وردني سؤال في برنامج ask عن الثقافة والتعليم وهل هما متكاملان؟ ووعدت صاحبته بالإجابة لاحقا في مقال قد حان وقته.
لنتفق بداية على المقصود بكلمتي (الثقافة والتعليم) فالثقافة مصطلح له معنى اجتماعي مخصص ساقه تايلور في تعريفه الشهير بأنها ذلك الكل المعقد من المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع، فنقول ثقافة المجتمع السعودي، الثقافة الأوربية.. وهكذا، ولكن هذا المعنى ليس هو المقصود هنا، بل المقصود ذلك المعنى الشائع المتداول بين الناس وهو الثقافة بوصفها المعرفة المكتسبة غالبا من قراءة الكتب، والتي تظهر آثارها في مواقف الإنسان وحديثه وكتابته، أو كما يصفها البعض بأنها: الأخذ من كل فنٍّ بطرف، أما التعليم فأظن السائلة تقصد به التعليم النظامي، في المدارس والجامعات، والذي ينال المرء به شهادات علمية.
حسنًا، ما العلاقة بينهما؟ وما الفرق؟ سأتناول الموضوع من ثلاث نواحٍ:
- التعليم النظامي والتعلم الذاتي
- التخصص الدقيق والثقافة العامة
- هل تكفي الثقافة العامة وحدها؟
1- التعليم النظامي والتعلم الذاتي:
لعل الميزة الأساسية للتعليم النظامي هي أن له منهجية واضحة، سواء من حيث اختيار المحتوى، أو المدة المحددة، فقد يطول تثقيف المرء لنفسه بحسب ظروفه وهمّته، وقد يتشتت في دروب المعرفة، لكن التعليم النظامي غالبا يجبر على الإنجاز لأنك مرتبط فيه بمؤسسة رسمية رسمت لك الخطة سلفا من حيث محتواها ومدتها، ولاشك أن جودة التعليم النظامي تختلف من مؤسسة تعليمية لأخرى.
لكن التعليم النظامي، مهما بلغت قوته – وكلنا نعلم أنه إلى الضعف أقرب- لا يكفي لوحده، و أنا لا أزهّد الناس فيه، ولكنني شخصيا أزهد بمن يكتفي به، فالعلم الحقيقي أكبر من أن تتسع له أسوار المدارس والجامعات أو تحويه صفحات مقرراتها الدراسية.
هناك طريقٌ موازٍ لابد من أن نسلكه مع أبنائنا قبل دخولهم المدرسة، ونسلكه مع أنفسنا حين نصل لسنٍّ نتحمل فيه المسؤولية، وهو طريق التعلم والتثقيف الذاتي، إذ لايصح ولايليق أن تكون علاقة الطالب بالكتب مقتصرة على المقررات الدراسية والجامعية، أو أن يكون أستاذه أو جامعته مصدر المعرفة الوحيد له، لأنه مهما كان متفوقا في دراسته، مؤديا لما يُطلب منه، فسيظل قاصرا مادام مكتفيا بما يُطعمه أساتذته، طالب العلم الحقيقي لديه جوع معرفي لايمكن للمؤسسة التعليمية النظامية إشباعه لوحدها، لديه نَهَمٌ وشغف حقيقيين، يدفعانه لالتهام كتب لم يفرضها عليه إلا سعيه الجاد للمعرفة، وللتعلم من أناس لم يلزمه بالتعلم منهم إلا إحساسه العميق بأنه يستحق الأفضل.
هذا النوع من الطلاب هو الذي ينتج ويتفوق تفوقا نوعيا، لا أعني ذلك التفوق الذي يُعبّر عنه بالدرجات والشهادات فقط، لكنه العمق المعرفي الذي تظهر آثاره في معرفته ووجدانه وسلوكه ومهاراته العالية، وهذا العمق يتطلب ثقافة عالية لا تعليما نظاميا فحسب، ولعل هذا هو الفرق الجوهري بين طلاب العلم وطلاب الدرجات والشهادات، هذا هو الفرق الذي يجعلنا نرى شخصين يحملان ذات الدرجة العلمية وبينهما بونُ شاسع في العلم والتفكير.
2- التخصص الدقيق والثقافة العامة:
يكتفي البعض منا بالانهماك في تخصصه الدقيق، ويهمل الثقافة العامة، باعتبار أن التخصص هو المهم، وبقناعة مفادها أن الانهماك الزائد في التخصص والانقطاع عن العلوم الأخرى سيزيده براعة في تخصصه، ويكتفي آخرون بالتنقل كالفراشات بين علم وآخر دون التخصص في علم بعينه، وكلا المسارين خاطيء، وإن كنت سأنتقد الأول فقط لأن انتشاره أكبر وخطؤه أخفى، لأن المرء يحتاج للأمرين معا: الثقافة العامة، والتخصص الدقيق، فالثقافة العامة تعطيه رؤية بانورامية للحياة من الأعلى، والتخصص الدقيق يهبه نظرة ثاقبة لجزء من هذه الحياة، فإذا اكتفى بهذا النظر الجزئي، فاتته النظرة العامة، وضاق أُفقه، فصار كالأعمى الذي أبصر مرة فرأى أذن فيل، فطفق يصف كل شيء في الحياة من خلال أذن الفيل لأنه لايعرف غيرها ! وهذا في الحقيقة حال من يغرق في تخصصه ويهمل الثقافة العامة إذ تراه بالغ الجهل في غير تخصصه، ومغاليا في أهمية هذا التخصص لأنه لا يعرف سواه فيحتقر العلوم الأخرى، والمرء عدو مايجهل، أما من يثقف نفسه خارج تخصصه فنظرته أوسع، وتعصبه لتخصصه أقل لأنه يعلم أن لكل علم أهميته، فضلا عن استفادته من ثقافته العامة في إثراء تخصصه الدقيق فهو يطعّمه بما لديه من العلوم الأخرى، سواء بمحتواها أو منهجيتها، ولذلك تتصاعد أهمية الدراسات البينيّة حاليا، وهي الدراسات التي تتقاطع فيها التخصصات.
3- هل تكفي الثقافة العامة وحدها؟
قد يظن القارئ الذي وصل إلى هذا السطر أنني أتعصب للثقافة العامة، وهذا غير صحيح، فالتعليم المنهجي هو الأساس، نظاميا كان أو في المساجد ومسالك التعليم المختلفة، لأن الثقافة العامة قد تنزلق بصاحبها للفوضى المعرفية أو المنهجية، ولعل أكبر مثال على هذا هو العقاد، فرغم ما يمتدحه به المثقفون من أنه لم يكمل تعليمه الابتدائي وبلغ مابلغ من الثقافة، إلا أن ثقافته لم تكفِه، فقد ظهر تخبطه المنهجي في كتاباته وخاصة العبقريات، ولعلي أخص بالتعليم المنهجي هنا: علوم الشريعة، ومنهجية البحث العلمي، فلا غنى عنهما أبدا، ونحن نرى اليوم التخبط المعرفي الذي قد يصل للإلحاد جراء البعد عنهما والاكتفاء بالثقافة لمجرد الثقافة.
وزبدة الكلام يارفيقتي أن التعليم والثقافة متكاملان ولا يغني أحدهما عن الآخر.