السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في الصف الثالث من المرحلة المتوسطة، سألتنا إحدى المعلمات عن القسم الذي نود الالتحاق به في المرحلة الثانوية، وتنوعت الإجابات، إلا أن إجابة لإحدى زميلاتي لفتت انتباهي، فقد قالت: “أنا أفهم ولا أحفظ، لذلك سأختار القسم العلمي، فهم يقولون إن القسم العلمي لمن يفهم، والقسم الأدبي لمن يحفظ”
هذه الثنائية أحد أمثلة التفكير السطحي الذي يلجأ له الذهن الكسول الذي يزعم أنه يفهم ولايحفظ 🙂
الحفظ مهارة مظلومة في العصر الحديث، أصبحت عنوانا للسذاجة والبلاهة، أما الفهم فهو عنوان الألمعية والذكاء، ولا أدري كيف سيُصنّف الشافعي رحمه الله -وهو من أشد الناس حفظا- في نظر أصحاب هذا التفكير الحدّي: هل سيرمون به في مكب القسم الأدبي لأنه -والعياذ بالله- يتقن الحفظ ؟ الشافعي ياسادة أحد أذكى أذكياء الدنيا، اخترع أصعب علوم الشريعة: علم أصول الفقه الذي أجزم أن كثيرا ممن يدعون الفهم اليوم سيفغرون أفواههم استصعابا لمسائله العويصة التي تتطلب الفطنة والمنطق واللغة وترتيب التفكير !
هل جلس الشافعي يوما ليفكر في تصنيف نفسه هل هو من أهل الفهم أو الحفظ كما يفعل الناس اليوم؟ إنهم يتحدثون عن الفهم والحفظ كما يتحدثون عن تشجيع فرق كرة القدم، فكما أنه من المستحيل أن تكون هلاليا ونصراويا في الوقت نفسه، فإنه يستحيل أن تحفظ وتفهم في آنٍ معا، فاكشف هويتك بسرعة: هل أنت من أهل الفهم أم الحفظ؟ هل أنت من نخبة العلمي أم من رعاع الأدبي؟
شخصيا، لم أستسغ هذه الثنائية البائسة التي لازال الإيمان بها قائما إلى اليوم، فأنا بحمد الله أحفظ وأفهم، ولا أقف عند هذه المرحلة بل أتعداها للتحليل والتركيب والتقويم وغيرها من مهارات التفكير المعروفة في سلم بلوم، وكثيرون غيري أيضا يمتلكون هذه المهارات ولا يجدون مبررا للتعارض بينها، فلا أستطيع حفظ آية من كتاب الله إلا بعد فهمها، كما أنني لا أستطيع حل مسألة رياضيات إلا بعد حفظ قانونها تمهيدا لتطبيقه، ومادة النحو مثلا مادة أدبية لكنها تعتمد على فهم قواعد اللغة، وهكذا.
إلا أن تعليمنا في العالم العربي، قد تعرض لإضعاف وتشويه في العلوم الإنسانية أظنه السبب في الإساءة لمهارة الحفظ، وظهور هذه الثنائية ( الأدبي والحفظ والغباء، العلمي والفهم والذكاء)، لأن كثيرا من المعلمين يدرّسون مواد الدين والتاريخ والجغرافيا واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع والمواد التربوية بطريقة آلية تخلو من الفهم العميق للمحتوى، وربطه بواقع الحياة، وتوسيع مدارك الطالب وإثرائه بمراجع خارج المقرر، وهذا مايسميه باولو فريري (التعليم البنكي) أي التعليم الذي يلقّن فيه المعلمُ الطالبَ المعلومة، ثم يسترجعها منه وقت الاختبار دون تغيير، ودون أن يبقى منها شيء عند الطالب بعد الاختبار، تماما كما يفعل أحدنا حين يودع ماله في البنك.
العلوم الإنسانية (الأدبية) خطيرة في تشكيل وعي الأفراد والمجتمعات، وإحساسهم بهويتهم، فهي العقل المفكر للأمة كما يصفها د.بكار، أما العلوم التطبيقية (العلمية) فهي اليد الصانعة، القادة والمفكرون والفلاسفة والكتاب هم قادة الأمم، هم صُنّاع الثقافة، هم روح الشعوب، أما المخترعون والمهندسون والأطباء فهم المنفذون، هم صُنّاع الحضارة المادية التي تشكّل جسد الأمة، والتخصصان متكاملان، لكن الوضع في عالمنا العربي مقلوب، فالتخصصات الإنسانية يُرمى فيها ضعاف الطلبة، ويتجه المميزون للتخصصات التطبيقية، ثم نتعجب كيف تكون أمتنا تابعة ذليلة؟!
بدلا من قراءة محتوى العلوم الإنسانية بعمق، وفهمها ومناقشتها حتى تمتزج بروح الطالب وتشكل فكره ويمتلكها للأبد، ويبلغ من تشبعه بها حدّا يجعله يجيب عن أي سؤال فيها بطلاقة دون لجوء لحفظ ألفاظ غيره، نلجأ للتعليم البنكي، فإذا أضفنا لهذه المعضلة الضعف اللغوي الشديد عند الطلاب وعدم قدرتهم على الاسترسال في الكتابة عما يعرفونه بأسلوبهم هم، لجأوا لحفظ محتوى المقرر نصًّا وصبه في ورقة الاختبار، فيُساء بسبب هذا النوع من التعليم لمهارة الحفظ، ويتبرأ منها الجميع رغم شدة أهميتها في البناء العلمي للإنسان.
في الصف الثاني ثانوي، صُنّفت من قِبَل إدارة المدرسة ضمن طالبات القسم العلمي، نظرا لأن تقديري مرتفع ودرجاتي في المواد العلمية عالية، ولكنني لم أكن أريد القسم العلمي، المواد الأدبية تجذبني أكثر، أحب اللغة العربية بفروعها، وأتلذذ بدراسة البلاغة والنحو، ويأسرني التاريخ، وأحب التعرف على البلدان ودراسة الجغرافيا، ثم إنني أود الالتحاق بقسم اللغة الانجليزية وهو قسم أدبي، وقد اضطررت لإقناع إدارة المدرسة والإلحاح الشديد والإقرار بأنني أفضل القسم الأدبي على العلمي رغم تفوقي في المواد العلمية وسهولتها عندي، لكن ما العقلية الكامنة في أذهان المعلمات ليتصوّرن أن الأدبي قسم لايليق بطالبة متفوقة؟ أين كانت المدارس ستصنّف الرافعي وشوقي والطنطاوي والزيّات ومحمود شاكر وغيرهم من أعلام الأمة ومفكريها؟ هل لهم أي اهتمامات علمية؟ لاشك أن التخلف الحضاري الذي عانته الدول العربية ساهم في المغالاة في الاهتمام بالتخصصات التطبيقية وإهمال الإنسانية، لكنني لا أعرف أمة قوية تجعل الفكر واللغة والتاريخ تخصصا للبليدين من أبنائها!
الحفظ مهارة عظيمة لاغِنى عنها لطالب العلم: حفظ القرآن والسنة ونصوص الشعر وغيرها مما يثري العقل ويطلق اللسان ويثري الوجدان، لكنها مهارة تتطلب صبرا وجلدا لايستطيعه الجميع، ولايمكن لإنسان ادّعاء حفظ نص لايحفظه حقيقة، أما الفهم فادّعاؤه أسهل، لأنه لايتطلب تكرارا كالحفظ، ولايسهل كشفه، إذ يمكن لشخص بليد ضعيف الفهم أن يقول بكل جرأة: “أنا أفهم ولاأحفظ”، وقد عرفت عبر السنوات كيف أترجم هذه العبارة لمعناها الحقيقي: “أنا لا أستطيع المذاكرة، سأكتب أي شيء وأقول هذا فهمي”، واجهت أكثر من شخص خدعوا أنفسهم بهذه الثنائية، فلا هم فهموا، ولا حفظوا، ولاتوقفوا عن توارث هذه الأساطير جيلا بعد جيل.
رائعة بصراحة وأرجو أن يقرأها الطلاب والمعلمون بل وحتى الأهالي
إعجابإعجاب
رااائع جداً أبدعتي ومازال الطلاب يتوارثونها للأسف
إعجابإعجاب
أهلا أهلا أهلا بالغالية أمل❤️ شرفتِ المدونة
إعجابإعجاب
مررتُ بنفس الموقف
إعجابإعجاب
راااائعة جدًا.. هذا مما عم به البلاء للأسف..تذكرت اني لما تخرجت من الثانوية العامة القسم العلمي بنسبة مرتفعة كنت أتوق لدراسة تخصص اللغة العربية في الجامعة إلا أنني وجدت معارضة شديدة فلم أستطع دراسته!
على حد علمي انه في الإمارات تم دمج العلمي والأدبي تقريبا وأصبح الطالب يدرس كل المواد لكن تختلف نسبتها بين المسارين (العام والمتقدم) ففي المتقدم يتم التركيز على المواد العلمية بصورة أعمق.
وفي عمان نظامهم للمواد اختياري مثل نظام الجامعة وذلك وفقًا لميول الطالب والمهنة التي يريدها مستقبلاً..
إعجابإعجاب
فعلا، اللغات من المواد الإنسانية التي يلائمها القسم الأدبي، أذكر حين دراستي للأدب الانجليزي في الجامعة، كانت طالبات القسم العلمي يجدن صعوبة أحيانا في التحليل الأدبي للرواية أو المسرحية أو القصيدة التي ندرسها، أو يفوتهن فهم الاستعارات فيها metaphors أو الأوجه البلاغية
إعجابإعجاب
تخصصي Computer Science أحد تخصصات مجال الـSTEM، التخصصات التي يتحرك بها جسد الأمة لا روحها. والتي تُرى أنها تعتمد على الفهم، وانتقائية لدرجة كبيرة. وألاحظ استشراء هذه المقولة، لكنه قائم على عدم فهم الحفظ والفهم والفرق بينهما وأيهما يسبق ومتى. وفعلا قائلوا المقولة حفظوها بلا فهم ولا استنباط، وكرروها كالببغاوات. وألوم من جعل العلوم الإنسانية مقبرة، لصعوبة التمحيص فيها. وألوم التعليم العصري الذي فصل بين المجالين، ينتج من العلمي آلة بلا هدف، وأدبيا من برج عاجي.
إعجابإعجاب
أحسنتِ يانورة، أوافقك تماما!
يقولون: نحن نفهم ولانحفظ، وهم قد حفظوا هذه المقولة ورددوها بلا تمحيص!
سعيدة بتعليقك الثري 🌷
إعجابإعجاب
رائع ، ولو لي من الأمر شيء لأجبرت كل مربي وطالب ومعلم بقراءتها
إعجابإعجاب
جزيت خيرا ياغالية نفع الله بك
مقالاتك قيمة وعميقة الأثر
وفقك الرحمن وسددك ومن الخيرات أجزل لك وأثابك
إعجابإعجاب
آمين، آمين، وإياك 🌷
إعجابإعجاب
جميييل . اختنا. ليلى .
هنا . افكاركم. احلى
فزيدينا. بها. حتى
نضيف. لعقلنا. عقلا 🌸🌸
افادتني. واقنعتني. بقووة
إعجابإعجاب
حياك الله شاعرتنا وأستاذتنا 😍
إعجابإعجاب
آمين، وإياك 🌷
إعجابإعجاب
ما شاء الله أحسنت ليلى.. الترجمة الأخيرة لهذه المقولة هي حقيقة من يتبناها.. لا يخلو أي علم من فهم وحفظ.. فلا أحد يستطيع الحفظ بلا فهم فلسنا بآلات تسجيل.. ولا علم يفهم لا يسبق فهمه أساسيات وقوانين تحفظ.. أتعلمين؟ الخطأ في طريقة التعليم.. ففي الجامعة درسنا موادا تتطلب إبداعا في التفكير فذات المعضلة تحلها طالبتان بطريقتين مختلفتين تماما لأن من علمتنا -غفر الله لها- علمتنا هذه المادة مستخدمة كافة مهارات التفكير.. بينما درسها من بعدنا بطريقة جامدة على شكل (سلايدات) تحفظ وتسرد وقت الاختبار تماما كما هي بدون أن تبذل الطالبة أي جهد في التفكير ولو واجهت سؤالا لم يذكر في (السلايدات) لجزعت لأنه من خارج المنهج!!! هكذا أساؤوا للحفظ وجعلوا من يعمل به ويتعلم به محدود التفكير.. لأنهم استخدموه في غير محله..
إعجابإعجاب
أحسنتِ طرق التدريس والتقويم العقيمة هي السبب في هذه الثنائية البائسة، الحفظ والفهم مهمان، ولكل منهما مجاله، وقد بلغ الإيمان بهذه المقولة عند بعض الأذكياء أنه لايحاول حفظ القرآن ويعتقد أن مخه (الذكي) غير قادر على الحفظ!!
إعجابإعجاب
بالصدفة وقعت على هذه الصفحة. وعرض الموضوع بهذا الشكل فيه مغالطة وتسطيح لتوع واساس الخلاف بين قضية الحفظ والفهم الذي هو اختلاف حول الاولوية والأفضلية. بدأت الكاتبه بمثال مغلوط عن الشافعي ووصفته بالحافظ ونفت عنه الفهم كليا، وارجعت نبوغه لمجرد حفظه!! وكل من له ادنى معرفة بالشافعي انه من افهم وافقه الناس وشهرة الشافعي ليست من كونه حافظا ولكن من كونه فقيها عملاقا في فهمه فهو يعد في طبقة الفقهاء وليس الحفاظ فقط. وفهمه (لا حفظه) هو من ساعده في نبوغه وتأليف كتبه ومنها كتاب الرسالة الذي استنبط واستنتج علم أصول الفقه (الشخص الحافظ ليس بمقدوره عمل هذا الشيء). الحفظ في السابق كان له قيمة عملية وهي صعوبة الرجوع للمصادر وتوفرها اما في حال توفرها فيفقد الحفظ هذه الاهمية. والجدلية ببساطه هي هكذا شخص حافظ فاهم (الشافعي) وحافظ فقط (اغلب رواة الحديث) وفاهم فقط (الفقيه ابن أبى ليلى الأنصارى) من الأولى والافضل؟ لو تقدم لك موظف هل ستختار الحافظ الفاهم ام الحافظ فقط ام الفاهم؟ الاجابة المنطقية معروفة. وفي مجال التعليم لا خلاف أن الفهم مقدم على الحفظ وما الفائدة من ان نجعل الطالب نسخة منطوقة (مشوهة معظم الاحيان) من كتاب مدرسي مطبوع؟! والذي يوسع الادراك حول القضية هنا ان (الفهم) هو ملكة ومهارة كبرى تتضمن العديد من المهارات الفرعية كالاستيعاب والتحليل والاستنتاج والاستنباط وحل المشكلات …الخ ، بينما الحفظ يعتبر ملكة مفردة ومهارة صغرى. صحيح أن للحفظ مكانته ومجاله الذي انحصر بسبب توفر المصادر وسرعة الوصول لها، الا أنه لايزال حفظ مقاطع من القران والسنة له جوانب تعبدية معينة وحفظ مقاطع من الادب يحسن من لغة االشخص نطقا وكتابة لكن هذه الجوانب لا علاقة لها بالجدل الدائر حول هذه الافضلية بين الملكتين . وانتقاد الحفظ واعتباره سببا في ضعف التعليم ليس امرا جديدا بل تناوله ابن خلدون في مقدمته، بل وهناك الكثير من المقولات في التراث الاسلامي التي تنتصر للفهم وتعلي من شأنه على حساب الحفظ، ومنها “حفظ حرفين خير من سماع وقرين وفهم حرفين خير من حفظ سطرين”. هذا والله اعلم
إعجابإعجاب
أهلا بك، الحفظ والفهم عمليتان عقليتان لا تناقض بينهما، ووجود من يستعيض بالحفظ عن الفهم لا ينبغي أن يجعلنا نعتبر الحفظ عيبا، أما اعتبارهما عمليتان متناقضتان نضطر معهما لاختيار الأولى فهذا هو التسطيح الذي حاولت معالجته في هذا المقال وهو تسطيح منتشر جدا
إعجابإعجاب