقد قال المتنبي:

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ        الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتّالُ !

وقال غيره:

والصَّبرُ مثلُ اسمِه مرٌّ مذاقَتُه    لكن عواقِبَه أحلى من العَسَلِ

لكل إنسان نصيب من النصر مرتبط بنصيبه من الصبر، وكلما زاد صبر المرء وتنوعت مجالاته ارتقى في جوانب حياته المختلفة، و الصبر صفة تتطلب تمرينا ومجاهدة؛ لأن طبيعة الإنسان الفطرية هي الميل مع شهوات النفس، فالصبر لايولد مع الإنسان لكنه يتعلمه ويكتسبه، ولتقوية صفة الصبر عند الإنسان فإن عليه أن يُلزم نفسه بما يجب عليه ويستمر وإن كان الأمر قليلا جدا، ثم يزيده شيئا فشيئا، لكن المهم الصبر والاستمرار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحب الأعمال إلى الله: أدومها وإن قل” رواه البخاري، هذه المداومة تتطلب صبرا، ولابد للمربي أن ينتبه لدوره في تقوية صبر المتربي فلا يضعف صبره بالتدليل وتلبية كل مايريد، بل يعوّده التغلب على هوى النفس ومجاهدتها، يعلمه الصبر على ماينفعه وإن كان مُرّا، والصبر عن المُلهيات وإن كانت حلوة مغرية، والمربي نفسه في تربيته هذه يحتاج صبرا كما ذكرتُ آنفا، فما أسهل تقديم كل شيء للنشء والارتياح من تذمرهم وإلحاحهم!

إن الصبر قوة للفرد والمجتمع، ولذلك فإن أسهل وسيلة لتدمير أي إنسان وهزيمة أي مجتمع، هي إغراقه بالشهوات والمُلهيات حتى يفقد الصبر عنها ويُصبح عبدًا لهواه، ويقعُدَ عن كل فلاح ويستصعبه، فلايعود قادرا على العمل الجاد أو مقاومة المغريات، ولذلك لابد من تربية النفس وتوطينها على الصبر، وتعزيز هذا الخُلُق لدى النشء، وبثّه في الكبار والصغار، والله تعالى يقول في ختام سورة آل عمران التي هُزِم فيها المسلمون نتيجة عدم صبر فئة منهم على البقاء على الجبل، ونزولهم السريع رغبة في الغنائم، وتمكّن عدوّهم منهم بسبب هذه الثغرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نُشرت بواسطة

ليلى العصيلي

معلمة لغة انجليزية، طالبة دكتوراه في أصول التربية، قارئة وأهوى الكتابة، أقترف شيئا من الترجمة، أطمح أن أسهم في تغيير المشهد التربوي والتعليمي للأفضل

7 رأي حول “10- إنما النصر مع الصبر!”

  1. شكرًا لجمال طرحك ، من قراءتي لموضوعك إستشعرت عِظم الصبر وفضل من جاهد نفسه عليه فا الله سبحانه يقول (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)
    فكل فضيلة وفوز ونجاح مبنية على الصبر.
    شكرا للفاضلة الاستاذة زينب الخضيري التي أرشدتنا نحن طالباتها لقراءة هذا الموضوع .

    إعجاب

أضف تعليق