السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ازدهرت دورات التنمية البشرية في العقود الأخيرة، ولاجدال أن في محتواها خير عظيم مهما قُلّل من شأنها، لكنها لم تخلُ من الضرر والمبالغة، ومن القيم التي غالت دورات التنمية البشرية في الإشادة بها، قيمة: الثقة بالنفس، فقد كان الناس في فترة سابقة غارقون في التفكير الجمعي لدرجة نسيان كل منهم لذاته، وتقييمه لها بناء على آراء الآخرين، وخوفه من الإقدام على إنجازات فردية، خاصة لو لم يملك سجل إنجازات منذ سن مبكر يجعل العالم يعترف به، فكان من الضروري إعادة ثقة الفرد بنفسه بعيدا عن التأثر بما يحمله الآخرون من انطباع عنه، أو مايحمله هو من انطباع عن نفسه.
لكن -كعادة أي مفهوم- فإنه يبدأ غريبا مستهجنا، ثم يتقبله الناس، ثم يبالغون فيه حتى التطرف فينقلب لأمر ضار، وهذا ما حصل مع مفهوم الثقة بالنفس، حيث تحوّل مع الوقت إلى انتفاخ أجوف، وغرور مستهجن، فالكل واثق بنفسه، في كل شيء، والجميع يرى نفسه فوق السحاب، يتجاهل عيوبه باسم الثقة بالنفس، ويصمّ أذنيه عن سماع الآراء باسم الثقة بالنفس، حتى أصبحت هذه الثقة عائقا عن التعلم والتطور، فالتعلم فعل يتطلب التواضع، والاعتراف بالجهل والتقصير، ومعرفة العيوب والمزايا بدقة، والعاقل يثق بنفسه في الأمور التي يمتكلها حقا، لكنه يتواضع عند الأمور التي يفتقدها ويعترف بقصوره، وهذا ماعرفه علماؤنا الأوائل باسم الصدق مع النفس.
وقد قرأت مقالا لـ Simon Borg بروفيسور التنمية المهنية لمعلمي اللغة الانجليزية، يؤكد فيه من خلال احتكاكه بالمعلمين حول العالم أن الثقة المطلقة بالنفس قد تعيق المعلم عن تطوير عمله، لأنه راضٍ تماما عما يقوم به، ولايشعر بالحاجة للتعلم، وقد لاحظ أن المعلمين الذين يخوضون تجربة تنمية مهنية جادة تهتز ثقتهم بأنفسهم وتتراجع شيئا ما حين يدركون أن أمامهم الكثير ليتعلموه، لكن هذا هو الذي يطوّرهم حقا، ويكسبهم ثقة مستحقة بالنفس، ثقة مصدرها العلم والإنجاز الحقيقي لا مجرد الادعاء الفارغ، ثم يؤكد على أهمية الصدق مع النفس، ومعرفة المعلم لنقاط قوته وضعفه بدقة، كي يتطور فعلا، هنا رابط المقال.
ذكرني مقاله بظاهرة أواجهها كثيرا في مجال التعليم، وهي ادعاء بعض المعلمات أنها واثقة من نفسها ولذلك فهي لاتهتم لأي نقد لتدريسها من أي زائر للصف، وهذا لايعكس الثقة بقدر ما يعكس الضعف النفسي وعدم القدرة على التعلم وتقبل النقد ومواجهة الذات، إذ يُنظر للنقد على أنه هجوم وانتقاص أكثر من كونه فرصة للتعلم، قد تقول إحداهن: ولكن هذا النقد غير منطقي، لكنها تغالط نفسها حين تفرح بالإشادة غير المنطقية أيضا، ومن عرف نفسه حق المعرفة، وأراد الخير لها حقا، أخذ الحق وترك الباطل بغض النظر عن كونه مدحا أو ذمّا، وبغض النظر عن الأسلوب أيضا، إن الإنسان الجاد في تطوير نفسه يدرك أن المشوار طويل، وأن التعلم الحقيقي يتطلب التواضع وخفض الجناح، ولذلك قيل “إن العلم ثلاثة أشبار: إذا تعلم الإنسان الشبر الأول تكبّر، ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثاني تواضع، ثم إذا تعلم الإنسان الشبر الثالث علم أنه لا يعلم شيئاً “، قد تعبر الثقة بالنفس أحيانا عن مكوث المرء في الشبر الأول !
نحن نصمّ آذاننا عن النقد بحجة الثقة بالنفس، ولك أن تتجول في حسابات بعض المشاهير، وترى مخالفتهم للشرع والعرف والذوق العام، ثم اختيارهم للمضي قُدُمًا وتجاهل انتقادات المتابعين ونصائحهم مهما كانت صحيحة، وتبرير ذلك باسم (الثقة بالنفس)، وقد يُتبع ذلك بحِيَل نفسية أخرى كوصف الذات بالشجرة المثمرة التي ترمى، ووصف الناقدين بالكلاب التي لايضرّ السحاب نباحها.. وهكذا، إن هذه الثقة المزعومة بالنفس غلافٌ لآفة عظيمة حذّرنا الله منها وهي: الكِبْر، حيث يمتنع المرء من قبول الحق استكبارا عنه، واستجابة لهوى النفس في كراهية الانصياع للآخرين، وما أثقل التعلم والتغيير في هذه الحالة.
إن الثقة بالنفس مفيدة في موضعها، لكنها ضارّة إن استخدمت بلا مبرر، لايمكن لإنسان عاقل أن يدّعي الثقة بالنفس في كل أمر، فهذه الثقة ينبغي أن تكون مبنية على مقوّمات حقيقية، فالثقة بالنفس لن تسعف مترهّلا للفوز بمسابقة رياضية، لكنها تفيد الرياضي المستعد في تخفيف توتره عند بدء المسابقة، يعتبر بعض المحاضرين أو المدربين الثقة بالنفس كافية لتقديم محاضرة أو دورة تدريبية، فيهمل الاستعداد الكافي متكئا على ثقته بنفسه، لكن سرعان ماينكشف ذلك للحضور وإن جاملوه، الثقة بالنفس مفيدة عند وجود ما يبررها، مفيدة لدفع التوتر الذي لاداعي له، لكنها لاتهَبُك شيئا لاتملكه، لاتثق بنفسك فيما لم تتمكن منه، اعترف بالقصور وتعلم حتى تكون ثقتك مستحقة، الثقة وحدها لاتفعل شيئا، بل قد تضرّ.
👍
إعجابإعجاب
جميل
(بل الإنسان على نفسه بصيرة)
إن أعلم الناس بنفسك هو أنت، حتى إن مدح الناسُ القبيح، أو استقبحوا الحسن.
قد يمدح الناس صلاحك، أو علمك …الخ
أو يذمون الصلاح الذي أنت عليه
إن وافقوا الحقيقة فخذ بها تَمسّكًا أو إصلاحًا
وإن كانت الاخرى فلا يضرك قولهم فأنت أدرى بنفسك وخباياها من غيرك
إعجابإعجاب
جمييل
إعجابإعجاب
صدقتِ يا ليلى أحسن الله إليك، ولنا في عمر -رضي الله عنه- أسوة حسنة عندما قال ( رحم الله امرء أهدى إليّ عيوبي )
إعجابإعجاب