يتميز الأدب الروسي باهتمامه بسبر أغوار النفس البشرية، وإثارته لتساؤلات حقيقية في نفس القارئ حول النفس والحياة والعلاقات، ومن القصص التي تلفت الانتباه فيه، قصة قصيرة كتبها أنطون تشيخوف عام 1889 بعنوان: “الرهان”، وهي قصة عميقة تجعلك تعيد التفكير في مسألة الوقت، وبماذا نقضيه؟
تبدأ القصة في حفلة أقامها مصرفيّ ثريّ ودعا لها المثقفين والوجهاء، ودار فيها النقاش حول أيهما أهون: عقوبة الإعدام، أم السجن المؤبد؟ وقد كان المصرفيّ مصرّا على أن الإعدام أهون لأنه ينهي حياة المحكوم في ثانية، أما السجن المؤبد فهو قتل بطيء وعذاب طويل، إلا أن محاميا شابا عارضه الرأي بشدة، قائلا إن السجن مهما طالت مدته أخف من الموت، فالحياة بحد ذاتها نعمة، وطال جدالهما ثم انتهى برهان تحدى فيه الصرفي الشاب بأن يسجنه خمس عشرة سنة، ويترك له حرية الخروج متى أراد، لكنه إن قضى المدة كلها فله مليوني روبل، تحمس المحامي الذي كان يبلغ الخامسة والعشرين وقبل التحدي، وكان المصرفي يستبعد استمرار المحامي في التحدي، فهو يرى قبوله له نزوة عابرة فحسب.
سجن المصرفي المحامي في كوخ داخل منزله، وأقام عليه حرسا، وبدأت رحلة السجن، احتار المحامي كيف يقضي هذه السنوات، خمسة عشر عاما، مئة وثمانون شهرًا، خمسة آلاف وأربعمئة وخمسة وسبعون يوما، أكثر من مئة وثلاثون ألف ساعة! كيف يمكنه أن يقضيها لوحده؟ في كوخ ذي غرفة واحدة وبلا أي اتصال مع البشر سوى ورقة يكتب فيها طلباته للسجّان.
يكمن جمال القصة في حيرة السجين في عشرات الآلاف من الساعات، والوقت الطويل الذي كان يمتد بلا نهاية، شعر في البداية بالملل، وصار يجرب العزف على الآلات الموسيقية، ثم وجد أمرا جليلا يقضي فيه وقته: القراءة والتعلم! قرأ في السنوات الأربع الأولى وحدها ستمائة كتاب، ثم تعلم أربع لغات عبر الكتب فقط، وظل يطلب الكتب بنهم ويقرأ بلا كلل، حتى مضت خمس عشرة سنة كاملة، ودخل السجين سن الأربعين، كان مكوثه في السجن بلاشكوى يثير استغراب المصرفي، ثم أثار قلقه حين اقترب الرهان من نهايته، وجاء موعد دفع المبلغ المتفق عليه، والمصرفي قد تغير حاله وأوشك على الإفلاس، وأضحى المبلغ الذي كان يرميه في رهان في الماضي، ثروة عظمى في عينيه اليوم ، صار يتمنى أن يخرج السجين من تلقاء نفسه فيخسر الرهان، أو أن يموت قبل إكمال المدة، إلا أن السجين غارق بين كتبه ومذكراته، فقرر المصرفي قبل يوم من اكتمال المدة أن يبعد الحرس، ويتسلل إلى الكوخ ويخنق السجين بهدوء، لئلا يضطر إلى دفع المبلغ الذي لايشك أن السجين ينتظر استلامه بفارغ الصبر، فقد أمضى في سبيل الحصول عليه خمسة عشر عاما!
المفاجأة الحقيقية هي أنه عندما دخل عليه وجده قد خرج قبل الموعد بساعات قليلة وخسر الرهان بمحض إرادته، وترك رسالة عميقة يوضح فيها لسجانخ أن ما اكتسبه من العلم والمعرفة في هذه السنين أعظم في عينه من المال، وأنه رغم سجنه في غرفة صغيرة كل هذه المدة، إلا أنه زار بلدان الأرض قاطبة، وجالس الحكماء والعلماء وعرف أخبار الأمم وتعلم لغات عدة، قرأ حتى عاش حيوات عديدة لم يشعر فيها بمضي الوقت، وبالتالي فهو يرى أنه تحرر من النظرة الضيقة للعالم، بينما لايزال سجانه مقيدا في حبه للمال، ولم يتغير تفكيره طيلة هذه المدة!
هذه القصة القصيرة تجعلك تعيد التفكير في مسألة الزمن، وبطئه أو سرعة انقضائه، فقد مضى سريعا دون جدوى على السجان، لكنه مضى بطيئا نافعا على السجين، وإني أتساءل: هل كثرة الخيارات والملهيات في حياتنا كأحرار هي التي تجعلنا نضيع الوقت ويتسرب بين أيدينا دون جدوى؟
نعم مع الأسف، كثرة الملهيات سرقت مننا أكثر مما أعطتنا مع الأسف.
تدوينة ممتعة شكرا لك.
إعجابإعجاب
عمق!
إعجابإعجاب